8-نساء يُضْرب بهن المثل في حُسْن التبعل (3)
هند بنت أبي أمية أم سلمة رضي الله عنها :
لا نريد أن نتكلم عن هذه المرأة العظيمة بصفتها من المهاجرات الأوائل للحبشة وللمدينة، ولا بصفتها راوية للحديث الذي غطى أحداث المشاكل التي وقعت للمسلمين بالحبشة، ولا بصفتها أمّاً للمومنين.. فذلك مما يعرفه الخاص والعام من المسلمين والمسلمات.
ولكننا نريد أن نتكلم عنها من الجهة التي تُهِمُّنا وهي جهة التبعُّل، لنعرف قيمتها ومكانتها في نفس من عاشرها زوجة صالحة كاملة يصدق عليها حديث الرسول : >الدُّنْيا متَاعٌ وخَيْرُ مَتَاعِها المرْأَةُ الصّالحَةُ<.
هي من حيث النسب بنتُ أبي أمية بن المغيرة المخزومي الذي كان يُلقَّب “بِزَادِ الرَّاكِب” لأنه كان إذا سافر لا يتركُ أحداً يرافقُه ومعه زاد، بل يكفي رفقته من الزاد!! فهي إذن سليلة النسب والحسب، وسليلة الجود والكرم.
أمّا من حيث الجمال الحسي والمعنوي، فقد كانت أم سلمة موصوفة بالجمال البارع، والعقل البالغ، والرأي الصائب، وإشارتها على النبي يوم الحديبيّة تدل على وفور عقلها، وصواب رأيها.
وأما جمالها النسوي الحسي فتكفينا فيها شهادة عائشة رضي الله عنها، فقد أخرج ابن سعد من طريق عُروة عن عائشة قالت : >لما تزوج رسول الله أم سلمة، حزِنْتُ حُزْنا شديداً لما ذُكر لنا من جمالها، فتَلَطَّفْتُ حتى رأيتُها، فرأيْتُ والله أضْعافَ ما وُصِفَتْ، فذكرتُ ذلك لحفصَة، فقالت : ما هي كما يُقال. قالتْ عائشة : فرأيتُها بعد ذلك، فكانتْ كما قالت حفصة، ولكني كنْتُ غَيْرى<(1).
فهي إذن كانت جميلة جدّاً سواء فوق مستوى الوصف الذي وُصف لعائشة رضي الله عنها أول مرة، أو سواء في مستوى النظرة الثانية بعد استقرار الوضع والرضا بها ضيفة جديدة لنساء الرسول ، فالعبرة بالنظرة الأولى المُبهرة.
لا نريد أن نتكلم عن حسن تبعلها وعشرتها للرسول فذلك شيء لا يمكن أن يكون إلا في مستوى امرأة اختارها الله تعالى لتكون أمّاً للمومنين بامتياز وتمايُز خاص كما تميزت كل أمهات المومنين.
أما الموقف الذي نريد إبرازه فهو موقفها مع زوجها الأول : أبي سلمة. أخرج ابن سعد بسنده قال : قالت أم سلمة لأبي سلمة : >بلغني أنه ليس امرأة يموت زوجها وهو من أهل الجنة، ثم لم تتزوج بعده إلا جمع الله بينهما في الجنة، وكذا إذا ماتت امرأة وبقي الرجل بعدها، قالت : أعاهدك ألا أتزوج بعدك، ولا تتزوج بعدي<.
قال أبو سلمة : أتُطِيعِيننِي؟! قالت : >مَا اسْتَأمَرْتُك إلاّ وأنَا أُريدُ أن أُطِيعَك<.
قال أبو سلمة : >فإِذَا مِتُّ فَتَزَوَّجِي<.
ثم قال أبو سلمة -وهو في حالة مرض الوفاة طبعاً- : >اللَّهُمّ ارْزُقْ أمَّ سَلمَةَ بَعْدِي رَجُلاً خَيْراً مِنِّي، لا يُخْزِيهَا، ولا يُؤْذِيها<. دُعاء يلخِّصُ بإيجاز مكانة أمِّ سلمة في قَلْب أبي سلمة، ويلخص نوع العلاقة التباعُليّة التي كانت تربط بينهما، فمن المستحيل أن يكون الزوج المشرف على الفراق يتمنى لزوجته من يكرمُها ويُعزُّها ويعرف قيمتها، وهو كان يعاملها بالنقيض؟! إذن فأمُّ سلمة كانت في سويداء قلب أبي سلمة لا يُحِبَّ -كما يقال- أن تؤذيها هَبَّةُ ريح(2).
