<
الشَّعْبُ الحَيُّ هو الذي تظهَرُ عليه أمارات الحياة. وأماراتُ الحياة هي السعيُ الحثيثُ وَفْقَ هدفٍ مَرْسُوم لتحسين الأوضاع الحياتية عبر الانتقال من مرحلة الجمود والطفولة العبثية إلى مرحلة التدرُّج وسُيُوبة المراهقة التحكمية أو السياسية، فإلى مرحلة الإدراك والتدبُّر الشبابي، ثم إلى مرحلة الاكتهال واكتمال الوعي والنضج الفكري الذي يقوم بدور الحراسة النظرية والتطبيقية لعملية التجديد لكل الخلايا الاجتماعية المشرفة على الهلاك، حتى تبقى للأمة أو الشعوب صلابتها ومتانتها المستعصيتان على الفناء والإفناء.
فالفرد عندما يموت تتجدَّدُ خلاياه في أنسالِهِ، والشعب عندما يُشرف على الهلاك والفناء تتجدَّدُ خلاياه في أنسِجَة المؤسسات السياسية والاجتماعية والعلمية والاقتصادية التي تملأها أجيالٌ بعقليات متجددة، وعبقريات مشرقة، وطموحات كبيرة سامية، تسعى بكل همة وجدية لتحقيق الأهداف الكبرى التي عجزت عن تحقيقها الأجيال السابقة… وهكذا تجد الشعوب الحيَّة تنتقل من مرحلة الضعف والتخلف إلى مرحلة التقدُّم، ثم إلى مرحلة الازدهار، ثم إلى مرحلة الإشراق والاكتساح والعطاء الحضاري العميم.
ولا يمكن أن يتحقَّق هذا إلا بدَفْعِ الانسان الفرد، والانسان المجتمع المتكامل إلى حُرِّيَّة الإِبْدَاع، وحرية التفكير، وحرية التأسيس، وحرية الجَهْر بالنقْد، وحرية التَّنْبِيه بالصوْتِ العالي المسموع إلى الأخطار المحدقة با لأفراد والمجتمع من جَرَّاء مُنكر الافسادِ للعقول والأعراض، ومن جَرَّاء منكر المحسوبية والزبونية المتغذية من عناصر الأنانية، والمصلحة الشخصية الضيقة. ومن جَرَّاء مُنكر الاحتكار للحكم، والأحزاب، والمناصب، ومؤسسات الاقتصاد والنفوذ….
فبدون حرّية عاقلة راشدة مُتفلِّتَةٍ من الوصاية والأوصياء لا يُنتَظَرُ من الشعوب أن تتجدَّدَ وتتقدَّم مهما ادَّعَتْ وتفاصَحَتْ وتفنَّنَتْ في تعديد الأبواق، وتصنيع الأزلام، وتغيير وسائل التزييف والخداع، فالحق حقٌّ، والباطلُ باطلٌ مهما تزَيَّنَ واكتسى بالمظاهر الجوفاء التي سرعان ما تنكشف وتفتضح، ويُصبحُ المُبطلون مثل النساء للواتي قال فيهن رسول الله “كاسيات عاريات” أي هُمْ مكسوُّون مظهراً، عُرَاةٌ مَخْبَراً.
فما نصيبُ شعوبِ أمتنا من هذه الحرية الدافعة إلى التغيير والإبداع؟.
من الإنصاف للحقِّ والضمير والتاريخ والأجيال أن نقول : إن أمتَنَا لم تُصَب بالجمود الذي يشبه الموت، وبالذل الذي يُشبه الخِزْيَ أمام الشعوب المتحركة… إلا بسبَبِ فَرْضِ القَهْر والمصادرة للحرية التي وهَبها الله تعالى للإنسان حتى في اختيار الكفر أو الإيمان.
أمةٌ ذات رسالة، وذات مرجعية، وذات تشريع، وذات أخلاق، وذات تاريخ، وذات مؤهلات وثروات وإمكانات مادية ومعنوية، وذات روابط وأواصر، ومع ذلك تعيش ممزَّقة، مهانة، متخلفة في كل المجالات، خانعة للاستعمار العسكري، والفكري، والحضاري،والسياسي، والعلمي، والغذائي، والتعليمي؟!… فما مصدر هذه الكارثة، التي تجعل الشعوب لا تحفِل بخطبة رئيس، ولا بتنصيب حكومة، ولا باستقالة أو إقالةِ أو مَوْتِ ظالم جثم على الصدور زمانا؟ ولا تحفل بانعقاد تجمُّع لرؤساء العرب، أو لرؤساء الدول الإسلامية، أو لرؤساء التجمعات القطرية؟؟.
