5- أمثلة واضحة تدل على اعتبار الكفاءة في التباعل
إن الكفاءة في غير الدين ليستْ شرطا في صحة العقد ـ كما أشرنا إلى ذلك في العدد السابق ـ ولكن كلامنا في التباعل، وليس في الجواز الشرعي أو الصحة الشرعية التي نجد الفقهاء أعطوها ما تستحق من البحث والمناقشة والاستدلال والاستنباط، فهذا ابن حزم ـ الظاهري ـ مثلا يقول : “وَأَهْلُ الإسْلاَمِ كُلُّهُمْ إِخْوَةٌ لاَ يَحْرُمُ عَلَى ابْنِ زِنْجِيَّةٍ نِكَاحَ ابْنَةِ الخَلِيفَةِ الهَاشِمِيِّ. والفَاسِقُ الذي بَلَغَ الغَايَةَ من الفِسْقِ -المسلمُ ما لَمْ يَكُنْ زَانِياً- كُفْؤٌ لِلْمُسْلِمَةِ الفَاضِلَةِ، وكَذَلِكَ الفَاضِلُ المُسْلِمُ كُفْؤٌ لِلْمُسْلِمَةِ الفَاسِقَةِ – ما لم تَكُنْ زَانيَةً”(1)
وما قاله ابن حزم وغيره من الفقهاء تُسنِده نصوصٌ وأدلة من الكتاب والسنة وغيرهما، مثل قول الله تعالى : {إِنَّمَا المُومِنُونَ إِخْوَةٌ}(الحجرات : 10) وقول الرسول : >لَيْسَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ فَضْل إِلاَّ بالتَّقْوَى< وثبت أن النبي أمر قوما من الأنصار أن يزوِّجُوا بلالا ] عندما خَطَبَ منهُم امرأةً مع اختلاف النسَب الذي هو من خصال الكفاءة، وذكر القرطبي في قول الله تعالى : {ولَأََمَةٌ مُومِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}(البقرة : 221). أن حذيفَة بْنَ اليمان] قال لجاريته الخنساء : “يا خنسَاءُ قَدْ ذُكِرْتِ في المَلَإِ الأَعْلَى مَعَ سَوَادِكِ وَدَمَامَتِكِ، وأنزل الله تعالى ذكْرَكِ في كِتَابِهِ. فأَعْتَقَهَا وتَزَوَّجَهَا” وقال السدي : نزلت الآية في عبد الله بن رواحة كانتْ لَهُ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، فَلَطَمَهَا في غَضَبٍ ثم نَدِمَ، فأتى النبيَّ فأخْبَرَهُ، فقال : “مَا هِيَ يَا عَبْدَ الله”؟ قال : تصُومُ وتُصَلِّي وتُحْسِنُ الوُضُوءَ، وتَشْهَدُ الشهادتين، فقال رسول الله “هَذِهِ مُومِنَةٌ” فقال ابن رواحة “لَأَعْتِقَنَّهَا و لأتَزَوَّجَنَّهَا فَفَعَلَ” فطعَنَ عليه ناسٌ من المسلمين، وقالوا: نَكَحَ أمَةً، وكانوا يروْن أن يَنْكِحُوا إلى المشركين، وكانوا يُنكِحُونهم رغبةً في أحسابهم، فنزلت هذه الآية والله أعلم(2).
ومع عدم اعتبار الكفاءة في صحة النكاح ولزوم عقد الزواج فاعتبارها ضروري في التوافق العقلي، والتقارب السِّنِّي، والتجاوب العاطفي، والتلاحم العائلي والأسري، فإذا كان الزوج غير كفؤ للمرأة كان ذلك مَبْعَثَ أذًى وضَرَرٍ لعائلة المرأة وأوليائها، وفي ذلك ما فيه من تقطيع صلة الأرحام، وإيغار الصدور، وإفساد النفوس، وكذلك الشأن للمرأة إذا لم تكن متكافئة مع الرجل، أو على الأقل قريبة التكافؤ، فكيف يمكن أن يُعايِش رجل مثقف ثقافة عالية امرأة مسدودة المنافذ الثقافية، أُمِّية الفكر والقراءة، وأُمِّية الفهم لشؤون العصر والحياة، لا تعرف كيف تُعَطِّْر الحياة بأريج الحديث، وأريج التنظيم، وأريج الأخلاق الاجتماعية التي تُحَتِّم على المرأة معرفة كيفية الإحسان للعائلة، وكيفية إحسان الاستقبال للضيوف من عيار زوجها المثقف….