أما مكانة أبي سلمة في قلب أم سلمة فتعبِّر عنها هذه القصة التي وردت في الصحيح.
عن أم سلمة قالت : إن أبا سلمة قال : قال رسول الله : >إِذَا أصَابَ أحدَكُمْ مصيبةٌ فلْيَقُلْ : إنَّا للِّهِ وإنَّا إلَيْهِ راجِعُون، اللّهُمّ عِنْدَكَ أحْتَسِبُ مُصِيبَتِي، وأجِرْنِي فِيها، وأبْدِلْنِي خَيْراً مِنْها< قالت أم سلمة : >وأردت أن أقول : وأبْدِلْنِي خَيْراً مِنْها، فقلتُ : من هو خَيْرٌ من أبِي سلمة<؟! فمازِلْتُ حتى قُلْتُها.
أخرج النسائي في سننه أن أبا بكر خطبها فلمتتزوجْه، فبعث النبي يخطبها عليه، فقالت -متهرِّبةً ألاَّ تكُون في مستوى رسول الله – : >إنِّي امْرَأَةٌ غَيْرَى، وإِنِّي امْرَأةٌ مُصْبِيَةٌ -عندها أولاد- ولَيْسَ أحدٌ منْ أوْلِيائِي شَاهِداً<؟! فقال لمن جاء يخبرُه برَدِّها : >قُلْ لَهَا : أمّا قوْلُكِ غَيْرى فَسأَدْعُو اللَّهَ فَتَذْهَبُ غَيْرَتُكِ، وأما قوْلُكِ : إنِّي امْرأةٌ مُصْبِيَةٌ فَسَتُكْفَيْنَ صِبْيَانكِ، وأمّا قوْلُكِ : لَيْسَ أحدٌ مِنْ أوْلِيَائِي شَاهِداً، فلَيْسَ أحدٌ منْ أوْلِيَائِكِ شَاهدٌ أو غائِبٌ يَكْرَهُ ذلك..<(3).
امرأةٌ مجبولة تصْنَعُ مثلاً فِي البُطُولَةِ لمَنْ يُريدُونَهَا صَانِعةً للذَّةِ البطْنِ والفَرْج :
ولى أمير المومنين عثمان بن عفان ] حبيب بن مسلمة الفهري قيادة جيش من المسلمين لتأديب الروم، وكانوا قد تحرشوا بالمسلمين، وكانت زوجة حبيب جندية ضِمْنَ هذا الجيش، وقبل أن تبدأ المعركة أخذ حبيب يتفقد جيشه، وإذا بزوجته تسألُ هذا السؤال : أيْنَ ألْقَاكَ إِذَا حَمِيَ الوَطِيسُ ومَاجت الصُّفُوفُ؟!
فأجابها قائلا : تجِدِينَنِي فِي خَيْمةِ قَائِدِ الرُّومِ أوْ فِي الجَنَّةِ.
وحمي وطيس المعركة، وقاتل حبيب ومن معه ببسالة منقطعة النظير، ونصرهم الله على الروم، وأسرع حبيب إلى خيمة قائد الروم ينتظر زوجته.
وعندما وصل إلى باب الخيمة وجد عجبا، لقد وجد زوجته قد سبقتْه، ودخلتْ خيمة قائد الروم قبله!!(4).
قصة فوق التعقيب والتعليق، وامرأةُ فوق التقدير والإعجاب، فأيْن هِمَّة أمثال هذه المرأة، وأين هِمّة أمثال إناثنا المتعلقات بالمساحيق والأصباغ والأثواب وصناعة المشاكل في البيوت والمحاكم والمحافل والجمعيات للانتصار على الذكور؟!