فما مَصْدَرُ هذا العزوف الذي يُشبه اليأس المُميت؟ مصدره : انعدام الحرية. وهَلْ هناك أدْهى من أن تخرُج شعوب الدنيا على اختلاف قاراتها للتظاهر احتجاجا على احتلال العراق بدون وجه حق، وشعوب الأمة التي هي المعنيَّة بالحدث في الدرجة الأولى لا تقدر أن تحرك ساكنا؟ لأنها مشلولة الإرادة؟ مشلولة الحركة؟؟.
وهَلْ هناك أدْهى من الطعن في دين الأمة الرسمي بالصوت العالي، وبالوقاحة التي كان يستحيي منها أبو جهل وأبو لهب، وبالحقد الذي لم يصِفْ الله تعالى به إلا أعداء الملة الذين قال فيهم {وإذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}(آل عمران: 118) ومَعَ ذلك لا حسيب ولا رقيب، مع الفارق الكبير بين أعداء الملة الحاقدين، وبين الطاعنين من الداخل المدعين للانتماء للاسلام، هذا الفارق هو أ ن أعداء الملة يمارسون حقدهم في الخلوة، أما هؤلاء فينفثون سمومهم في الهواء وعلى أمواج الفضاء.
فالحرية للطاعنين مكفولة مسنودة، والتهمة للمسلمين المدافعين عن دين أمتهم ومقوماتها الحضارية جاهزة، فهل بتطليق هويتنا سنتقدم؟ وهل بالارتزاق بشتم الدين وسب المتدينين سنتحضر؟ وهل بالركوع لأصنام الكفر سنحرز على مركز محلي ودولي مرموقين؟.
إن هؤلاء الطاعنينوالشاتمين والمستأجَرِين لا تزدهر أطاريحهم الإلحادية والشهوانية إلا في ظلِّ القمع الفكري، والقهر السياسي، والظلم المحلي والدولي، والسفه الهدفي، الذي يُغَلِّفُونَهُ في دعاوى عريضة من الشعارات المهترئة التى عَفَّى عليها الزمَن منذ أواسِطِ القرن الماضي، ولكن البلداءَ المطموسي البصيرة لا يعتبرون.
إن الدُّول المتقدمة التي يقتدي بها المبهورون بحضارتها المادية لم تصِلْ إلى المستوى الذي هي عليه الآن -رغم افتقادها لما عندنا من رسالة عالمية معطلة-، إلا بسبب ما اهتدتْ إليه من إطلاق العنان للحرية السياسية، لتختار شعوبُها ما شاءتْ من المؤسسات التي ترسم الأهداف، والتي تخطط للتقدم في كافة المجالات، والتي تحكِمُ المراقبة التامة على دواليب الإدارة، ودواليب المال والاقتصاد، ودواليب التعليم والبحث العلمي… إلى غير ذلك من المراقبة التي لا يُسْتَثْنَى منها وزيرٌ أو أجير. فلا تسييد عند هؤلاء إلا للقانون، ولا كبت للحريات إلا في إطار القانون، ولا تهمة، ولا تحقيق إلا بقانون، ولا كتابة للملفات السرية التي بَرَع فيها كبار قومنا، ومازالوا يبرعون. فهؤلاء لا يعرفون لغة الاتهام الرخيص، والتعذيب للمواطن لمجرد الشبهة، وأحرى التعذيب إلى درجة الموت، ولا يعرفون لغة السجن الاحتياطي المهين لمدة شهور وسنوات ثم يُحكم له بالبراءة ليخرج وقد ضاعت صحته، وتهدّمت أسرته، وشُرِّد أولاده… ولا محاسبة للمجرمين، ولا قُدرة للمظلوم على الجهر بمظلوميته التي كفلها الله تعالى له بقوله: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَولِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ}(النساء : 147).
