وانْتُخِب بوش… فهل من مُدّكر؟؟
منذ شهور عديدة، واهتمامات الناس عامة، وأصحاب السياسة ومراكز القرار ووسائل الإعلام خاصة في العالم بأسره مُنْصَبَّةٌ على الحديث عن الانتخابات الأمريكية ونتائجها والتكهنات والتحليلات، واستطلاعات الرأي التي تخص الموضوع وتتنبأ بمن يا ترى سوف يتوج فائزا لكي يتربع على عرش البيت الأبيض لولاية تدوم أربع سنوات، هل الجمهوري بوش، أم الديمقراطي جون كيري؟؟
وكان الاتجاه السائد هو المراهنة على خسارة جورج بوش لما أظهرته سياسته عامة، وفي أزمة العراق خاصة من إخفاقات متتالية وكبيرة على جميع الأصعدة.
إخفاقات بالجملة
فمن الناحية العسكرية، تبين أن ما وعدت به الإدارة الأمريكية قبل الحرب وإبانها من نصر كاسح سريع يتبعه استتباب الأمن والسلام في هذا البلد، اتضح مع مرور الأيام والشهور أنه في حقيقة الأمر سقوط في مستنقع يصعب الخروج منه، فالجنود الأمريكان يسقطون كل يوم قتلى وجرحى، واستهداف المواكب والقواعد الأمريكية، ثم المعارك المستمرة في شتى أنحاء العراق، شماله ووسطه وجنوبه، تزداد كَمََّا وحِدَّةً يوما بعد يوم، حتى بلغ عدد قتلى ما يسمى بدول التحالف والغالبية العظمى منهم من الأمريكيين ما يناهز الـ1500 قتيل، وآلاف الجرحى والمعطوبين، حسب الإحصائيات الرسمية للبنتاغون والتي لا يُستبعد ألا تعطي الأرقام الحقيقية التي قد تفوق هذه الأعداد بكثير، وبلغ الوضع تأزما حتى أوشكنا أن لا نرى وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد الذي عودنا في بداية الحرب بتصريحاته الرنانة عبر وسائل الإعلام يتبجح اعتزازا وفخرا بأداء القوات المسلحة الأمريكية في العراق.
ومن الناحية الاقتصادية، فقد تلاشت سريعا أحلام ووعود الإدارة الأمريكية بإعادة إعمار العراق فورا بعد انتهاء الحرب وبالتالي يتعافى اقتصاد هذا البلد، ويتحسن مستوى عيش مواطنيه، وتعود آلة الانتاج في المعامل والمصانع العراقية إلى العمل، وتسترجع العملة العراقية مكانتها وقوتها في الأسواق الاقتصادية العالمية ويعاد بناء المنشآت النفطية وتحديثها، ويتدفق النفط العراقي في الأسواق العالمية، والحال يشهد أن شيئا من هذا لم يحدث ولم يتحقق ولم ينجز، ولم ير العراقيون إلا الخراب والدمار والتدمير المستمر لكل البنى التحتية العراقية.
ومن الناحية الاجتماعية، كان من بين الأسباب المسوَّقة لغزو هذا البلد، تحريره من الظلم والطغيان والإتيان بالديموقراطية هدية للعراقيين من جورج بوش الصغير لكي يتنعموا بخيراتها الكثيرة التي حرموا منها عقودا من الزمن بسبب الاستبداد والطغيان والقهر والديكتاتورية، فإذا بالشعب العراقي يجد نفسه أمام قهر وبطش وظلم لا يقل قساوة وشراسة عن سابقه، بل يتعداه، أمام قصف للبيوت والمدارس والمستشفيات، ومداهمات ليلية تروع الأطفال والنساء والشيوخ، وسجن الآلاف بدون محاكمات ولا حتى توجيه تهم محددة لهم، ناهيك عن تنصيب مسؤولين في وزارات وإدارات صورية لا يؤخذ فيها رأي الشعب مطلقا.