وأحْسَنُ ما قيل في مثل هذا النوع قول الشاعر :
ولوْ كَانَت النِّسَاءُ كمِثْلِ هَذِي
لَفُضِّلَتِ النِّسَاءُ على الرِّجَالِ
وأحْسَنُما يقال للذكُور العُمْي قول الشاعر:
أَتَرَى الشُّوكَ فِي الوُرُودِ وتَعْمَى
أنْ تَرَى فَوَّقَهُ النَّدَى إكْلِيلاً
القاضي شريح يتزوج امرأة فقيهة في التعامل الأسري :
جاء في كتاب >أحكام القرآن لابن العربي< قصة قصيرة لزوجة القاضي شريح، ولكنها -على قصرها- مليئة بالعبر والدلالات.
قال الشعبي : إن شريحا تزوج امرأة من بني تميم، يقال لها زينب. قال شريح : فلما تزوجتُها ندِمت، حتى أردتُ أن أرسل إليها بطلاقها. ولكني قلتُ : لا أعْجَل حتى يجاء بها، فلما جيئ بها تشهّدت(5)، ثم قالت :
أما بعد، فقد نزلنا منزلا، لا ندري متى نظْعَنُ منه(6)، فانظر الذي تكره(7) هل تكره زيارة الأخْتان؟!(8) فقلت : أما بعد(9) : فإني شيخ كبير، لا أكره المرافقة، وإني لأكْره ملال الأخْتان.
قال شريح : فما شرطتُ شيئا إلا وَفَتْ به.
قال : فأقامَتْ سنةَ، ثم جِئْتُ يوماً ومعها في الحَجَلَة(10) إنْسٌ، فقلت : “لا إله إلا الله إنا لله”.
فقالت : يا أبا أميَّة، إنها أمِّي، فسلِّمْ عليها. ثم قالت ْ : انْظُرْ، فإنْ رَابَك شيء منها، فأوْجِعْ رَأْسَها.
قال شريح : فصحبتْني -على ما أحب وأرضى- ثم ماتتْ قبْلي. قال : فودِدتُ أنِّي قاسمتها عُمري، أو مِتُّ أنا وهِي في يوم واحد.
هذا ما عُرف عن هذه المعاشرة التي ترجَمَتْ محبَّتها كلمات قليلة، إلا أن أحْسَنَ ما قاله شريح في حق هذه المرأة التي كانت في قمة حُسْن التبعُّل هو هذا البيت الشعري المُشْعِر بمقدار سعادته مع زينب :
رَأَيْتُ رِجَالاً يَضْرِبُون نِسَاءَهُم
فَشُلَّتْ يَمِينِي يومَ أضْرِبُ زَيْنَبَا
إنّهُ الاعتراف الصريح بأن اللئيمة هي التي تُلجئ زوجها إلى الخصام والضرب والطلاق والفتنة والقتل أحيانا(11).
المجاهدة النادمة أم حكيم بنت الحارث
امرأة لها مكانة النسب، وشرف المحتد، فهي بنت الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وهو أخو أبي جهل لأبويه معاً. أسلم عام الفتح وحسُن إسلامه، فكان من النادمين المجاهدين الذين أرادوا أن يكفِّرُوا عما مضى من غفلتهم ومحاربتهم للإسلام، فاستشهد يوم اليرموك شهيداً.
وابْنَتُه هذه “أم حكيم” كانت زوجة لعكرمة بن أبي جهل أي ابن عمّها. أسلمتْ يوم الفتح و طلَبتْ الأمان لزوجها عِكرمة، حيث كان رسول الله أهدر دمه، فذهبت وراءه لليمن، وأتتْ به وأسلْم إسلاماً خالصاً، إسلام النادمين، فعاهد الله ورسوله أن يضاعف العمل والإنفاق والجهاد لعَل الله عز وجل يكفر عنه ما فعله ضد الإسلام، فاستشهد يوم اليرموك مع عمِّه وصهره الحارث بن هشام.
وكما كان أبوها رضي الله عنها نادما، وكذلك كان زوجها نادماً، فقد كانت أم حكيم كذلك من النساء اللواتي دخلن في الإسلام بالكليّة، وأردْن أن يُدْركْن شيئا من أهل السابقة في الإسلام، فلم تجزع لاستشهاد أبيها، وزوجها بل ذلك اعتبرتْه نوعاً من الشرفأهداه الله عز وجل للأسرة الكريمة التي عرفت الحق فآمنت به، وقدّمتْ أعزَّ ماتملك في سبيله.
