في معركة المفاهيم والمصطلحات والخصوصية الحضارية


في أهمية دراسة المفاهيم والمصطلحات والخصوصية الحضارية

تنبع أهمية دراسة إشكالية المفاهيم والمصطلحات في صيغها الحديثة واستخداماتها في الفكر العربي الإسلامي من كونها نتاج العلاقة مع (الآخر)، حيث تلتقي الثقافات والعادات والتقاليد،وتتعانق الهويات والمرجعيات التي قد يذوب بعضها في بعض، وقد يسيطر بعضها على بعض فتنمحي الخصوصيات والجذور لبعض الثقافات والحضارات، لذلك وجب على كل مرجعية أو هوية أو حضارة أن تتميز – دون استعلاء- عن غيرها حتى تحافظ على  أسسها ومبانيها ومعانيها و شعاراتها، وإلا كانت الثقافة الواحدة والمرجعية الواحدة هي المسيطرة و…….وهذا ما حاولت الثقافة الإسلامية أن تحافظ عليه منذ فجر الدولة الإسلامية في مرحلتها الجنينية إلى يوم الناس هذا.وهذا التميز لم يعن الانكماش والتقوقع على ( الذات)، بل كانت الثقافةالإسلامية دوما منفتحة دون إفراط ولا تفريط، سواء خلال عملية الترجمة إبان العصر العباسي من خلال بيت الحكمة كأكبر إطار محتضن لنتاج ( الآخر) آنذاك،أو في عصر الدولة القومية المعاصرة  وظلت محتضنة لسائر الثقافات.

وقد استحدثت مفاهيم ومصطلحات جديدة على الفكر الإسلامي في كلا المرحلتين، فـ(في حين ساهمت حركة الترجمة الأولى في تشييد صروح حضارية كونية هي الحضارة العربية الإسلامية، تركت الثانية آثارها السلبية على فكرنا ولغتنا. لقد كانت للترجمة ولعملية التثاقف بالغ الأثر على الصعد الحياتية والفكرية واللغوية، فعلى المستوى الثقافي أنتجت اتجاها جديدا في الكتابة العربية ابتعد يوما بعد يوم عن أصول وقواعد اللغة العربية ليرتبط بلغة الثقافة المهيمنة، ومع الوقت طغى هذا الأسلوب على جيل من المثقفين، واتسم بغموض في المفردات واضطراب في المفاهيم والمصطلحات. وفي خضم اللهاث وراء اللغة (العلمية والفلسفية ) – منذ ما قبل عهد الطهطاوي بقليل- وفي غياب مؤسسات عربية موحدة للترجمة وتوحيد المصطلحات، سادت المصطلحات المتضاربة غير المقننة، وباتت اللغة تحت رحمة المترجمين مختلفي الثقافة والعلم بأصول العربية، فترجم المصطلح بعشرات الأشكال حتى اختلفت ترجمة المصطلح الواحد من بلد إلى آخر، بل داخل البلد نفسه من مؤسسة لأخرى)(1).

وقد وقفت على هذه الحقيقة عندما التقيت بأحد علماء اللغة والمشتغل في حقل التعريب الدكتور هيثم الخياط كبير مستشاري المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط في إحدى الملتقيات الفكرية حيث صرح لي بقوله: (كثير من المصطلحات لها تاريخ في البيئة التي تولدت فيها، والمشكل أننا حينماننقل هذه المصطلحات ننقلها بغض النظر عن تاريخها…فمصطلح  Fondamentalisme يترجم بالأصولية، هو مفهوم غربي له علاقة بالبيئة التي نشأ فيها وهي بيئة مسيحية ولا علاقةلـه بالبيئـة العربيــة الإسلاميــة…ومثـلـه :   Terrorisme  و Fieudalisme …إلخ. (2 ).

المشاحـة  في  الألفـاظ  والمصـطلحـات

من  أولويات بناء وتحصين  الفكر الاسلامي

إن المصطلح والمفهوم في عالمنا اليوم ثغرة خطيرة  ينفذ من خلالها ( الآخر) بكل يسر، فمن خلالها استطاع ( الآخر ) أن يجيش  الجيوش من المثقفين والأدباء والمفكرين لترويج، ثم لترسيخ مجموعة من القيم الغربية في عصر العولمة التي باتت تحاول تنميط العالم على شاكلة الثقافة الغربية، والعمل على حسر ثم تحييد الثقافات العالمية والمحلية الأخرى، وفي هذا السياق ضخ الإعلام الغربي عددا هائلا من المصطلحات والمفاهيم وحقن بها مثقفينا وإعلاميينا وأدبائنا، الذين – بتأثير قوة الصدمة – أصبحوا يشكلون مقاولات ثقافية محلية تنوب عن (الأغراب) في ترويج هذه البضاعة (المنمطة) وتم التطبع إلى درجة البلادة مع مجموعة كبيرة من المصطلحاتوالمفاهيم مثل: الإرهاب، والديموقراطية و….

وظهرت بدعة (لا مشاحة في الألفاظ والمصطلحات) وتلقفتها نخبنا (المتنورة) وأصبحت تحتل حيزا خطيرا في حياتها الفكرية والثقافية، بل وحتى السياسية، فما إن يطلع علينا مصطلح (هناك) إلا وكان له صدى في اليوم الموالي في إعلامنا، لذلك نقول مع القائلين: إن المشاحة في الألفاظ والمصطلحات اليوم أصبحت من أولويات بناء الفكر الإسلامي الحديث وتحصينه من كل (القوارض) التي تريد مسخه وجعله تعبيرات لا تمت للمرجعية والهوية بأي صلة. يقول د.محمد عمارة:(إنه لا مشاحة في الألفاظ والمصطلحات) تتردد هذه العبارة على الألسنة وفي الكتابات، بمعنى أنه لا حرج على أي باحث أو كاتب أو عالم في أن يستخدم المصطلح ويصرف النظر عن البيئة الحضارية أو الإطار الفكري أو الملابسات المعرفية و الفلسفية أوالعقدية التي ولد ونشأ وشاع فيها…فالمصطلحات والألفاظ ذات الدلالة الاصطلاحية هي ميراث لكل الملل والمذاهب والحضارات، ولجميع ألوان المعرفة ونظريتها ولكل بني الانسان ..وهذه العبارة في تقديرنا صادقة تماما..لكنها – أيضا – تحتاج إلى ضبط لمفهومها وتقييد لإطلاقها، وتخصيص لعمومها حتى لا يشيع منها الخلط، بل والخداع، كما هو حادث لها ومنها الآن لدى عديد من دوائر الفكر التي ترددها دون ضبط وتحديد وتقييد لما يوحي به ظاهرها من مضمون (3).

محمد البنعيادي

—————

1- حول المفهوم والمصطلح في الفكر العربي والغربي:قيس خزعل جواد،مجلة رسالة الجهاد،ع:81/1989،ص:92

2- من حوار أجريته معه على هامش الندوة الدولية التي أقيمت بفاس في مارس 2003 بعنوان:إشكالية المصطلح في العلوم المادية ، ونشر في جريدة المحجة المغربية عدد 192 /2003

3-  الخصوصية الحضارية للمصطلحات للدكتور محمد عمارة،ضمن كتاب:إشكالية التحيز:رؤية معرفية ودعوة    للاجتهاد، تحرير د.عبد الوهاب المسيري، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي ج:1، ص:125..

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>