ومن الناحية الأخلاقية، كانت فضائح السجون الأمريكية في العراق، وما أظهرته وتناقلته وسائل الإعلام العالمية من خرق فاضح ومقيت لكل معايير ومقاييس حقوق الإنسان التي قلما حدثت في الحروب المعروفة بهذا الشكل، من الانحلال الأخلاقي والكبت الجنسي لدى رعاة البقر الأمريكان، كانت هذه الفضائح كفيلة بإطلاق رصاصة الرحمة على هذه الإدارة إلى غير رجعة.
أما على الصعيد الدولي، فالصدامات والأزمات الحادة التي افتعلتها هذه الإدارة مع العديد من الدول، وحتى التي تعتبر حليفة للولايات المتحدة الأمريكية كفرنسا وألمانيا، زاد من إضعافها وتوجيه اللوم والانتقادات لها لما قد يجلبه هذا التصرف للولايات المتحدة الأمريكية من ضرر على مصالحها في العالم في المدى المتوسط والبعيد.
…وفي فلسطين وأفغانستان
أما ما اصطلح عليه بملف الشرق الأوسط والمقصود القضية الفلسطينية، فلقد أظهرت هذه الإدارة خلال السنوات الأربع الماضية استقالة شبه كاملة من الموضوع وإعطاء الولاء التام، والانحياز اللامحدود واللامشروط لشارون وزبانيته، بل وصفه برجل السلام، وإعطاء الضوء الأخضر للقيام بكل المجازر المروعة في حق الشعب الفلسطيني، والتي نفذت على مرأى ومسمع من العالم خلال فترة ولاية بوش الأولى نزولا عند توصيات وتوجيهات من يسمون بالمحافظين الجدد في إدارة الرئيس الأمريكي، بل وجعل المشكل أساسا في الفلسطينيين ونعتهم بالرافضين للسلام والمشجعين على الإرهاب.
أما في أفغانستان، فالإخفاق في العثور على الشيخ أسامة بن لادن ومرافقيه، والقضاء النهائي على ما يسمى بتنظيم القاعدة بعد أكثر من ثلاث سنوات من احتلال هذا البلد، بل تحدي هذا التنظيم المستمر للإدارة الأمريكية بإرسال الأشرطة وبثها على الفضائيات يعتبر صفعة للعنفوان الأمريكي وجيشه وأجهزة استخباراته.
المفاجأة الكبرى.. الاحباط!!
كل هذه المعطيات وغيرها جعلت كثيرا من المراقبين والمحللين السياسيين والإعلامييين وخصوصا العرب منهم يراهنون بكل موضوعية وثقة على خسارة جورج بوش خسارة فادحة في انتخابات نونبر 2004 الرئاسية ثمنا لأخطائه ومغامراته، وفوز خصمه الديمقراطي جون كيري، لكن المفاجأة الكبرى، والذهول المصحوب عند الكثيرين بالإحباط التام جاء عند إعلان نتائج تصويت الشعب الأمريكي لاختيار رئيسه وهي إعطاء الثقة للرئيس الحالي بوش لولاية ثانية مدتها أربع سنوات.
هذه النتيجة تستحق منا وقفة تأمل وتدبر عسى أن نستخلص بعض العبر والعظات والدروس، أو على الأقل أن نفهم أو نحاول أن نفهم ما يدور حولنا وما يُفْعَلُ بنا.
إن تصويت أكثر من نصف الناخبين الأمريكيين على الرئيس بوش يعتبر مباركة له وتشجيعا وقبولا لسياسته وطريقته في التسيير وإدارة الأمور ومعالجة الأزمات، وهنا نتساءل، ويحق لنا أن نتساءل :
ـ هل يعرف الشعب الأمريكي حقيقة ما يدور خارج الولايات الأمريكية؟
ـ أو هل يهتم أصلا بما يدور خارج الولايات المتحدة؟
ـ هل تصويت الشعب الأمريكي، هو فقط على السياسة الداخلية وليس على السياسة الخارجية؟
ـ هل الإعلام الأمريكي إعلام محايد، أم إعلام موجِّه يبرز للمواطن الأحداث على مقاس ومزاج ساسة البيت الأبيض؟
ـ هل ما يبدو لنا حقا، قد يبدو لهم باطلا والعكس صحيح؟
ـ هل هناك ازدواجية في معايير الديموقراطية وحقوق الإنسان؟
ـ هل هناك أياد خفية، ولوبيات قوية تنسج الخيوط من وراء الستار، فتوجه الاتجاه العام في الشارع الأمريكي وتحدد مسارات سياسة البلاد وتتحكم في القرارات المصيرية؟
ـ هل الشعب الأمريكي يكره العرب والمسلمين؟
ـ هل يتجه الشعب الأمريكي تدريجيا نحو التصهين والتطرف المسيحي كما يُنَظِّر له مجموعة المحافظين الجدد؟.
