العنصر الخامس من مكونات الأمة المسلمة: النصرة
جـ- “نصرة” مؤسسات الإدارة والأمن والجيش ل”الإنسان المسلم”
في مواجهة “أشخاص” المتسلطين و”أشياء” المترفين.
حتى تتجسد أفكار “النصرة” في واقع اجتماعي يعيشه الناس، لا بد أن يتركز عمل مؤسسات الإدارة والأمن والجيش حول الحفاظ على “إنسانية الإنسان المسلم” وصيانة حرماته، وتحقيق ذاته في الداخل، ثم تمكينه من حمل رسالة الإسلام إلى الخارج.
ولتحقيق هذه الغاية يؤكد القرآن الكريم بصراحة وقوة على عدم النيل من إنسانية الإنسان أو التجسس عليه، أو اضطهاده، أو نفيه، أو غيبته، أو امتهان كرامته، وتهديد من يرتكب مثل هذه الجرائم بأشد أنواع العذاب في الدنيا والآخرة.
والرسول يؤكد ذلك بنفس الحجم والكم تقريبا. فهو يجعل التجسس على الناس سببا في إفسادهم : “إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم”(1).
وعن معاوية]، أن رسول الله قال له : “إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم؛ أو كدت تفسدهم”.
فقال أبو الدرداء ] : كلمة سمعها معاوية من رسول الله نفعه الله بها(2).
والعقوبة يجب ألا يكون باعثها الحقد الشخصي، ولا القسوة على الإنسان في حالة مخالفاته، وإنزال القصاص به؛ والأمثلة على ذلك كثيرة، منها :
قال : “لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله”(3).
“إن الله تعالى يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا”(4).
ويقول أيضا : “صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس…”(5).
“أول من يدخل من هذه الأمة النار، السواطون”(6).
والسواطون هم رجال الأمن، الذين يحملون الأسواط يضربون بها الناس.
ويقول أيضا : “إن أشد الناس عذابا يوم القيامة أشدهم عذابا للناس في الدنيا”(7).
“يوشك إن طالت بك مدة أن ترى قوما في أيديهم مثل أذناب البقر يغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله”(8).
“يكون في آخر الزمان شُرَطٌ، يغدون في غضبالله، ويروحون في سخط الله، فإياك أن تكون منهم”(9).
والسجن الإسلامي يختلف عن السجن غير الإسلامي، بحيث يتطابق مع احترام الإسلام لإنسانية الإنسان، ويحافظ على كرامته، وفي ذلك يقول ابن تيمية : “الحبس الشرعي ليس السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص، ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد، أو بتوكيل نفس الخصم، أو وكيل الخصم عليه، ولذلك سماه الرسول أسيرا”(10).
ولقد برزت آثار التوجيهات التي عمقتها التربية النبوية في جيل الصحابة والراشدين، فاتخذوها دستورا في مؤسسات الإدارة والشرطة والجيش، الموكلة بالحفاظ على “النصرة” في الداخل والخارج. فقد كان عمر بن الخطاب] إذا بعث عماله شرط عليهم أن يعيشوا معيشة الناس، وأن يركبوا ما يركبه عامة الناس، وأن يلبسوا ما يلبسه عامة الناس، ثم يشيعهم، فإذا أراد أن يرجع قال : “إني لم أسلطكم على دماء المسلمين، ولا على أعراضهم، ولا على أموالهم. ولكني بعثتكم لتقيموا الصلاة، وتقسموا فيهم فيئهم، وتحكموا بالعدل. فإذا أشكل عليكم شيء فارفعوه إلي. ألا فلا تضربوا العرب فتذلوها، لا تجمروها فتفتنوها، ولا تعتلوا عليها فتحرموها، جردوا القرآن”(11).
ولقد خطب عمر ] يوما في الناس فقال : “ألا إني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم. ولكن أرسلهم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفسي بيده إذا لأقصنه منه.
فوثب عمرو بن العاص ] فقال : “يا أمير المؤمنين : أو رأيت إن كان رجل من السملين على رعية، فأدب بعض رعيته، أئنك لمقتصه منه؟
قال : أي والذي نفس عمر بيده، إذا لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله يقص من نفسه، ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوا حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوا الغياض فتضيعوهم”(12).
واعتماد هذه المبادئ الإسلامية في تشكيل عمل مؤسسات النصرة التي مر ذكرها، يتطلب أمورا ثلاثة :
> الأول : أن تنفرد التربية الإسلامية في إعداد العاملين في هذه المؤسسات، وعدم تركهم للإعداد في المؤسسات الإدارية والبوليسية والعسكرية القائمة في ديار الغرب، لتكون محصلة إعدادهم في تلك المؤسسسات رهقا وإرهابا لأممهم ومجتمعاتهم في الداخل، وعجزا مذلا أمام العدوان النازل بها من الخارج.