فالحياة الزوجية ليست زوجا وزوجة، ولكن زوج وزوجة وأبو الزوج وأمه، وأبو الزوجة وأمها، وما ينضاف إلى ذلك من أقارب العائلة، وما ينضاف إلى ذلك من الضيوف، والمناسبات أفراحا وأتراحا …
وهذه أشياء كلها تتطلب أنواعا من الأزواج بالإشارة تَفْهَمُ، وبالحركة تتعلم، على حسب المستويات الاجتماعية، فالبدوية تستوعب زوجها البدوي استيعابا كاملا، وكذلك الحضرية، وهكذا … ليُحِسَّّ الرجل أنه لابسٌ امرأةً تقيه كلَّ العواصف، وتُحِسَّ المرأة أنها لابسةٌ رجلاً يملأ عواطفها وأحاسيسها ….
وهذه بعض الأمثلة الدّالة على اعتبار الكفاءة :
أ- من عصر الجاهلية :
< الخنساء بنت عمرو بن الحارث بن الشريد : لقد عاشت الخنساء في بيت من أعزِّ البيوتات نسباً، وأكرمهم محْتِداً، خصوصاً وأنها من قبيلة مُضرحِصْن القبائل العربيّة، ورِثت عن قومها كَرَم طباعِهم، وفصاحة منْطِقِهم، وإجادَتِهم نظم الشعر، فشَبّتْ شاعِرَة مُفْلقةً، كريمة النفس، متينة الخلق، ذات حِشمة ووقار.
كانت تُعرف في بادئ الأمر باسم “تُمَاضِر” لبياض لونها، ولكنها اشتهرتْ بالخنساء نظراً لخَنَس أنْفِها، أي أن أنفها كان متأخّراً شيئا ما عن الوجْه لانخفاض قصَبته، أي لم يكن أنفاً أشَمَّ، وصفة الخَنَس معروفة في الأندونيسيات والتايلانديات والصينيات، فخَنَسُ أنْفِها جَمّلَها جَمالاً خاصاً تميزتْ به عن غيرها من بنات القبيلة، فاشتهرت به لملاحَتِها، وجَمالها الفريد المتميّز.
رآها دُرَيْد فأعجبته، وقال فيها قصيدة مشهورة يصف جمالها، ويُشيد بحميد خلالها. وخطبها من أبيها، ولكنها رفضَتْه، وأصرّتْ على الرفض حتى حين كلَّمهافي ذلك أخوها “معاوية” وأجابته قائلة : >ألَمْ تجِدْ غَيْرِي لسَعَادَةِ صَدِيقِك<؟! وبعد إلحاح طلبتْ منه أن يُرسِل إليها دُرْيَداً لتراه بنفْسِها، وتتحدَّثَ إليه، مختبرةً مظهَرَه ومخْبره، فأصلح دُرَيْدٌ من هندامه وامتطى فرسه ووصَلَ إليها على عجَل، فقابلتْه ببشْر وترحَابٍ، وظلت تحادِثُه فترة طويلة، وتوجه إليه السؤال تِلو السؤال، وهو يُجيبُ معتقدا أنه نال رضاءها. ولكن خاب ظنه، فقد رفضته لأنها رأته شيخا طاعنا في السِّن، ضَعُف بصره، ووهنت قواه، وولَّى شبابُه، فقالت : >مَالِي بِمِثْلِ هَذا الشَّيْخِ من حَاجَةٍ< فحَنَق عليها، وأسرف في هجْوها وذَمِّها، ولكنها لم تعْبَأ بذلك، حيث قالت : > فَلْيَهْجُنِي ما شَاءَ، فَمَا كنت لأهتَمَّ بأنْ أُردّ عليْه أوْ أهْجُوَهُ< وفي قولها دليل على احتقارها لشأنه وتصغيرها لمقامه.
فالحادِثة تدُلّ على ما كان للمرأة من كامل الحرية في اختيار زوجها سواء في الجاهلية أو الإسلام، كما تدلُّ كذلك على وجود النساء الشريفات العاليات القدر والمكانة والثقافة في المجتمع العربي الذي كان منه نساء خالدات بيضات الصحائف في الإسلام(3).