وإذا كانت أم حكيم تصاحب زوجها في محاربة الإسلام، فقد أصبحت تصاحبه في نصرة الإسلام، حيث خرجت معه إلى غزوه باليرموك، وعندما استشهد زوجها ] تزوجها خالد بن سعيد بن العاص.
ولكن قبل أن يدخل بها كانت موقعةُ ‘مَرْجِ الصُّفْر عند دمشِق” فأراد أن يدخل بها، فقالت له : >لَوْ تَأخَّرْتَ حتَّى يَهْزِم اللّهُ هَذِه الجُمُوعَ<؟! فقال : “إنّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنِّي أُقْتَلُ” قالت : >فَدُونَكَ< فأعرس بها عند القنطرة التي سمِّيت باسمها، فقيل لها : “قنطَرةُ أم حكيم” ثم أصبح فأوْلَم عليها، فما فرغوا من الطعام حتى وافتهم الروم، ووقع القتال، فاستشهد خالد.
أما العروسة “أم حكيم” فشدتْ عليها ثيابها، وتبَدَّتْ للناس مجاهدة وإن عليها أثر الخَلُوق -الطيب والعطر- فاقتتلوا على النهر، فقتلت أم حكيميومئذ سبعة من الروم بعمود الفسطاط الذي أعْرس بها خالد فيه.
فمن رفع همتها إلى هذه المنزلة الرفيعة بعدما كانت غارقة في غفلة الوهْم الحسبي والنسبي والجاهلي؟! إنه الإسلام الذي جعلها تفرح بشهادة أبيها وزوجها الأول والثاني، وتغامِرُ هي بنفسها لإدراك مرتبة الشهداء. إنه الإسلام الذي صنع الرجل والمرأة الرافعين الهمة إلى السماء.وفي ارتفاع الهمة تعالٍ عن مطالب الأرض وصلاحٌ للأسرة، وجلب للسكينة والطمانينية(12).
جوهرة الختام : نعيمة خطاب، أمّ أسامة زوجة القاضي حسن الهضيبي والمرشد العام للإخوان المسلمين بعد حسن البنا رحمهما الله تعالى
قال الأستاذ عبد الحكيم عابدين في مجلة الشهاب البيروتية 1974 :
>ما استفاد المومنُ بعدَ تقوى الله عز وجل خيراً من زوجَةٍ صالحةٍ، إذا نظر إليها سرّتْه، وإذا أمَرَها أطاعتْه، وإذا غَابَ عنْها حفِظَتْه في نفْسِها ومَالِه< حديث شريف.
هذا ما وصفبه نبي الرحمة الزوجة الصالحة، وهذا ما قسم لها عليه السلام من أثر بالغ في سعادة الزوج، وما أحسِبُني -والله- رأيتُ أنموذَجَ هذه الزوجة النبوية قبل أن أعرف “أم أسامة’(13).
وسأجْتَزِئ بومضات من سيرتها الحافلة بالنضارة والإشراق التي تضمنها الحديث النبوي الشريف، وهي :
1) التفنّن في إدخال السرور على الزوج :
والذي لفت نظري إلى هذه الناحية شقيقتي البدوية القروية البريئة، فقد صحبتني لعلاجها، واستضافنا آل الهضيبي بالاسكندرية، ولم يسمحوا لنا بمغادرة دارهم إلا للعلاج -مع العلم أننا عندنا أهل ودار بالاسكندرية- ولما انقضت مآربنا وعُدتُ بشقيقتي أقبلَتْ عليَّ تسائلني -في القطار- بلغتها العامية، ما معناه : >يا أخي، يا ابن أمِّي وأبي : من أيِّ طِينةٍ امْرَأةُ الهُضَيْبِي هذه؟! أهِيَ مِن طِينَةِ الملائِكَة؟! ليْسَ فِيها من طَبَائِعِ النساءِ والبَشَرِ شَيْءُ قَطُّ؟!<.
ولم يا أختِي؟! وما وجه هذا السؤال؟!
