ختم ظاهرة الوحي بالرسالة المحمدية


إننا نحن المسلمين مع إيماننا بتحقق وحي الله تعالى إلى جميع أنبيائِه ورسلِه عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى التسليم، فإننا نعْتقِد في نفس الوقتِ أن الوحي الملزِم للإنسانية منذُ نُزوله إلى يوم القيّامة هو الوحي المحمّدي -قرآنا وسنةً نبوية- وذلك ما لهذه القضية من مُقتضياتٍ وما قام عليها من أدلَّة.. كما يتجلّى لنا في هذا المقال من خلال المبحثين التاليين :

المبحث الأول :

قطعيةُ تحقق النبوّة المحمديّة

< من المعجزات المحمدية :  لما كان سيدنا محمد  قد اختاره الله تعالى ليكون خاتم الأنبياء، ورسولاً إلى الإنسانية جمعاء فقد أيده سبحانه بنوعين من المعجزات :

> أولا : معجزة القرآن الكريم :

فقد تحدى النبي  به قومه النابغين في فنون القول بلاغة وفصاحة وبيانا… أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه فعجزوا، والذي تكفل بحفظه على الدوام، ليبقى معجزة خالدة لسيدنا محمد  حيث يستطيع طالب الحق في كل زمان ومكان أن يلتمس إعجازَه فيدركه من ناحية ما له من اهتمامات أدبية أو فكرية أو عِلمية.. فيدركَ ربانيةَ مصدرِه ويعترفَ بنبوّة من أنزل عليه ويصبح من جملةِ المستجيبين لدعوته والمنضوين تحت لواءِ دينه.

> ثانيا : معجزات كونية :

وقد ورد بعضها في القرآن الكريم.. وذلك مثل انشقاق القمر بإشارة من يده، والإسراء به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى والعروج به إلى السماوات العلى… كما تضافرت على نقل بعضها الآخر صحاح كتب السنة والسيرة، وذلك مثل إبرائه لعيني على كرم الله وجهه ببصقة من فمه. ورده لعين قتادة ] بغمزة من راحتِه، ونبعِ الماء من بين أصابعه.. إلى غير ذلك من المعجزات الحسية.

> أ-  من القرآن الكريم :

فمن المعجزات الكونية التي ذكرها القرآن الكريم لسيدنا محمد  :

1) حادث انشقاق القمر الذي قال فيه الحق سبحانه : {اقتربت الساعة وانشق القمر، وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سِحر مستمر، وكذّبوا واتّبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر}(القمر : 1، 3) وروى البخاري ومسلم عن أنس ] أن أهل مكة سألوا رسول الله  أن يُريهم آيةً، فأراَهُم انشقاق القمر شقتين حتى رأوا حِرَاءَ بينهما. وروى البخاري عن ابن مسعود ] قال : >انشق القمر في عهد رسول الله  فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه فقال عليه الصلاة والسلام اشهدوا<(1).

قال الأستاذ سعيد حوى : “وكفى ذكره في القرآن الكريم حتى يحكم بتواتره فالآياتُ واضحة فيه ولا يمكن  تفسيرها بغيره، ولذلك أجمع المفسّرون وأهل السنة على وقوعِه كما قال القاضي عياضٌ والسبّكي وغيرهم.. وذكر الحافظ المُزي عن ابن تيمية أن بعض المسافرين ذكر أنه وجد في بلاد الهند بناء قديماً مكتوباً عليه : “بُنِي ليلة انشقاق القَمر”(2).

2) حادثا الإسراء والمعراج حيث قال تعالى في الأولى : {سبحان الذي أسرىبعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركْنا حوْله لنريه من آياتنا إنّه هو السّميع البصير}(الإسراء : 1) وقال في الثاني : {والنّجْم إذا هوَى ما ضلَّ صاحبكم وما غوى وما ينطِقُ عن الهوى إن هو إلا وحْيٌ يوحى علّمه شديدُ القُوَى ذُو مرَّةٍ، فاسْتوى وهُو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلَّى فكان قابَ قوْسين أو أدْنَى فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى أفتُمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلةً أخرى عند سِدرة المُنْتهَى عندها جنّة المأوى إذ يَغْشى السّدرة ما يغْشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربّه الكبرى}(النجم : 1- 18).

