توبة العباد قبل يوم الـمعاد


في تعريف التوبة

التوبة هي الرجوع إلى الطاعة بعد معصية أو ذنب وتوبة الله على  العبد رجوعه من حال المعصية إلى حال الطاعة، وقسم الله تعالى الناس قسمين تائب وظالم فقال : {ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} فهو سبحانه التواب الرحيم لكثرة قبوله توبة عباده الذين يتوبون إليه. وهو المنفرد  بخلق كل شيء وليس لأحد القدرة على خلق التوبة أو أن يقبلها سواه، قال العلماء : وقد كفرت اليهود والنصارى بهذا الأصل العظيم في الدين وجعلوا لمن أذنب أن يأتي الحبر أو الراهب فيعطيه شيئا ويحط عنه ذنوبه، قال تعالى : {قد ضلوا وما كانوا مهتدين} (الأنعام : 140).

والحق سبحانه صادق في وعده، وهو يقبل التوبة عن العصاة من  عباده بدليل قوله : {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات}(الشورى: 25)، وكذلك: {ألم يعلموا أن الله هو الذي يقبل التوبة عن عباده}(التوبة : 104) وهو فضل الله ورحمته بعباده. قال رسول الله  لمعاذ : “أتدري ما حق العباد على الله؟ قال : الله ورسوله أعلم. قال : “أن يدخلهم الجنة” وهذا دليل قوله تعالى : {كتب على نفسه الرحمة}(الأنعام : 12) أي وعد بها فضلا منه وكرما، وأخبر سبحانه أنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم الإنابة والتوبة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال، قال رسول الله  : “لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده أن رحمتي تغلب غضبي”. أي تسبقه وتزيد عليه.

شروط التوبة

شروط التوبة أربعة هي : الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع عن الذنب في الحال، والعزم على عدم العودة إلى مثلها وأن يكون ذلك حياء من الله عز وجل لا من سواه، فإذا اختل أحد هذه الشروط لم تصح التوبة، وتقبل إذا أحس العبد بثلاث : الخوف من أن لا تقبل، الرجاء في أن تقبل، والإدمان والإكثار من الطاعات. والإصرار علىالتوبة هو العزم بالقلب عليها وترك الذنب والاقلاع عنه والباعث على هذه التوبة هو إعمال الفكر في كتاب الله وما وعد به المطيعين من عباده، وما توعد به العاصين حتى يقوى الخوف من العقاب ورجاء الثواب. يقول تعالى : {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله} (آل عمران : 135) قيل إن سبب نزولها أن ثقفيا خرج في غزاة وخلف صاحبا له أنصاريا على أهله، فخانه فيها بأن اقتحم عليها فدافعت عن نفسها فقبل يدها، فندم على ذلك وخرج يسيح في الأرض نادما تائبا فجاء الثقفي فأخبرته زوجته بفعل صاحبه، فخرج في طلبه فأتى  به إلى أبي بكر وعمر رجاء أن يجد عندهما فرجا  فوبخاه، فأتى النبي  وأخبره بفعله، فنزلت هذه الآية وهي تدل على عظيم فائدة الاعتراف بالذنب والاستغفار منه. قال  : “إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه” أخرجه البخاري ومسلم. وقال أيضا : “ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له. ثم تلا هذه الآية”. أخرجه الترمذي، فكل معصية تعالج بالاستغفار والتوبة منها خاصة إذا تلاها الخوف من عقاب الله والحياء منه ومن سؤاله يوم القيامة. فالاستغفار عظيم وثوابه أعظم وقد روى الترمذي عن النبي  أنه قال : “من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفر له وإن كان قد فر من الزحف” وعن أبي هريرة قال : “ما رأيت أكثر استغفارا من رسول الله ؛ وقد كان  يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ولأن الإنسان لا يخلو من السهو أو التقصير في أداء حق الله تعالى، كان من الأفضل ألا يترك التوبة في كل حال لحاجته إليها، وقد خاطب الله سبحانه وتعالى جيل الصحابة فجعل التوبة واجبة على كل من عمل ذنبا وفرض على المؤمنين بقوله : {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون} (النور :31).

والله يتوب على المؤمنين ليثبتوا على التوبة، وفي هذا قول الحق سبحانه : {ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله  هو التواب الرحيم} (التوبة : 118) قال أبو زيد : “غلطت في أربعة أشياء : في الابتداء مع الله تعالى، ظننت أني أحبه فإذا هو أحبني قال تعالى : {يحبهم ويحبونه} وظننت أني أرضى  عنه فإذا هو قد رضي عني، قال تعالى: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} وظننت أني أذكره فإذا هو يذكرني، قال تعالى : {ولذكر الله أكبر} وظننت أني أتوب إليه فإذا هو تاب علي، قال تعالى : {ثم تاب عليهم ليتوبوا}.

علاماتها

أما علامات التوبة فهي : الإحساس بقلة النوم في قوله : {تتجافى جنوبهم عن المضاجع}، وأيضا : {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون}(الذاريات : 17) وهؤلاء هم المستغفرون بالأسحار المصلون السائلون المغفرة.