يا أخي أخذني العجب من سلوكها نحو زوجها : ففي الأيام التي قضيتُها معها بحضوره، تبالِغُ في التحبُّب إليه، وإدخال السرور على قلبه، فلا تلقاه في الضحى بثياب الصُّبْح، ولا في العَصْر بثياب الظهر. وإذا وَدَّعَتْه حين يخرج في الأصيل تجهَّزتْ بثياب أجْمَل حين تستقبله في المساء، ولا تخلو في كل ذلك من التزيّن له بما يناسب أهل الكمال والوقار. أضِفْ إلى ذلك أنها تتأهَّب لتوديعه حين يخرج، وتتأهب لاستقباله حين يرجع، بأعْذَبِ ما يصنع عروسان متوافقان في الأيام الأولى من الزواج.
والأعجب من ذلك أنه منذ سافر عنها الهضيبي لم تُبدِّل الثوب الذي ودّعَتْه به طوال هذه الأيام، ولم تقربْ الماء العادي إلا للوضوء والصلاة.
2) الطموح العلمي في خدمة الوفاق :
لقد أثار الأسلوب المثالي في معاملة الزوج -من سيدة في حدود الخمسين- فضولي لمعرفة كيف كانت تعامل الأستاذ أيام الشباب، فأقبلت على الأستاذ أسأله : يا فضيلة المرشد، هذا مبلغ حفاوة أهلك بك وأنتما على أبواب الشيخوخة، فقُل لي -بأبي أنت وأمي- كيف كانت لك في مطالع الشباب؟! فقدْ أكَلَتْ قُلُوبَنَا الغَيْرَةُ منْ هذا التَّدْلِيلِ؟!
ابتدرني -مازحاً- >عَيْنُ الحَسُودِ فِيها عُودٌ<، ثم قال : اعلم أننا شارفنا الأربعين عاما من حياتنا الزوجية لمْ يتَكَدَّر صَفْوُ الوِفَاقِ بيْنَنا أرْبَعِين ثَانِيةً مِنْها والحمد لله.
قُلتُ : ولكن في طبعك إصرارٌ و”حَنْبَلِيَّةٌ” لا تصبر عليها النساء؟؟
فأجاب : لقد صبرتْ راضيةً قريرة العين، والفضلُ لها بعد الله.
ثم استطرد -رحمه الله- يستشْهد على مسارعتها فيما يُرضيه، ويرفع رأسه :
أقول لك : إنها تعلمتْ الفرنسية إجادة وإتقانا -وهي أم لأربعة أولاد- لمجرد أنها رأت صديقتَها زوجةَ وكيل الدولة الذي كان يعمل معي في احدى المحاكم تُتْقِن الفرنسية، فأكْبَرَتْ أن تكون لزوجة وكيل الدولة قدرة على التحدث بلغة لا تعرفها، وهي زوجة القاضي الذي يعلو في المرتبة على وكيل الدولة. فاستأجَرَتْ مُدَرِّسة، فما مَرْت بضعة أشهر حتى صارتْ تتحَدَّث معي الفرنسية إذا دَعَتْ الحال كما يتحدّث إليّ زملائي في القضاء.
أبعْد ذلك غايَةٌ من عُلُوّ الهِمّة، وكِبَرِ النفس، في سبيل إسعاد الزوج، وإشعاره بالمشاركة الحقيقية في تأمين أسباب الوفاق؟! إدخالاً للسرور على قلبه، ومُقَاسَمَةً له في حَمْل الأعباء والتبعات؟!
3) رعاية نشاط الأخوات المسلمات :
لما كُلف الأستاذ الهضيبي بمنصب الإرشاد سارعَت الأخوات كذلك إلى حَرَم المرشد الجديد يسألنها تقلُّدَ الزمام في قيادة الأخوات لما كان معروفا عنها من رجاحة العقل، وسعة الثقافة وأصالة الإيمان سيْراً على خطى الرائدات الأوليات : زينب الغزالي، وفاطمة البدري، والأستاذة آمال العشماوي، وأمينة الجوهري، وحميدة وأمينة قطب وغيرهن كثير.
فقامت بالدور خير قيام بتعاون مع السابقات من أخواتها، فاشتد الإقبال على قسم النساء المسلمات ولاسيما بين طوائف المثقفات من المعلِّمات، والجامعيات، وذوات المناصب الرفيعة في بعض الوزارات، وقد ظهر أثر هذه التربية في تحمُّل الكثير منهن ألم السجون والمعتقلات، وخصوصا بناتها اللواتي تحملن مع أمِّهن الفُضْلَى من مِحَن السجْن والتشريد والاعتقال مالا يتحَمَّله حتى من يُسَمُّون أنفسهم رجالا.
