مــــوت باهــــض  في العشر الأواخر  من شهر رمضان


ظلمات بعضها فوق بعض تغشى الشارع المقفر، وصمت الموتى السادر على أديمه يخرقه بالكاد العواء المتقطع لقطط ضالة، متآلفة متمسحة ببعضها البعض حينا، متنافرة متشاكسة حينا آخر، وحفيف خافت لأوراق شجر متناثرة، تعبث بها الريح في شهر خريفي، لا زالت سماؤه تتوجع سحابا وعويل عواصف عجفاء، ولا طلق….لا مطر.

على ناصية إسفلت بارد، كانت هناك، متكومة على شيء ما، تخبئه تحت يديها القابضتين على صدرها وقد أفردت رجليها الحافيتين إلى الأمام، في حين كان رأسها المنحني وجسمها الهامد يوحيان بأنها نائمة وإن كانت في وضع جلوس لا استلقاء. وقد يحسب الرائي العجول من بعيد للبقع الطافحة على ملابسها الثلجية البياض أنها بعضا من تصميم ثوب مرقط… لكنها ليست كذلك، قال الرجل العجوز في نفسه وهو يقترب منها بسيارته…

كانت بقع دم نازف من صدرها…

لم يطل تردده كثيرا في شارع قد تنط فيه أشباح الشر المتربصة بالعابرين في أية لحظة لتنقض على رزقه من دراهم معدودات، جناها من رحلاته المكوكية في سيارة الأجرة التي يعمل فيها أجيرا، وقد تسفح تلك الأشباح بكل برود دمه كما هذه الصغيرة التي تبدو في عمر أحفاده. لم تتجاوز الخامسة عشر ربيعا.

خمن في ألم وحسرة بحسم ركن السيارة قرب الطوار وتمتم بأدعية مأثورة تقيه من شر غاسق إذا وقب واتجه صوبها.

انحنى عليها بشيء من الوجل، أفزعته كمية الدماء التي تغطي صدرها الملتف على حقيبة يد سوداء صغيرة تضمها بحرص وحزم، وهي تتحسس تحركات هامته الآدمية الواقفة عند رأسها.

- لا تخافي، قال الرجل في حيطة وتوجس مشوب بحنو أبوي تلقائي.

تكومت أكثر في جلستها كسلحفاة مداهمة، وازداد ارتجافها، وبصعوبة حشرجت، ورأسها المسجى يرتفع قليلا لتتبين سحنة الغريب:

- ابتعد ليس لدي ما تسرقه، سبقوك وأخذوا كل شيء !!

- لا لا يا بنيتي استغفر الله، قال الرجل بتأثر بالغ، انظري إلي جيدا، إني في عمر جدك، لا تخافي يا بنيتي، الله معك.

وكأنه أحدث مسا عاطفيا بداخلها أشبه بالمس الكهربائي، فغرت عينيها وحملقت في ملامحه بحذر،  وإذ أدركت صدقه المنساب من عينيه الوديعتين الحانيتين استرسلت  في نحيب شجي…

ثم غمغمت بصوت متقطع ضعيف:

- لقد سرقوا مني كل شيء أبا الحاج، لم يكـفهم أن سُرِق شرفي وكرامتي كل ليلة، فتربصوا بي ليأخذوا حقهم، وإذ لم يعثروا على مال في حقيبتي هذه، طعنوني بخنجر، وكانوا يريدون جري بعيدا عن الشارع لولا أن رأوا دمائي فسارعوا بالهروب…

- لا تتكلمي، قال الرجل بحنو أكبر سأنادي على سيارة الإسعاف… لا أستطيع أن أحملك في سيارة الأجرة إنها ليست في ملكي، ولا أريد مشاكل مع صاحبها أو مع “المخزن”.

- أرجوك، قبل فوات الأوان، أن تسمعني… أجابت متألمة أريد فقط أن تزيل جواربي فبداخلها مال كثير أريد أن تحمله إلى أمي، ستحتاجه لمصاريف ما تبقى من شهر رمضان ولإخوتي في العيد، خذ العنوان من الحقيبة واذهب إليها، إنها لا تنام قبل عودتي…

تردد الشيخ الوقور في مس قدميها قبل أن يخفض بصره وينزع جواربها، وسقطت كومة من الورقات المالية الزرقاء… كانت مبللة وعطنة، تفضح معالم مصاصي عرقها القساة.

صبية رائعة التقاسيم، فكر الشيخ بأبوة، يبدو من تقاطيع وجهها الغضة، أنها سرقت غيلة من طفولتها، وزج بها في دهاليز العتمات.

- خذ العنوا،ن قالت، وصدرها يعلو ويهبط وأنفاسها تتلاحق، وشحوب الأموات يكسو وجهها…

واخترق صوت المؤذن لصلاة الفجر إيلام تلك اللحظات الصعبة، وهو في وجومه، شارد تطوح به هواجس، وتطيف به أسئلة شتى، أيحملها إلى المستشفى ويعرض نفسه لاتهامات لا تحصى؟ أينتظر إلى جانبها سيارة الإسعاف، لن تأتي حتى يكون ” مول الأمانة خاد أمانتو”؟؟ هل يطبق مقولة “ما شفنا ما رينا”؟ ويتركها غارقة في دمائها حتى تجود بآخر قطرة دم كما جادت بآخر قطرة عرق وكرامة ؟!! ..

نظر مرة أخرى إلى محياها في استحياء… في عمر زينب حفيدته التي حتما تتثاءب الآن في منامتها الدافئة وتقصد بدلال الحمام للوضوء..

انحدرت عيناه إلى يديها فرآها ترفع سبابتها بالشهادة وصوت المؤذن يتموج في آخر كلمات التشهد بالتكبير…

انحرف رأسها إلى اليمين في ارتخاء كامل، حركها الرجل مذهولا، ثم تراجع إلى الوراء متمتما {إنا لله وإنا إليه راجعون}… كانت قد أسلمت الروح إلى باريها…

أخذ الأوراق المالية والعنوان ومرق كالسهم إلى سيارته، وفي حين كانت يداه تعالجان المقود صوب المسجد استغرقه البكاء.

شارع آخر آهل بالمشائين إلى المساجد، وأضواء عن اليمين وعن الشمال ورجال شرطة كثر وروائح المسك والعود والبخور وعطور الشرق تضمخ نسائم الفجر الباردة، منبعثة من جلابيب وقمصان الميممين للصلاة والمعتكفينبالمساجد في العشر الأواخر من شهر رمضان.

من داخل سيارته التي ركنها في فسحة ضيقة، بالكاد ظفر بها، وسط شلالات السيارات الغافية على جنبات الطوار، تسمرت عيناه على أديم الشارع الطويل وقد أثثت صفحته طوابير المصلين، في حين كانت تشي أصوات الذكر القوية النبرة المتعالية من داخل المسجد باكتضاض غير مألوف تشهده العشر الأواخر من رمضان…

ليتهم يعتكفون لإصلاح الآخرين الحيارى ومد جسر المحبة إليهم، كما يعتكفون الآن لإصلاح أنفسهم وعتقها من النار.. ليتهم يفكرون بنفس الحزم في عتق الآخرين من النار.

كانت هناك مسجاة في دمائها، وزينب في منامتها تعود لفراشها وتحلم بأمنياتها النائمة على رف من ذاكرتها المطمئنة، في انتظار تحقيقها ليلة القدر…

سامحينا يا بنيتي كلنا قتلناك قال الشيخ المكلوم واتكأ برأسه على المقود وانخرط من جديد في البكاء.

ذة. فوزية حجبـي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>