ب- منْ عصْر النّبُوّة :
1) زينب بنت جحش رضي الله عنها : هي بنت صفية بن عبد المطلب، وخالها عبد الله بن عبد المطلب، وخالها الثاني حمزة بن عبد المطلب أسد الله، وهي ابنة عمة رسول الله ، هذه المرأة بهذه المكانة العالية من النسب أمَرَها الرسول أن تتزوج مولاها زَيْدَ بن حارثة ]، فأطاعَتْ أمْر الرسول ، وعاشت معه تطيعه الطاعة الشرعية، وإن كانت تشعر في قرارة نفسها أنها على غير وفاق مع زوجها، لأنها كانت تعُدُّه من الموالي، أي نسبُه لا يساوي نسبها الهاشمي. وكان زيد يشعر بما تُحِسّ به زَيْنَبُ اتجاهه، فكان يستشير الرسول في تطليقها، لكن الرسول كان يقول له : {أمْسِكْ علَيْك زَوْجَك}(الأحزاب : 37)، إلاّ أن زَيْداً -فيما يظهر لحكمة أظهرها الله عز وجل بعد ذلك- لمْ يتحمّل فاضْطُرّ إلى طلاقها، فأكرمَها الله تعالى -لصبرها وطاعتها وإن لم تكن راضية- بأن تكون من أمهات المومنين، فالزواج من غير كُفْء لها كان صحيحاً، ولكن التوافق لم يكن حاصلا(4).
2) قال الإمام أحمد بسنده : أن جَليبيباً كان امْرأ يدْخل على النساء يمرنهن ويلاعبُهن، فقال أبو برزة الأسلمي لامرأته : إن دخَل عليكُنّ لأَفْعَلَنّ ولأَفْعَلَنّ، قال أبو برزة : وكانت الأنصار إذا كان لأحَدِهم أيِّمٌ لمْ يزوجْها حتى يَعْلَم هل للنبي فيها حاجة أم لا؟! فقال النبي لرجل من الأنصار >زَوّجْني ابْنَتَك< قال : نعم، وكرامةً يا رسول الله ونِعْمة عَيْن. فقال النبي : >إنِّي لَسْتُ أُرِيدُها لِنَفْسِي< قال : فلمن تريدها يا رسول الله؟! قال : >لجليبيب< فقال يا رسول الله أُشاوِرُ أمَّها، فأتى أمَّها فقال : رسول الله يخطُبُ ابنتك، فقالت : نعَمْ ونعمة عين. فقال: إنه ليس يخطبُها لنفسه، إنما يخطبها لجليبيب، فقالت : أجِليبيبُ ابنُهُ؟! لا لعَمْرُ اللهِ لا نزوجه. فلما أراد أن يقُومَ ليأتي رسول الله فيُخْبره بما قالت أمها. قالت الجاريةُ : من خطبني إليكم؟! فأخبرتها أمّها، فقالت : >أتَرُدُّونَ على رَسُولِ الله أمْرَه؟! ادْفَعُوني إليْهِ فإنَّه لَنْ يُضَيِّعَني< فعِنْدما أخْبَر الأبُ الرسول بما قالتِ البنْتُ. قال : >اللَّهُمَّ صُبَّ علَيْها صَبّاً ولا تَجْعَل عيْشَها كَدّاً< فزوجَها رسول الله جليبيباً. قال ثابت ] : >فَما كان في الأنصَار أيّمٌ أنْفَقَ مِنْها< أي ببركة دعوة الرسول لها نظراً لطاعتها وصِدْق تفويضِها أمرها إلى الرسول .
أما منزلة جليبيب عند الله عز وجل والرسول فتُوضِّحُها تتمة الحديث : >فخرج رسول الله في غزوة له، فلما أفاء الله عليه قال لأصحابه رضي الله عنهم : >هَلْ تَفْقِدُون مِنْ أحَدٍ؟!< قالوا : نفقد فلانا ونفقد فلانا. قال : >انْظُروا هَلْ تفْقِدُون منْ أحَد<؟! قالوا : لا. فقال : >لكنَّنِي أفْقِدُ جَلِيبيباً فَاطْلُبُوه في القَتْلَى< فطلبُوه فوجَدُوه إلى جنب سبْعةٍ قد قتلَهم ثم قتلُوه. فقالوا : يا رسول الله ها هُو ذاَ إلى جنْب سبعة، قد قتلهُم ثم قتلُوه.
فأتاه رسول فقام عليه، فقال : >قَتَلَ سَبْعةً وقَتَلُوه، هذا مِنِّي وأنا مِنْهُ< مرتين أو ثلاثاً، ثم وضعه رسول الله على ساعديْه، وحُفِرَ له، مالَهُ سَريرٌ إلا سَاعِدَ النبيّ ثم وضعَهُ في قبره، ولم يُذْكَر أنه غَسَلَه(5).