كثرة لوم النفس ومعاتبتها : {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم} (الزمر : 53).

ثم إظهار الذل بين يدي الله عز وجل طلبا وابتغاء رحمته ومغفرته.

وأخيرا شعور المرء بالغربة عن فعل الذنب بعد تذوق حلاوة التوبة، والإقبال على طاعة الله وفعل الخيارت فيكره أن يعود إلى المعصية باعتبارها نجاسة  >إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل< أي أنه سبحانه هو الذي يعرض على عباده ويبسط يده، وقال أيضا : “التائب  من الذنب كمن لا ذنب له”، وهي نعمة يتفضل الله بها على عباده ويمن بعفوه عمن أذنب بقبول توبته : {غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب} (غافر : 3) فإذا صحت توبة العبد كان كرم الله عز وجل بأن يضع مكان كل سيئة حسنة، وقد قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ : “أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن”. وقال رجل من كندة يكنى بأبي طويل : “يا رسول الله أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئا، وهو في ذلك لم يترك حاجَّة ولا داجَّة إلا اقتطعها فهل له من توبة؟ قال : “هل أسلمت؟” قال : أنا أشهد أن لإله إلا الله لا شريك له وأشهد أنك عبد الله ورسوله. قال: “نعم، تفعل الخيرات وتترك السيئات يجعلهن الله كلهن حسنات” قال : وغدراتي وفجراتي يا نبي الله؟ قال : نعم”. قال : الله أكبر فما زال يكررها حتى توارى .” وقال تعالى  : {ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا} (الفرقان : 71) ذلك أن من تاب وعمل صالحا فحقق توبته بالأعمال الصالحة هو الذي تاب حق التوبة وهي النصوح إذ أن الذي يتوب بلسانه ولم يحقق ذلك بفعله، فليست تلك التوبة نافعة. {ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار…} (التحريم: 8) فالتوبة النصوح، كما ذكر العلماء، هي التي لا عودة بعدها كما لا يعود اللبن إلى الضرع؛ وهي النصوح أي الصادقة الناصحة أو الخالصة كأن يبغض المرء الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره. قال الجنيد : التوبة النصوح هي أن ينسى  المرء الذنب فلا يذكره أبدا، لأن من صحت توبته صار محبا لله ومن أحب الله نسي ما دونه.

ولا يخلو الذنب من أن يكون حقا لله أو الناس، فحق الله كترك الصلاة أو الصوم أو الزكاة. التوبة هنا لا تصح منه حتى يقضي ما عليه من صيام وزكاة، أما الصلاة فيعوض عنها إلى جانب الشعور الشديد بالندم بالإكثار من النوافل وقيام الليل وهذا هو قول جمهور العلماء. أما إن كان الذنب حق للعباد فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه في أقرب وقت ودون تأخير وطلب العفو والمغفرة ممن أصابه ضرر أو أذى  من شتم أو ضرب ونحو ذلك، فلم يزل يتذلل له حتى  تطيب نفس المتضرر فيعفو؛ وكل معصية هي بجهالة والتوبة على قرب عهد من الذنب من غير إصرار والمبادرة أفضل وذلك قبل المرض أو الموت. قال محمود الوراق :

قدم لنفسك توبة مرجوة

قبل الممات وقبل حبس الألسن

بادر بها غلق النفوس فإنها

ذخر وغنم للمتيب المحسن

وبين الله تعالى إن التوبة لا تصح عند الموت كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء فلم ينفعه إظهار الإيمان بالله، والتوبة عندئذ أصبحت دون جدوى, وقد روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي   قال : “إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر” وروى  صالح عن الحسن قال : “من عير أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله به”، وقال الحسن أيضا : “إن إبليس لما هبط قال : بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده. قال الله تعالى : “فبعزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم تغرغر نفسه” وهذا يوافق ما رواه الترمذي كما تقدم. أما الكفار يموتون على كفرهم فلا توبة لهم في الآخرة، وقد أشار الله إليهم بقوله : {أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما} (النساء : 18)

قال ابن عباس أن رجلا من الأنصار يدعى الحارث بن سويد أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم ندم، فأرسل إلى  قومه : سلوا لي رسول الله هل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى  رسول الله    فقالوا : هل له من توبة؟ فنزلت : {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم} إلى قوله : {إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم}. فأرسل إليه فأسلم. أخرجه النسائي، وفي حديث أبي هريرة] عن النبي    فيما يحكي عن ربه عز وجل قال : “أذنب عبد فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال إي رب اغفر لي ذنبي. فذكر مثله مرتين وفي آخره قال عز وجل : اعمل ما شئت فقد غفرت لك” أخرجه مسلم. وقال أبو هريرة قال رسول الله   :”والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم”. وهذه فائدة الاستغفار بذكر أسماء الله الحسنى الغفار التواب.

