نحن وهم – 4- في ثمرات التربية


إذا كان التعليم لا يؤدي دوره في مجتمعنا – كما أشرنا في عمود العدد السابق- فإن ذلك يعود إلى قضية التربية..التربية هي التي يمكن أن تجعل من مجتمع ما “قارئا” أو “مثقفا” أو “عالما”، أو غير ذلك من الصفات التي تؤهل الفرد ليكون مواطنا صالحا منتجا. ولعله لهذا السبب اقترن لفظ التربية بالتعليم والتكوين في أسماء الهيئات المشرفة على عملية التعليم والتكوين في العديد من الهيئات و الوزارات، وفي العديد من البلدان.

لكن حين يفقد مصطلح التربية مدلوله التعليمي والاجتماعي، تصبح وظيفة التعليم مشلولة، حيث تُفتقد فيه العديد من القيم، من حب الوطن، وحب لغته وحضارته ومقدساته، وقبل ذلك وبعده معتقدات شعبه، وقيمه الخلقية السامية، وما يمثله كل ذلك في السلوك والواقع.

وما نشاهده مثلا في مجتمعاتنا من أنانية وعدم احترام للنظام، وقلة اهتمام بالبيئة، وإيذاء للغير معنويا وحسيا، يعود إلى الخلل الكبير الذي يوجد في نظام التربية ووظيفتها ومن تم في ثمراتها السلبية. وما يوجد عند غيرنا من الأمم الغربية التي نتأسى بها في كل شيء إلا فيما يتعلق بالتربية، من احترام للغير وتقدير لإنسانيته، ومحافظة على النظام، واعتناء كبير بالبيئة يعود أساسا إلى نظام التربية ووظيفتها، ومن تم في ثمراتها الإيجابية.

وهذه بعض المشاهد أقدمها للقارئ الكريم، وهي مما يمكن أن يشاهدها كل فرد عندنا وعندهم.

من أبرز ما يتحدث به الناس ويتندرون به، مسألة المحافظة على النظام، وخاصة ما يتعلق بأخذ كل واحد دوره واحترامه في الطوابير التي تكون أمام أبواب الإدارات وشبابيك البنوك وصناديق الأداءات ونحو ذلك.

< أمام مصلحة إدارية في دولة غربية طابور طويل، كل ينتظر دوره، معظم المصْطَفِّين من مواطني هذه الدولة. أحد زبناء هذه المصلحة من أبناء مجتمعنا، خرق الصف كله دون اكتراث للغير ليقف مباشرة أمام الشباك، صاح كل الناس واحتجوا، ورد عليهم بكلام فيه صفاقة، وامتد الاحتجاج إلى نعرة عرقية عنصرية، لكن صاحبنا أصر على أنه “لم يخالف النظام” لسبب بسيط هو أنه في “حالة عجلة من أمره”، وأنه هو الآخر أحد مواطني هذه الدولة لأنه يحمل جنسيتها مثله مثلهم جميعا. حينذاك ردت عليه امرأة بصوت عال وينم عن احتقار لسلوكه وأقواله، فقالت: “حملت جنسيتنا ولم تحمل تربيتنا وثقافتنا، احتفظت بتخلفك كما كنت من قبل”.

< هذا كان في بلدهم، أما في بلدنا، وأمام شباك بنك/ آلي، اصطفت مجموعة من الناس، ولم يكن عددهم بالكبير، كان من بينهم شخص غربي واحد، زاده الله بسطة في الجسم و” التربية”. كان ينظر إلى أحد السَّرعى “المزروبين” من أبناء جلدتنا، اخترق الصف على قلة عدده، ووقف أمام الشباك مباشرة، “فتطوع” هذا الغربي ليفرض النظام الذي ألفه، فتوجه إلى هذا المخترق للنظام فضربه بركلة. سُقِط في يدالرجل وقد داهمه بأمر لم يكن ينتظره،انحنى في خزي وانسل دون أن يلوي على شيء.

< مشهد آخر لم أنسه، وإن كان قد مر على حدوثه أكثر من عقدين من الزمن, في قطار كان معظم ركابه من الجالية المغربية في الخارج، وفي الطريق الطويل الرابط بين جنوب الجزيرة الايبيرية وشمالها، توقف القطار توقفا تقنيا في وسط عدد من ضيعات التفاح والإجاص. وبما أن القطار كان من النوع القديم الذي تفتح أبوابه بسهولة، فإن عددا من أبناء مجتمعنا نزل إلى أقرب ضيعة ، وجنى كل واحد ما حلا له ثم عاد. تأخر القطار مدة أطول، فنزل أحد الغربيين لا يفعل نفس الشيء، ولكن يقطف إجاصة واحدة وتفاحة واحدة بالعد، ولما رمقه أبناء مجتمعنا صاحوا به وازدروا فعله، وكأن هذا الفعل، فعل الاختلاس، أو فعل السرقة، أو فعل الاعتداء على مال الغير، سَمِّه ما شئت، وإن كان قليلا أو كثيرا، كأن هذا الفعل خاص بنا وبمجتمعنا، مألوف في تربيتناوثقافتنا، غريب عنهم وعن مجتمعهم، غير مألوف في تربيتهم وثقافتهم.

يكفي هذا التعليق الأخير، وهذه المشاهد وأمثالها كثير تدل على الفارق السلوكي بيننا وبينهم والناتج عن ثمرات التربية السلبية.

فمتى تستقيم تربيتنا ويشتد عودنا وتعود كما كانت أسلافنا مربية للرجال، بانية للوطن مسهمة في تقدمه؟؟.

  د. عبد الرحيم بلحاج

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>