مدير جريدة المحجة المفضل فلواتي الطالب يحكي عن : ذكريات لا تُنسى مع الشاعر الكبير محمد الحلوي رحمه الله تعالى
لقد جئت لأتسجَّل في القرويين سنة 1953 -54 بعد أن حفظت متون الأجرومية وابن عاشر، والألفية، وطرفا من الشيخ خليل، وبعد أن طفتُ على الكثير من العلماء الذين كانوا يشرحون هذه المتون وغيرها بالمساجد سواء ببني مزكلدة أو سطَّة، أو بني زروال، أو بني مسارة التي كان في مسجدها ببني سْبِيكة أكثر من ثلاثمائة طالب، كان فيهم طلبة علماء، وخطباء فصحاء، حتى إِنَّنِي كُنتُ أجلس لمُراجِع ـ الذي يراجع الدرسَ مع بعض الطلبة الذين لم يفهموه جيدا من الفقيه ـ هذا المراجع الذي كان متبحِّرا حقا في النحو والفقه، كان يحفظ المنجدَ عن ظهرِ قلب لشدة ذكائه.
لكن المستعمر لم يَرُقه هذا العددُ الكبير فصار يضايقنا، ويدخل البعض للسجون فعلا، لأن الحركة الوطنية كانت متجذرة ببني مسارة، حيث كانت جريدة “العلم” تصل إلى الطلبة المتصلين ببعض زعماء الحركة الوطنية من حزب الاستقلال، فكانت الجريدة تروج بين الطلبة، وهناك لأول مرة عرفت عالم الصحافة، وعالم الوطنية ـ أقول الوطنية لأنها كانت عَلَما على كل من يكرهُ الاستعمار ـ فالميلُ للوطنية وتأييدها هو عبارة عن الانخراط أو الميل للعمل السياسي المحظور.
بعد هذا التطواف لم يبق إلا القرويين أفُقًا للتوسع في العلوم غير المتيسرة في مساجد البوادي، ولكن ظروف نفي عاهل البلاد محمد الخامس رحمه الله تعالى، وظروف ابتداء شرارة المقاومة بما فعله علال ابن عبد الله رحمه الله تعالى جعلت المستعمر يسد الباب في وجه طلبة القرويين، لأن هذا الجامع -ببعض علمائه وطلبته- كان الدعامة الأساسية للحركة الوطنية بالمغرب كله.
فرجعت إلى بلدي، وبقيت عاطلا عن الدراسة وطلب العلم، فاقترحَ علي الوالِدُ رحمه الله الذهاب لمكناس علني أتسجل في معهده الديني الذي كان قريب الشبه بالقرويين. سواء في الدراسة أو المواد أو العلماء. والسبب في بقائه مفتوحا أن مديره الوطني كان مسجونا، وعُوِّض بمدير مطاوع تمام المطاوعة ككبار القوم في هذا العصر.
وبمجرد ما وقفتُ أمامه ـ وكان جريئا فصيحا جهوري الصوت ـ حتى قال : ” أعرِب قام زيدٌ، قام الزيدان، خرج مصطفى” فوُفقتُ في الإعراب وعَيَّنَ لي لجنة علمية لامتحاني، فطلبتُ الثالثة ابتدائي أي السنة التي يُحرزُ فيها على الشهادة الابتدائية، فمُنحت لي.
ذ.المفضل فلواتي
وكانت دروس الإنشاء، والتاريخ، والسيرة، بالنسبة إلي جديدة، ولم يُثِرْ انتباهي أحد من أولئك الأساتذة الذين كانوا ـ في أغلبهم ـ تقليديين، كالعلماء البدويين، إلا أستاذا واحدا هو ابن الصديق أستاذ النحو الشاب الأديب الصادق المخلص المجد المحب للطلبة، المندمج معهم اندماجا كليا، فهذا ـ نظرا لكوني متجاوبا معه في المادة ـ أحببْتُه، وشعرتُ كأنه يكنُّ لي تمييزا خاصا، فكان يفاكهني في الدرس، كما كان يفاكه الطلبة، ولكن كان يفاكهني أكثر لكونه كان يلاحظ تطوري من حلق الرأس وتغطيته إلى تربية الشعر، إلى لبس الطربوش، إلى لُبس الهيأة المدنية، فكان دائما ينكِّت عَلَيَّ لروحه المرحة.
فهذا الأستاذ أثر فيَّ بمرحه، وعلمه الواسع، وحُسن تفهيمه، وحُسن معاشرته ومعاملته للطلبة فكانت الساعة تمر معه كأنها دقيقة.
