ميزان التطور والثبات في أفكار الإسلاميين


الثابت والمتحول عند الإمام الشاطبي يرحمه الله

يقول الإمام الشاطبي موضحًا الموقف الإسلامي “العوائد المستمرة ضربان : أحدهما ـ العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابًا أو ندبًا أو نهى عنها كراهةً أو تحريمًا، أو أذن فيها فعلاً وتركًا، والضرب الثاني هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي.. فأما الأول فثابت أبدًا كسائر الأمور الشرعية، كما قالوا في سلب العبد أهلية الشهادة وفى الأمر بإزالة النجاسات.. وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس إما حسنة عند الشارع أو قبيحة، فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين بها؛ فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحًا، ولا القبيح حسنًا، حتى يقال مثلاً : إن قبول شهادة العبد لاتأباه محاسن العادات الآن فلنجزه! أو إن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح فلنجزه!.. أو غير ذلك؛ إذ لو صح مثل هذا لكان نَسخا للأحكام المستقرة المستمرة، والنسخ بعد موت النبي  باطل”(1)

والشرائع والقيم الخلقية من قبيل الضرب الأول : فكل قيمة خلقية إسلامية قد أقرها دليل شرعي، ومن القيم الخلقية ما أمر به الشرع إيجابًا كبر الوالدين، والرحمة بالمرضى والضعاف، والصدق في الشهادة، والثبات يوم الزحف،، ومنها ما أمر به الشرع ندبًا كالعفو، وبر الجار، والوفاء للصديق، وإصلاح ذات البين.

فكل القيم الخلقية داخلة تحت أحكام الشرع ومن ثم فهي ثابتة أبدًا ولا تبديل لها وإن اختلفت الأزمان والأماكن والآراء.. ودعاوى تطويرها أو تبديلها أو هجرها كلها دعاوى باطلة.

ويحدد الشاطبي مجال التغيير والتبديل والتطوير في الضرب الثاني الذي يضم “العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي”.. مثال ذلك “كشف الرأس فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع”(2)، فهو يقدح في عدالة الشاهد في بلد أو إقليم، ولا يقدح فيها في بلد أو إقليم آخر، وكذلك الحكم على بلوغ الصبيان، وما يترتب عليه من مسؤوليات؛ “فإن الخطاب التكليفي مرتفع عن الصبي ما كان قبل البلوغ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف، فسقوط التكليف قبل البلوغ، ثم ثبوته بعده ليس اختلافًا في الخطاب، وإنما وقع الاختلاف في العوائد أو في الشواهد”(3).

هذه هي الصورة المشرقة، الموجزة، المحددة، الواضحة للموقف الإسلامي الصحيح من قضية النسبية الأخلاقية والتشريعية.. ولكن أقلامًا عديدة تنكبت الطريق إليها وحاولت عبثًا إعادة اختراع البارود كما يقال، وكانت النتيجة المحتومة: السطحية والهلامية والضياع والتشتت للكاتب والقارئ على السواء.

واستغلت العلمانية الفرصة وراحت تصخب على الحقيقة في محاولات لا تنقطع لطمسها، ولتصوير الإسلام على أنه كتلة من الصلصال يمكن تشكيلها حسب الهوى والغرض.

 ابن القيم والمصالح المرسلة

ويكشف ابن القيم عن دور المصالح المرسلة كمصدر للتشريع من شأنه أن يبقى مظلة الشريعة شاملة سابغة لا يخرج عن حكمها شيء، بعكس أنصار النسبية و التطور الذين سوغت لهم أوهامهم إمكان اطراحها استنادًا إلى المصالح المرسلة.

وابن القيم يرفض هذا الموقف كما يرفض موقف أولئك الذين جعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد.. وإليك هذا النص الفريد من “إعلام الموقعين” يقول “هذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام وهو مقام ضنك في معترك صعب فرط فيه طائفة، فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرّءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، وسدوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من الطرق التي يُعرف بها المحق من المبطل، وعطلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق، ظنًا منهم منافاتها لقواعد الشرع.. والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلاّ بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم، فتولد من تقصير أولئك (العلماء) في الشريعة، وإحداث هؤلاء (الولاة) ما أحدثوه من أوضاع سياسية شر طويل وفساد عريض، وتفاقم الأمر وتعذر استدراكه وأفرط فيه طائفة أخرى فسوغت منه ما يناقض حكم الله ورسوله.. وكلا الطائفتين (من العلماء والولاة) أتيت من قِـبل تقصيرها في معرفة ما بَعَـثَ الله به رسوله؛ فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض”(4).