4) الورع عن شبه الاستفادة من مال الدعوة وأجهزتها :
استقل الأستاذ الهضيبي الطائرة سنة 1954 للسعودية وبعض بلاد الشام، فسألني سائق سيارة المرشد ماذا يصنع بالسيارة بعد سفر المرشد، فقلت له : ضَعْها تحت تصَرُّف السيدة عقيلته، فامتنعتْ امتناعا كليا عن استعمالها، حتى بعد أن كلمتُها في الهاتف محاولاً إقناعها باستخدامها في التحرك لرعاية نشاط الأخوات. ولكن الدّاعية الحصيفةالواعية كانتْ أمْنع من أن يستدْرِجَها هذا المبرِّرُ الجديد، قائلة -بكل صرامة- >إنَّ السّيّارة مُخَصَّصَةٌ للمُرْشِد العامِّ بصِفَتِه، لا لِحَسن الهضَيبِي بِشَخْصِهِ<.
5) بشاشة الإيمان في أتُون البلاء :
إليك ثلاثة مواقف :
أ- مع زوجة الوزير : تحت وطأة البلاء تُبرز مَعْدِن السيدة الفاضلة :
< لقد كان أحد الإخوان يتحامل على المرشد الجديد تحت ستار المبالغة في الثناء على الشهيد حسن البنا، ولكنه عندما زارهو وزوجته “روحية” زوجة الهضيبي انقلبَ رأساً على عقب، عندما حكت له زوجته تعامُلَ زوجة الهضيبي وبناتها معها، وموقفهن جميعا من زوجة الوزير.
فقد جاءت زوجة الوزير مواسية لزوجة الهضيبي، ومطمئنة لها على سِجْن حسن الهضيبي، حيث قالت لها : يا ست “أم أسامة” هوِّني عليك >فَحَسَن بَكّْ< بخير، وقد أرسلني زوجي لأحْمِل تحياتِه إليك، وإلى البنات -الذكور كانوا في المعتقلات- ولأُطمْئنَكِ بأنه مستمرٌّ في بذل أقصى الجهود حتى لا يُصاب في نفسه بأذًى.
فقالت أم أسامة : شكراً لكِ وللوزير، ولكن مَنْ أخْبَره أننا في قَلَقٍ حتَّى ينْصحَنَا بالاطمئنان ويبشرنا بسلامة الأستاذ؟!
زوجة الوزير : أعني أن الجهود مبذولة لمنع محاكمته أمام محكمة الثورة، وما وراءها من مصير.
أم أسامة : أتريدين تذكيري والبنات بأن الأحكام تصْدُرُ قبل المحاكمة؟! وأن المصير هو الحكم بالإعدام؟!ثم قالت :
يا سعدية هانم، >اسمعي مشْكُورةً، وبلِّغِي السّيد الوزير أنّ حَسن الهضيْبي ما تَوَلَّى القِيادَة إلاّ وهُو يعْلَم أنّ سَلَفَهُ العظِيمَ حسَن البَنّا قدْ اغْتِيل وأُهْدِر دَمُهُ عَلَناً، وما رَضِيَ الهُضيبي خِلاَفَتَهُ إلاّ وهو ينْتَظِر هَذَا المَصِير، وقدْ بَاع اللهَ نَفْسَهُ، وبِعْناهُ سُبْحانه أنْفُسَنَا مَعَهُ، فَلَنْ يَرَانا أحدٌ -إذَا كان هذا قَدَر الله تعالى- إلاَّ نَماذِجَ سَكِينةٍ واطْمِئنَانٍ، سُعدَاءَ بأن نَحْتَسِب عَمِيدَنا عنْد الله، وأوْفَرُ سَعَادةٍ أن نلْحَقَ بِهِ شُهَدَاءَ<.
ثم التفتت السيدة أم أسامة إلى بناتها لتقول : هذا ما عندي فماذا عندَكُنّ يا بنات؟!
فصاحت : عُلَيّة، وخالدة، وسعاد : >لَيْسَ عِنْدَنَا إلاَّ ما عِنْدَكِ يَا أُمّاهُ!!<.