فالقصة تبيّن أن أبا البنْتِ لم يَرْضَ تزويج جليبيبٍ، وكذلك الأمّ فقد رفضَتْه صراحةً لعدَمِ كفاءته لنسَبهم، ولكن البنت رضيتْ به لا لكفاءته لها، ولكن لأن الرسول اختاره لها، والخير كُلُّه في اختيار الرسول ، أمّا منزلة جليبيب الاجتماعية فتظهر في أن الصحابة ما أحسوا بفقده، ولكن الرسول الذي كان يصحِّحُ الميزان الصحيحَ الذي ينبغي أن يُوزَن به الناس، وهو التقوى، وليْسَ المال، أو الحسَب والنسَب… أرَادَ أن يُبَيّن لهم منزلتَه عند الله، وإن هَان عليْهم، فقال : >هَذَا مِنّى وأنَا مِنْهُ< ثم هذا الرجل الذي تستنكف الأُسَرُ أن تصاهِرَه، ولا يحسُّ أحد بفقْدِه استحَقَّ أن يكون ساعِدُ الرسول سرِيراً له، ونعم السَّرِيرُ.
3) روي البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي ، فقالت : يا رسول الله زَوْجِي ثابتٌ لا أعتب عليه في خُلُقِ ولا دِين، ولكِن لا أطِيقُه، فقال الرسول : >أتَرُدِّين عليه حَدِيقَتَه<؟ قالت : نعم. فقال النبي لثابت : >خُذِ الحديقة وطَلّقها< فلماذا لم تكن تطيقه؟! إنه انعدامُ التوافقُ الذي لم تُفصح عنه الصحابية الجليلة.
4) روى البخاري ومسلم والنسائي والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة كانت تُدْعى بُريرة وهي أمة اشترتها السيدة عائشة رضي الله عنها وأعْتَقَتْها، وظل زوجها مُغيثاً عبداً رقيقا، وكان يَهِيمُ بها حُبّاً لدرجة أن رسول الله قال لعمه العباس >يا عَبّاس ألاَ تَعْجَبُ من حُبِّ مُغِيثٍ بَريرة، ومن بُغْضِ بَريرة مغيثاً<؟! فقد كان من شدة حُبّه أنه كان يتبعُها في سِلك المدينة يعصِر عينيه عليها. ويلهَجُ لسانُه بذكرها بعد افتراقهما نتيجة العِتق(6)، إذ لا يجوز للحرة أن تكون زوجة للعبد الرقيق إلا إذا اختارت هي البقاء معه، وبلغ أمْرُه إلى رسول الله ، فأرسل إليها، وقال لها : >إنّهُ زَوْجُكِ، وأبُو وَلَدِك< فقالت : يا رسول الله، أتأمُرني بذلك؟ فقال : >لا، إنّمَا أنا شَافِعٌ< فقالت : لا حاجة لي فيه، فقال لها : >إنْ قَرَبَكِ فلاَ خِياَرَ لَكِ< وأمرها أن تعْتَدَّ(7).
—–
1- المحلى : 10/24 .أما الحنابلة والحنفية فيعطون الحق لولي المرأة، وللمرأة نفسها حق الاعتراض وفسخ العقد إذا زُوِّجت من غير كفؤ. المفصل في أحكام المرأة : 6/325.
2- الجامع لأحكام القرآن : 3/60 .
3- انظر نساء لهُنّ في التاريخ الإسلامي نَصِيبٌ.
4- تفسير ابن كثير، ونساء لهن في التاريخ الإسلامي نصيب، ونساء حول الرسول.
5- تفسير ابن كثير 592/3.
6- كان عِتْقُ عائشة لها لما كان يصلها من تبرُّم بريرة بزوجها، إذ كانت جارية حبشية لعتبة ابن أبي لهب فزَوّجها عبداً من عبيده بدون رغبة منها.
قال ابن القيم : >إن رسول الله لم يغضَبْ على بريرة لأن الشفاعة حق للمشفوع عنده، إن شاء أسْقَط هذا الحق، وإن شاء أبقاه، فلذلك لا يحرُم عصيان شفاعته ، ولكن يحْرُم عصيان أمره< زاد المعاد، فالرسول هنا يضرب المثل للإنسانية كلها في احترام مشاعر المرأة، حتى لا تعيش مع رجل لا ترضى المعيشة معه، ولاتقبله، ولو كان الشافِعُ سيد الأولين.
لقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن بَريرة دخلتْ عليها تستعينها في كتابتها وعليها خَمْسُ أواقٍ نُجّمتْ عليها في خَمْس سنين -أي تدْفعُ كُلَّ سنة نَجْماً أي قسطاً- فقالت لها ارجعي إلى أهلك فإن أحبُّوا أن أقضي عنك كتابتك فعَلتُ. انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 208/12 – 211.
7- انظر نساء حول الرسول 74- 76، ومجلة الأزهر عدد يناير 2005 السنة 77.
ذ.المفضل فلواتي