قال الشاعر :

أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه

إن الجحود جحود الذنب ذنبان

جاء أعرابي إلى النبي فقال : يا رسول الله أذنبت ذنبا فماذا يفعل الله بي؟ قال : “يكتب عليك”. قال أرأيت إن تبت؟ قال : “يمحي”. قال أرأيت إن عدت؟ قال : “يكتب” . قال أرايت إن تبت؟ قال : “يمحي”. فقال الرجل : حتى متى  يمحي؟ فقال النبي : “إن الله لا يمل من المغفرة حتى تملوا أنتم من الاستغفار”.

حين عصى آدم ربه بدأ ينظر أين يختبئ فقال الله : أفرارا مني يا آدم؟ قال : بل حياء منك يا رب. ثم قال له : اهبط منها. فيبكي أدم بكاء شديدا على معصيته ربه، رغم أنه تاب وقبل الله توبته. يحكي ابن القيم في “زاد المعاد” بلسان الحال فيقول رب العزة : “يا آدم إذا عصمتك وعصمت بنيك من المعصية فعلى من أتوب برحمتي ومغفرتي وجودي وعفوي؟ يا آدم كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك، أما الآن فتدخل علي دخول العبيد على الملوك وذلك أحب إلينا. يا آدم ذنب تتذلل به إلينا أحب إلينا من طاعة ترائي بها علينا. يا آدم أنين المذنبين أحب إلينا من تسبيح المرائين..”.

ومن أكثر صور التوبة تجسيدا لصدق صاحبها وآثار رحمة الله عز وجل وكرمه على بني اسرائيل كانت في عهد موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام  حيث بدأ المطر يقل والزرع يموت ويتعرض بنو اسرائيل إلى مجاعة شديدة فقالوا ياموسى ادع الله أن ينزل المطر، فأخذ يدعو : يا رب المطر يا رب المطر ويصلي صلاة الاستسقاء لكن المطر لا ينزل ويدعو من جديد : يا رب المطر يا رب المطر والمطر لا ينزل. فقال موسى  : يا رب، عودتني الإجابة فلم ينزل المطر فقال الله تبارك وتعالى : يا موسى  لن ينزل المطر فبينكم عبد يعصاني منذ أربعين سنة، فبشؤم معصيته منعتم  المطر من السماء. قال موسى : يا رب فماذا نفعل؟ قال : اخرجوه من بينكم ولن ينزل المطر حتى يخرج. فوقف موسى يقول : يا بني اسرائيل بينكم عبد يعصى  الله منذ  أربعين سنة ولن ينزل المطر حتى يخرج. وكان العبد يعرف نفسه فالتفت يمينا وشمالا لعل أحدا غيره يخرج فلم يفعل أحد، وهو لم يتب منذ أربعين سنة ولو مرة واحدة فبدأ يقول : يا رب أنا اليوم إن خرجت فضحت وإن بقيت متنا من العطش فماذا أفعل؟ يا رب، لا أجد في هذه الليلة إلا أن أتوب إليك وأعاهدك على أن لا أعود فاسترني، استرني، واغفرلي؛ فنزل المطر من السماء. فقال موسى : يا رب لم يخرج أحد ونزل المطر قال : يا موسى نزل المطر لفرحتي بتوبة عبدي الذي يعصاني منذ أربعين سنة، فقال موسى : يا رب دلني عليه لأفرح به فقال : يا موسى يعصاني أربعين سنة فأستره أو حين يتوب إلى أفضحه؟

تؤكد هذه القصة أن التوبة تجب ما قبلها، وإن تأخر الإنسان في إعلان توبته ووافته المنية، ولكل أجل كتاب؛ فذهب للقاء ربه وهو غير مستعد لهذا اللقاء وليست له من هناك عودة ولا يملك توبة ولا يوجد يومئذ من يرحمه وكل ما حوله يهلكه ويعذبه، يتذكر كل أمرئ ذلك اليوم الذي يقف فيه بين يدي ربه، يتذكر يوم الحساب وأهوال يوم القيامة حين يقف الناس حفاة عراة جائعين عطشى لا يموتون بسبب ذلك فيرتاحوا بل يظلوا واقفين والشمس تقترب والحر يزداد والعرق والذنوب تحيط بكل واحد، منهم من يصل العرق إلى قدميه أو ركبتينه أو صرته أو عينيه ومنهم من يغرق في عرقه كل حسب ذنوبه، في حين ترى  آخرين يجتمعون على حوض النبي   ماؤه أبيض من الثلج وأحلى  من العسل.

إن ضمة القبر قاسية، وملائكة العذاب سود الوجوه سود الثياب لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. فهل لنا من وقفة في الدنيا لنقول يا رب تبرأنا من الذنوب والمعاصي؟ إن الله سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا وقت السحر فينادي : هل من تائب لأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من طالب حاجة فأقضيها لها؟ إن رب العزة هو الذي يبحث عنا، فحري بنا نحن العباد أن نسارع إليه بتوبة قبل يوم الميعاد.

وفاء .م مكزاري

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>