فطائفة من علماء الدين لم تعرف كيف تستفيد من المصالح المرسلة، ووقفت عند النصوص ولم تجتهد لتمديد مظلة الشريعة على كل جديد من شئون الحياة في المجالات التي لا نص فيها، والمجالات التي تحكمها نصوص ظنية الدلالة.

وطائفة أخرى من الولاة ـ يشبهون دعاة التطور اليوم ـ أخذت بالمصالح المرسلة وتمادت في ذلك حتى خرجت على النصوص، أو انتهكت النصوص استنادًا إلى المصالح المرسلة!

لكن الموقف الإسلامي الشرعى الصحيح يعتبر المصالح المرسلة في التقنين والتنظيم فقط حيث لا نص، أو حيث يوجد نص ظني الدلالة أي يحتمل التفسير على أكثر من نحو؛ وعلى شرط تجنب مخالفة النصوص الدينية ومقاصد الشرع، والهدف من وراء ذلك إحكام الصبغة الشرعية الإسلامية على حياة الجماعة المسلمة، بما يحقق لها مصالحها في الدنيا والآخرة، ويحفظ عليها شخصيتها الإسلامية المتميزة.. وهذا هو ما اتفق عليه فقهاء المسلمين.

يقول المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة “يتفق جمهور الفقهاء على أن المصلحة معتبرة في الفقه الإسلامي، وأن كل مصلحة يجب الأخذ بها ما دامت ليست شهوة ولا هوى، ولا معارضة فيها للنصوص تكون مناهضة لمقاصد الشارع”(5).

والإمام مالك رحمه الله ـ وهو الذي حمل لواء الأخذ بالمصالح ـ اشترط لصحتها “الملاءمة بين المصلحة التي تعتبر أصلاً قائمًا بذاته وبين مقاصد الشارع فلا تُـنافي أصلاً من أصوله، ولا تُعارض دليلاً من أدلته القطعية”(6).

وحجة الشافعية والحنفية في رفض الأخذ بالمصالح استندت إلى “أن الأخذ بها ـ من غير اعتماد على نص ـ قد يؤدى إلى الانطلاق من أحكام الشريعة، وإيقاع الظلم بالناس باسم المصلحة، كما فعل بعض الحكام الظالمين”(7)، وكما فعلت الإجراءات الاشتراكية والشيوعية الحديثة حين صادرت الأموال والممتلكات.. إلخ، وهذا هو ما يريد دعاة التطور المطلق إحداثه اليوم؛ فأنصار التطور المطلق يتكلمون عن المصلحة ويعيدون القول دون أي تحرز ديني، أو تدقيق علمي، وهدفهم الأول والأخير هو الانفلات من أحكام الشريعة، والانتهاء إلى القضاء على خلودها، وإدخال النسبية عليها، وإقرار مبدأ التطور المطلق الشامل “السائب” تقليدًا للمدنية الأوربية الحديثة؛ وتطبيقًا لنظرية “مسايرة” الغرب!

وأعود مرة أخرى فأذكر القارئ بأن القيم الخلقية مثل سائر القواعد الشرعية كلها مستندة إلى نصوص من القرآن والسُّـنة فهي من المنصوص عَـليْه شرعًا، ولا يجوز مطلقًا أن تُلغى أو تُـبدل أو تُـهجر أو تُـطور بناءً على مصلحة مرسلة؛ لأن هذا كله خروج على النصوص القطعية.

وكذلك الإيثار وإخلاص النية لله تعالى وغيرهما من المبادئ العامة للأخلاق الإسلامية كلها مستندة إلى نصوص القرآن والسُّـنة ولا مجال فيها لتحكيم المصالح المرسلة.

د. أحمد عبد الرحمن

————–

(1) الموافقات جـ 2 صـ 283، 284.

(2) نفسه صـ 284.    //  (3) نفسه صـ 286.

(4) إعلام الموقعين جـ 4 صـ 372، 373.

(5) أبو زهرة  “أصول الفقه” صـ 283.

(6) نفسه صـ 279.       // (7) نفسه صـ 283.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>