- هل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 استغلت لتعميق الهوة بين الغرب عموما والولايات المتحدة الأمريكية خصوصا من جهة، والعرب والمسلمين من جهة أخرى للوصول إلى أهداف سياسية واستراتيجية معينة حددت ورتبت؟
{قل هو من عند أنفسكم}
إنني أطرح هذه الأسئلة العشرة لا للإجابة عنها في هذا المقال المتواضع، فكل سؤال يحتاج إلى بحث عميق وطويل ومستفيض لا من طرف أفراد، بل من طرف هيئات وجمعيات متخصصة ومراكز بحث دولية، وإنما أطرحها لكي تثير في أذهاننا جميعا استفاقة وتفكيرا ووعيا ومراجعة لأنفسنا وذواتنا وواقعنا وتصرفاتنا وسياساتنا وتوجهاتنا.
وأيا كانت الإجابات والخلاصات والتحليلات عن هذه الأسئلة المطروحة، فالشيء المهم المؤكد هو أن ما نحصده من مصائب وويلات وكوارث هو قبل أن يكون من تدبير أعدائنا أو خصومنا، إنما هو بما كسبت أيدينا جميعا (كل حسب مستواه، ودوره ومسؤوليته ومركزه في المجتمع) من تفرقة، وتشتت، واستبداد بالرأي، وإذلال واحتقار وظلم للشعوب، وتضييع للثروات والقدرات والطاقات، وتبذير لخيرات الأمة، وانشغال عن الأخذ بأسباب القوة والعلم والتقدم بحرب بعضنا البعض، وشتم بعضنا البعض والخوض في الخلافات والصراعات المفتعلة والجانبية.
إن العالم اليوم لا ينصت بالضرورة لأصحاب الحق، ويدافع عنهم ويقف بجانبهم، ولا للقضايا العادلة بقدر ما يقف وينحني لأصحاب القوة على حق كانوا أم على باطل، فإذا كنا نتطلع لمستقبل زاهر ومشرق لنا ولأبنائنا وأحفادنا وأمتنا، فعلينا أن نترك البكاء والتباكي والاستجداء في المحافل الدولية وأمام القوى العظمى طلبا للاستجابة لقضايانا العادلة ونحن على ما نحن عليه من الضعف والهوان، بل يجب علينا أن نشمر عن سواعدنا لبناء أمة قوية بكل ما تتضمنه هذه الكلمةمن معنى، قوية بأبنائها، قوية باقتصادها، قوية بثرائها وحضارتها، قوية بمراكزها العلمية وإبداعاتها واختراعاتها، قوية بجيوشها الحديثة المدربة، قوية بدينها ورسالتها العالمية الخالدة، رسالة الرحمة والسعادة والسلام لكل بني الإنسان، وعندئذ تمتزج قوتنا بعدالة قضايانا، ولن نحتاج إلى تفضل وتكرم هذا الرئيس أو ذاك، أو هاته الإ دارة أو تلك، ولن ننتظر خلف شاشات التلفاز نتائج الانتخابات الأمريكية أو غيرها داعين ومبتهلين بنجاح الأقل ضررا، أو الأكثر نفعا عسى أن يعطينا بعض الفتات أو الفضلات من الحقوق، بل سيأتون جميعهم وأيا كانت اتجاهاتهم طالبين الود والقرب وواقفين طوعا أو كرها مع الحق.