أما تفاصيل الحادثتين فقد عدّ الإمام القسْطلاني في “المواهب اللّدنية ستة وعشرين صحابياً وصحابية رووْا حادثي الإسراء والمعراج بألفاظ مختلفة مما يجعلُهما متواترين تواتراً معنويا(3).

3) حادث إمداد المؤمنين في غزوة بدر بألْف من الملائكة مؤازرة لهم والذي يقول فيه الحقّ سبحانه : {إذْ تسْتغِيثون ربّكم فاستجابَ لَكُم أنّي ممدّكم بألفٍ من الملائكة مردفين، وما جعله الله إلا بشْرَى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند اللّه إن الله عزيز حكيم(4)}(الأنفال : 9).

> ب-  من السنة النبوية :

- ومن المعجزات الكونية التي روتها صحاح كتب السنة لسيدنا محمد  :

1) تكثير الماء والطعام، ومن الروايات الدالة على ذلك : ما أخرجه البخاري عن مسور بن مخزمة ] (أن رسول الله  نزل بالحديبية على ثمد قليل الماء فتربضه الناس تربّضا، فلمْ يلْبث الناس حتى نزحُوه، وشكِي لرسول الله  العطشُ، فانتزع سهْما من كنانَتِه ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فو الله ما زال يجيش لهم بالرّي حتى صدروا عنه، وكانوا بضع عشرة مائة من أصحابه).

2) إبراؤه  لبعض الأمراض، ومن الروايات الدالة على ذلك : ما أخرجه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنهما(أنّ رسول الله  قال يوم حُنَيْن : لأعْطِيَنْ هذه الراية غداً رجلاً يفتحُ الله على يديْه، فلمّا أصبح قال : أين عليّ بن أبي طالب؟ قالوا : يشْتكي عينه، قال : فأرْسِلُوا إليه، فأتِي به، فبصق رسول الله  في عينيه ودعا له فبرأَ حتّى كأن لم يكُن به وجع). وفي معناه ما أخرجه البيهقي وغيره عن قتادة بن النعمان ] أصيبتْ عينُه يوم بدر، فسالت حدقَتُه على وجنته فأرادوا أن يقطعوها فسألوا رسول الله  فقال : لا، فدعا به فغمَز حدقته براحتِه فكان لا يدري أي عينَيْه أُصيبَتْ).

3) إطلاع الله له  على بعض المغيّبات، ومن الروايات الدالة على ذلك :

ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة ] قال : (لما فُتِحت خيبر أُهديت لرسول الله  شاةٌ فيها سُمٌّ -أهدتها له زينب بنت الحارث- فقال  : >اجْمَعُوا لِي من ها هُنا من اليهود، فجُمِعُوا له.. فقال لهم النبي  : هلْ أنْتُمْ صادِقِي عن شيء إن سألتُكُمعنه؟ قالوا : نعم، قال : هل جعلتُم في هذه الشاة سمّا؟ قالوا : نعم، قال : فما حملكُم على ذلك؟ قالوا : أردْنا إن كُنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كُنْت صادقاً لم يضُرّك).

< قطعية دلالة المعجزات على تحقيق النبوة المحمدية : ولا يخْفى أن تِلْكم المعجزات تدلّ على تحقّق النبوة المحمديّة دلالة قطعيةً وخاصةً أمام ما يحُفُّ بها من مُلاحظات كثيرة، منْها:

1) أن تلك المعجزات الكونية قد ثبت نقل الكثير منها بالتواتر عن جلة الصحابة وأخرجتها صحاحُ كُتب السنة والسيرة النبوية بل ورد ذكر البعض منها في القرآن الكريم ذاتِه.. ممّا يُفيد القطع بحصولها كما سبق أن أثبتنا كل ذلك.

2) أن في صياغة بعض أحاديث تلك المعجزات ما يدل على أن النبي  جعلها دليلا وحجة على نبوته، كما في رواية البخاري ومسلم لحادث انشقاق القمر، ورواية البخاري وغيره لحادث شهادة عذق النخلة له  بالنبوة..

3) أنه أمام ثبوتالمعجزات الكونية للنبي  قطعيا -كما سبق- في نصوصٍ شرعية فإنه لا مندوحة لنا من تأويل النصوص الشرعية الدّالة بظاهِرها على قصر تلك المعجزات على القرآن الكريم تأويلاً يجْمع بينَها جميعاً.