وآنذاك كانت تبلغنا أصداء الشاعر الحلوي رحمه الله تعالى، وأنه فارس الشعر بدون منازع، فكنتُ دائما متشوقا للقرويين، وبمجرد ما لاحت الفرصة في سنة 1955-56 ـ حتى انتقلتُ للقرويين، وكان من نصيب قسمنا ـ لحسن الحظ ـ الشاعر الذي يُعتبر الأمل المنشود بالنسبة إلي، فانتظرنا حضوره مرارا وتكرارا فلم يجئ، وذهبنا للإدارة، فأخبرونا بأنه قريبا سيجيء، وجاء فعلا، وبمجرد ما جَلَس على المنبر، حتى فاجأه أحد الطلبة ـ بحسن نية ـ بالاستفسار عن سبب غيابه، فكان جوابه ـ رحمه الله ـ فاصلا ومختصرا : اذْهَبْ للإدارة وبَلِّغ لها شكواك، ثم نهض وذَهَبَ ولم يَعُد أبدا تلك السنة كلها.
وبدأنا نحن نحاول أن نعرف قصة انقباضه وضيق صدره، فقيل لنا : أشياء الله أعلم بها، لكنها لمْ تنل من قدْر الشاعر ووطنيته في أنفس طلبته، فالشاعر كان من فحول الشعراء ومن فرسان القصيدة العمودية.
وتحقق الأمل يوم اخترتُ الشعبة الأدبية في القسم الثانوي حيث كان من نصيبنا الشاعر الحلوي رحمه الله، وقد مرت السنة كلها التزاماً بالحضور والدروس، وأكثر ما شدّني إليه، طلاقة اللسان، وفصاحة البيان، والاسترسال في الدرس من أول دقيقة إلى آخر دقيقة بدون توقُّف أو تلعثم أو تفكر أو بحث عن معلومة شاردة، أو تنحنح، أو تحريك اليد أو الرأس، بل كان ينطلق كالسيل المتدفق في شرح القصيدة بيتا بيتا، ومعنى معنى ، وموضوعا موضوعا، كُلُّ معنًى من معاني القصيدة يبدأه من أول منبته وظهوره، وكيف حوّره الشاعر الذي بعده، ثم الذي بعده فالذي بعده، إلى المعنى الموجود في القصيدة، وإلى المعنى الموجود في قصائد أخرى لشعراء آخرين. فكنت مشدوها بغزارة الحفظ للشعر الجاهلي والاسلامي والعباسي وما بعده، ومأخوذا كذلك بقوة الاستيعاب، وسرعة البديهة، فكان يستولي على مشاعري ويحفزني كذلك إلى العزم على حفظ الكثير من الشعر.
وحيث عرفنا طبيعته لم نكن نتجرَّأ على سؤاله لا في القسم ولا في خارج القسم، وهو من جهته كذلك لم نكن نرى عليه الابتسامة أو النكتة أو إفساح المجال لشيء من المناقشة أبدا، بل كان درسه كأنه مسجَّلٌ في شريط.
مما أتذكره كذلك أن الدكتور طه حُسين زار المغرب، فاحتفى به العلماء، وحياه الحلوي بقصيدة شعرية رائعة، نشرتها مجلة (دعوة الحق) فكان مما قاله طه حسين بعد الانتهاء : إنني لَمْ يسبق لي أن سمعتُ بمثل هذا الشعر. إعجابا وثناءً. ولكني رأيته ذات مَرَّة في قاعة الأساتذة وهو يَرُدُّ على الشاعر عبد الكريم التواتي الذي كان يقول له : إن طه حسين قال لك لم يسمع بمثل شعرك في القبح وليس في الحسن والجمال، ويظهر أن هذا كان تصفية حساب، لأنهما الشاعران اللذان كانا متنافسين أشد التنافس.
ويظهر أن الجو غير المريح له بفاس هو الذي دفعه إلى الانتقال لتطوان التي بقي بها حتى مات رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
ولقد كان له ابتكار غير مسبوق إليه، ذلك أنه يعمل على تأصيل الدارجة المغربية، فيبحث لها عن أصولها العربية الأمر الذي يجعل المواطن مقتنعا بأن الدارجة المغربية هي عربية الأصل.
هذه بعض الذكريات التي اختزنتها لأستاذي الكبير في ذاكرتي، أما ما كنت أكِنُّه له من الاحترام والتقدير والإعجاب، وخصوصا أثناء تدريسي لتلاميذي بعض قصائده فذلك شيء آخر لا يسعه المقام، ولا يناسبُ ما فارقَ عليه ـ رحمه الله الدنيا ـ من إهمال وحطٍّ من الكرامة الأمْر الذي يدل على أننا في حضيض التحضر، حيث نُهين رجال العلم والأدب، ونكرِّم ذكور وإناث الفن والطرب. ولكن {عند ربكم تختصمون}.