> والثاني : أن تختلف الإجراءات التي تمارسها هذه المؤسسات، والعقوبات التي تطبقها لإمضاء قوانين النصرة، وتشريعاتها، عن نظائرها من المؤسسات غير المسلمة. إذ لا يجوز لها أبدا تقليد المؤسسات الأخرى، واستيراد أساليبها، أو التدرب في معاهدها على نظم البوليس وأساليب المخابرات، وإجراء التحقيق والعقوبات، لأن المؤسسات غير الإسلامية تتعامل مع الإنسان انطلاقا من فلسفة “الدارونية الاجتماعية” التي تقرر أن البقاء للأقوى، واستنادا إلى نظريات علم النفس المشتقة من التجارب على الحيوان، كنظرية “بافلوف” ونظريات التعلم الإشراطي “لسكنر”، التي تستعملها الكثير من دوائر الشرطة والمخابرات في غسل الأدمغة وانتزاع الاعترافات.
> والثالث : أن يتم تأسيس التربية العسكرية على الأصول الإسلامية التي تعد العسكري المسلم ليدور حول “أفكار الرسالة”، لا في فلك “أشخاص” الحاكمين، و”أشياء” المترفين.
وأهمية هذه التربية لا يمكن ـ هنا ـ الخوض في تفاصيلها، وإنما يمكن تصورها من المثل الذي لم يحدث له نظير في تاريخ الجندية، حينما أنزلت رتبة عسكري كخالد بن الوليد ]، من “قائد عام للجيش” إلى “جندي نفر”، ثم استمر في أداء واجبه قائلا : أنا لا أقاتل من أجل عمر.
ويرتبط بهذا المظهر للنصرة، تنمية الوعي بـ “سيادة الشريعة فوق القوة”، وإقامة المؤسسات المتخصصة بمراقبة الحاكمين والإداريين، بحيث لا يكون أحد، كائنا من كان، فوق الشريعة أو القانون. بهما يُضبط سلوكهم، وتوجه إدارتهم. وحين يحاول أحد أن يرتفع ـ فوق القانون ـ يُقوَّم تقويم القداح ـ حسب قول بشر بن سعد للخليفة عمر ـ، وإذا لم يُقوَّم فإن ذلك يعني أن الصنمية عادت برموز جديدة، والرضى بها من مظاهر الشرك، والخضوع لغير الله.
وتحتاج التربية الإسلامية ـ من أجل تعميق الولاء لاتجاهات النصرةـ إلى نقد الممارسات التاريخية التي أطلقت أيدي بعض الخلفاء والسلاطين والولاةـ بعد عصر الراشدين ـ في شؤون الحكم والمال والإدارة، فصاروا يعزون من يشاءون في أعلى المناصب، ويذلون من يشاءون بالعزل والاضطهاد. ويحيون من يشاءون بالعفو المزاجي، ويميتون من يشاءون بالإرادات الطاغية، وبذلك شاركوا الله في صفاته وأفعاله، وجسدوا صنمية الأنداد.
وتحتاج التربية الإسلامية كذلك إلى نقد قيم العصبيات وثقافاتها، التي تصطدم ب “النصرة”، فتجعل “القوة فوق القانون”، وتحيل “حقوق” الناس الممنوحة لهم من الله “مكرمات” يمن بها عليهم أصحاب السلطان الأنداد، وتطلق أيد المنفذين ليستعبدوا الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، وليتحكموا بمصائرهم وأرزاقهم، ومقدراتهم، دون رقابة من مؤسسة، أو مسؤولية أمام تشريع.
ولا شك أن نقد التربية لهذه الثقافة العصبية المتخلفة، هو واجب ديني، والتخلي عن هذا الواجب أو القصور فيه والسماح لهذه الثقافة أن تشيع في مناهج التربية وبرامج الإعلام، هو كبيرة من الكبائر المخلدة في النار، كما ذكر ذلك صراحة في حديث رسول الله الذي أورد الكبائر السبع، وذكر أن سابعتها : “وأن يرتد أعرابيا بعد الهجرة”(13).
د. عرسان الكيلاني
…………………….
1- سنن أبي داود، ح 4، باب الأدب، ص 272.
2- الطبراني، المعجم الكبير، ح 19، ص 379 رقم 890.
3- البخاري ومسلم واحمد والترمذي وأبو داود.
4- صحيح مسلم، كتاب البر. مسند أحمد، ح 3، ص 403.
5- صحيح مسلم (شرح النووي) ح 17، كتاب الجنة، ص 190.
6- المتقي علي الهندي، كنز العمال، ح 5، ص 798 نقلا عن ابن أبي شيبة.
7- مسند أحمد، ح 3، ص 403، ح 4، ص 90.
8- صحيح مسلم، (شرح النووي)، ح 17، كتاب الجنة، ص 190.
9- مسند أحمد (تصنيف الساعاتي)، ح 19، ص 324.
10- ابن تيمية، الفتاوى، كتاب قتال أهل البغي، ح 35، ص 398.
11- المتقي الهندي، كنز العمال، ح 5، ص 668 نقلا عن البيهقي في شعب الإيمان. تجمروها : تجمير الجيش جمعه في الثغور وحبسهم عن العود إلى أهلهم. جردوا القرآن : لا تقرنوا به شيئا ليكون وحده منفردا.
12- مسند أحمد، (تصنيف الساعاتي)، ح 3، ص 87.
13- الطبري، التفسير، ح 18، ص 158 ـ 159. تفسير سورة النور ـ آية 55.