لكل ما سبق فإننا نرى أن الإيمان بجميع المعجزات التي وصل إلينا خبرها بالنقل المتواتر -طبق الشروط المعروفة للرواية- ضرورةٌ علميةٌ قبل أن تكون ضرورة دينية.. ولا معنى لحصر المعجزات المحمدية في القرآن الكريم كما فعل بعض مُفسّري مدرسة المنار السلفية(5).

المبحث الثاني :

مقتضيات وأدلة كون الرسالة المحمدية الخاتمة للوحي وتمثلها في القرآن الكريم والسنة النبوية

أولا : مقتضيات ختم ظاهرة الوحي بالرسالة المحمدية :

أما مقتضيات كون الوحي المحمدي هو الملزم للإنسانية فيمكن إجمالها في النقط التالية :

1) إن الله تعالى قد صحح به سائر ما كان يتخبط فيه الإنسان من ضلال العقيدة والعبادة والسلوك حتى إنه قال -خطابا لمحمد – {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه}(المائدة : 48).

2) إنه لم يوح به إلى سيدنا محمد  إلا بعد أن استكملت الإنسانية في مجموعها -لا في جميعها- رشدها النسبي مصداقا لقوله تعالى في شأن الأمة المحمدية  {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرسول عليكم شهيدا}(البقرة) والمراد بالوسط هنا  الخيار كما وقع التصريح بذلك في قوله تعالى : {كنتم خير أمة أخرجت للناس}(آل عمران : 110).

3) إنه قد تضمن في كلياته وجزئياته ما يجعله صالحا لكل زمان ومكان باجتهاد العلماء في إطار استنباط الأحكام الشرعية لكل الحوادث المستجدة مصداقا لقوله تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}(النساء : 83).

4) إن الله تعالى قد تكفل بحفظه بصفة مستمرة فقال تعالى : {إنا نحن نزّلنا الذّكروإنا له لحافظون}(الحجر : 9) والمراد بالذكر هنا الوحي كتابا وسنة.

ثانيا : أدلة كون الرسالة المحمدية هي الخاتمة لظاهرة الوحي :

ولقد تضافرت آيات قرآنية كريمة وأحاديث نبوية شريفة على كون الوحي المحمدي هو الوحي الملزم للإنسانية إلى يوم القيامة.

فمن الآيات القرآنية الدالة على ذلك قوله تعالى : {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيئين وكان الله بكل شيء عليما}(الأحزاب : 40).

وقوله تعالى : {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمِين نذيرا}(الفرقان :1).

وقوله تعالى : {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم}(الجمعة: 2- 3).

ومن الأحاديث النبوية الدالة على ذلك :

- ما أخرجه الإمام مسلم وغيره أن النبي  قال : >أعطيت خمسا لم يُعْطَهُنَّ نبي قبلي : كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة<.

والخلاصة هي أن الله تعالى قد لاحق الإنسانية بوحيه بواسطة مختلف رسله عليهم السلام إلى أن ختمه بالوحي المحمدي -كتابا وسنة- الذي صحح سائر الانحرافات التي ألحقها البشر بوحي الله السابق والذي تضمن ما يجعله صالحا لكل زمان ومكان باجتهاد العلماء في إطار نصوصه التي تكفل الله بحفظها… فكان لكل ذلك هو الوحي الملزم للإنسانية إلى يوم القيامة، وصدق الله العظيم القائل في محكم التنزيل -خطابا لخاتم أنبيائه ورسله الكرام، عليهم جميعا أفضل الصلاة وأزكى التسليم {إنا أوحيا إليك كما أوحينا إلى ابراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبوالأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما، رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما، لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا}(النساء : 163- 166).

——

(ü) قدم في الندوة التي نظمها المجلس العلمي المحلي بفاس يوم 13 ربيع الأول 1426 بمناسبة الملود النبوي الشريف.

1- انظر أحاديث أخرى واردة في ذلك في “مختصر تفسير ابن كثير” ج 3 ص 408 وما بعدها وفي تيسير الوصول ج 4 ص 250 وما بعدها.

2- “الرسول ” ج 2 ص 94 ففيه روايات مختلفة للحادثين ومناقشة علمية.

3-  انظر “مختصر تفسير ابن كثير” 88/4.

4- انظر ويايات في ذلك في “مختصر تفسير ابن كثير” 88/4 وما بعدها.

5- انظر “وقفات مع مدرسة المنار في تفسير القرآن الكريم” بحث للكاتب.

د.محمد يعقوبي خبيزة

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>