إن هؤلاء عرفوا طريق التقدم بإفساح المجال للحرية الكفيلة بتنشيط الدورات الدموية التجديدية بين كل فترة وأخرى، والكفيلة بترميم ظواهر الاختلال قبل الاستفحال، والكفيلة برصْد مقدمات الأمراض السرطانيةالقاتلة للشعوب الجامدة، وتدارك خطرها قبل فوات الأوان.
أما نحن فالعلاج الحضاريَُّ الكفيل بشفائنا -مما تراكم علينا من الأمراض-ـ يتلخص في نقطة واحدة هي :
الرجوعُ بصدق وإخلاص أفرادا ومجتمعا، قمةً وقاعدةً إلى التحصُّن بهويتنا ورسالتنا، لأن في رسالتنا الإسلامية كُلَّ ما عند الشعوب المتقدمة وزيادة، سواء من النواحي المادية بجميع عناصرها أو من النواحي المعنوية بكل مقوماتها من : حُريّة، ونصح، وتوجيه، وتغيير للمنكر الباطني والظاهري، وأمر بالمعروف، ودعوة لكل خير، وتآخٍ وتساند وتكافل، وتناصر في إطار الولاء الإيماني لله تعالى ورسوله والمومنين، إلى غير ذلك من أمهات الفضائل المأمور بها، وأمهات الرذائل المنهي عنها.
إذا فعلنا ذلك كنا متمتعين بمزية لا تتمتع بها أممٌ لا تدين بديننا، هذه المزية الكبرى هي اكتسابُ معية الله تعالى ورحمته وبركاته {إنَّ اللهَ مَعَ الذين اتَّقَوا والذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}(النحل : 127).
أما إذا لم نفعل ذلك فإننا سنصنَّف في قائمة الأموات ـ إن كان ما زال فينا نبض من حياة ـ التي تبدأ أماراتهُا الكُبْرى من التجرُّد من الإنسانية والدَّوران في فلك الشهوات الأكثر انحطاطا من الشهوات البهيمية، نسينا الله تعالى فأنسانا أنفسنا، فلم نعد نفكر إلا في شهوات أنصافنا السفلى، ولم نعد نتغذى إلا من صهاريج الحقد ومستنقعات الفردانية والعنصرية المقيتة التي اتصف بها أهْلُ ملة قبلنا، فلعنهم الله تعالى ونبذهم، وحَذَّرنا أن نكون مثلهم. فيقع لنا ما وقع لهم {ولاَتَكُونوُا كالذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ، لاَ يَسْتَوِي أصْحَابُ النَّارِ وَأَصحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ}(الحشر : 18-19).
وإذا كنا ضربنا عرض الحائط بالتحذير القرآني، فقد حَقَّ علينا ما تنبَّأ به الرسول فيما سنصل إليه عند هواننا “لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي ما أَتَى عَلَى بَنِي اسْرائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بالنَّعْلِ، حَتَّى لَوْ كانَ مِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي أمَّهُ عَلاَنِيَةً لَكَانَ مِنْ أُمَّـتِي مَنْ يَصْنَعُ ذلِكَ…”(أبو داود وغيره).
وياليتَ الأمرَ وَقَفَ عند التقليد والتبعية الذميمة، ولكن الرسول أخبرنا بأننا سنفقد الإرادة، ونفقد حرية القرار، وحرية الاختيار، وحرية المعارضة لمن يقرر مصيرنا على حسب هواه ومصالحه، وتلك السكتة الكبرى “ألاَ إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ افْتَرَقُوا على اثْنَتَيْنِ وسَبْعِينَ مِلَّةً، وإن هذِهِ المِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ على ثَلاَث وسَبْعِينَ، ثِنْتَانِ وسَبْعُون في النَّارِ، وواَحِدَةٌ في الجَنَّةِ، وهي الجَماعَةُ، وإنه سَيَخْرُخُ مِنْ أمتي أقوام تَجَارىَ بهم تِلْكَ الأهواءُ، كما يتَجَارَى الكَلَبُ ـ السُّعارـبصاحبه، لا يَبقَى مِنه عرق ولا مفصل إلا دخله”(أبو داود وغيره).
نسأل الله تعالى السلامة والعافية من أن نكون وصلنا إلى هذه المرحلة.