وهنا لهذا الموقف قالت “روحية” التي حضرتْ هذا المشهد لزَوْجِها الذي قد كان جاء معها لزيارة المواساة التقليدية إبراءً للذمة فقط، قالت -في الطريق- لزوجها : >هَكَذَا يَجِبُ أن يَكُونَ المُرْشِدُ، وكذلِك ينْبَغِي أن تَكُون زوْجَتُه وأوْلادُه<.
ب- رسالتها إلى ملك عربي توسَّط في تخفيف الحكم :
لسنا في حاجة إلى ذكر الأسماء لأن المهم هو الرسالة : >يا جلالة الملك، إننا إذ نشكُرُ كريمَ عاطِفتكم نؤكّد لك : أننا على عَهْد الدْعوة، وميثاق الجهاد، وسواءٌ استُشْهد الهضيبي أو طالتْ به حياة، فلن تقِفَ عَجَلةُ الصراع، لأنه في الواقع ليس صراعاً بين الهُضَيبي وفلان والثورة، ولكنهُ الصراع الأزليّ بين الهُدى والضلال، بين جند الله وحزب الشيطان، وسيظلُّ لواءُ الدّعوة مرفوعاً، وعمَلُها موصولا، ولو ذَهَبَ في سَبِيلِه آلاف الشهداءِ من رجالٍ ونساء، حتى تعلو كلمة الله، ليُحق اللّه الحقَّ ويُبْطِل الباطل ولو كره المجرمون<.
جـ- الصبر على المحنة وراء القضبان : وقدّر الله تعالى للسيدة الفضلى أن تصيب قسطها المباشر من البلاء فاقتيدت للسجن، وألقي بها في زنزانة مظلمة تتيح لها الانفراد بالمولى سبحانه وتعالى مناجاة وتضرعا بعد أن وهَنَ منها العظم، وهجمت عليها الأمراض، وبعد أن ابتلى كل أفراد عائلتها من فلذات الكبد، ومع ذلك لم تتجَهََمْ، ولم تبتئِسْ، ولم تجزَعْ، ولم تَخَفْ، ولمْ تَلِنْ، بل بقيتْ مثال الرزانة، والصبر والرضا بقدر الله تعالى، حتى لكأن الله تعالى سقاها من رحمته سحابَةً تظلِّلُ كل المكْتوِيات بنار المحنة لتُسْعِفَهُنّ بقوة الصبر والتحمل.
وفي مثل “أمّ أسامة” يصدق قول المتنبي :
لوْ كَانَ النساءُ كَمَنْ عَرَفْنا
لَفُضِّلتِ النِّسَاءُ على الرِّجَالِ
فَما التّأنيثُ لاسْمِ الشمسِ عَيْبٌ
ولا التذْكِيرُ فَخْرٌ للْهِلاَلِ(14).
——-
1- الطبقات الكبرى لابن سعد 94/8 انظر موسوعة عظماء حول الرسول 1950/3 -1951.
2- الموسوعة نفس الجزء والصفحة.
3- موسوعة عظماء حول الرسول 2132/3 -2134.
4- انظر أسعد امرأة في العالم لـ”د. عائض القرني” ص 102.
5- أي صلت صلاة الشكر، ثم حمدت الله وأثنَتْ عليه، وصلت على نبيّه ليكون اللقاء مباركاً موثقا بميثاق الله تعالى، فهي إذن تعرف آداب الزواج، وكيف تكون بدايته العبادية في فراش الزوجية.
6- نرحل.
7- تكره : تكره في كل شيء : أكلا وشربا، ونوماً، وخروجاً من الدار أو عدم خروج… فهي تطلب منه دستوراً أسريا تسير عليهلأن الله عز وجل جعل بيده القوامة.
8- الأختان : أقارب الزوجة والزوج، ولكنها هي تريد أقاربها هي.
9- أما بعد : أي خُطبته التي يوضح فيها برنامجه الزوجي، وهذا معناه أنهما يريدان الارتباط على خطوط واضحة.
10- بيت النوم بالثياب والأسِرّة والسُّتور.
11- أحكام القرآن 417/1.
12- انظر موسوعة عظماء حول الرسول 2119/3.
13- توفيت سنة 1976م.
14- من كتاب الأخوات وبناء الأسرة القرآنية بتصرف من ص 496 – 508.
ذ.المفضل فلواتي