مظاهر الدفاع الإنساني و لبنات النصر في القصص القرآني


إن صور الدفاع الإنساني تترى في الواقع، و هي متفاوتة بحسب قدر المتدافعين و حجمها، و قيمة محل التدافع بينهما. فقد يقوم بين شخصين أو بين طائفتين أو فئتين متجاورتين أو غير متجاورتين، وقد يقوم بين حضارتين أو ثقافتين أو بالأحرى مذهبيتين كما هي طبيعة الدفاع اليوم، بل و في كل يوم. وهو دفاع يتخذ إجمالا مظهرين اثنين:

 الدفاع المتسالم

> الأول: ما يمكن تسميته بالدفاع المتسالم، أي المتظاهر بالسلم، وهو أشبه ما يكون بالحرب الباردة، لأن المعتدي فيه يكون في موقع المتربص شرا بالمعتدى عليه، و لذلك فهو أعرق في الخداع من الخداع، إذ يبدي لمن يتربص به الدوائر الهدوء، لكنه هدوء موطئ لأبشع العواصف نحو عاصفة الصحراء، وثعلب الصحراء، وغير ذلك مما أصاب أمة الإسلام- وما يزال- عبر تاريخها.

والأمة وهي المستضعفة ينبغي عليها في هذه المرحلة، أعني مرحلة تربص عدوها بها، ألا تقف مكتوفة الأيدي أمامه، مغترة بهدوئه الخادع، بل لابد لها من تنشيط همتها و تجديد نشاطها على مستوى تدينها خاصة، بحيث ينبغي أن تستحضر بأفرادها و جمعياتها ومجتمعها الضابط التعبدي في كل حركاتها و سكناتها، وتخلص النية لله-عز وجل- في كل ما تأتي وتذر من جهودها، كل في مجاله الذي يسره الله له، وإلا كانت لحظة الانقضاض، انقضاض العدو المفترس الذي لا يألو في مؤمن غلا و لا ذمة، وهي اللحظة الحالقة لحرمات الأمة.

فلابد إذن من دفاع تديني عارم يتجدد به الإيمان في النفوس، أفرادا و مؤسسات، وإلا يُفعل تكن فتنةً في الأرض وفسادٌ كبير كما نصت على ذلك كليتا الدفاع القرآنيتان، إذ مجرد تذوق بسيط لهما يكشف لنا أن وظيفة الدفاع المركزة في آية البقرة في قوله-عز و جل- ” لفسدت الأرض” جاءت مبسوطة في آية الحج في قوله تعالى” لهدمت صوامع و بيع وصلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ” و الهدم- وهو من أرقى صور الفساد في غياب الدفاع- إنما يلحق معالم التدين الحق عبر التاريخ. بمعنى أن درء الفساد عن الأرض، مذ شرع الله الشرائع، لم يكن ابتداءً إلا بإحياء هذه المعالم، باسترجاع وظائفها الحقيقية.

فالمساجد التي هي المدارس الأولى للتدين الصحيح في شريعة الإسلام ينبغي أن تيسر لما خلقت له، فيذكر فيها اسم الله كثيراً. ولا ريب في أن الذكر و إن تعلق بأسماء الله الحسنى، لا يراد به مجرد الذكر اللساني الذي لا يتجاوز الحناجر، وإنما يراد به ما هو أعمق من ذلك وأعرق، وهو الذكر القلبي و العقلي معاً، إذ هو أصل الذكر اللساني، فكل نشاط تعبدي لساني، إلا وله أًصل في القلب ينبغي أن يُربط به.

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما جُعِل اللسان على الفؤاد دليلا.

فهذا النوع من الذكر المستحضر لرقابة الله، هو الذي ينبغي أن يسود في كل شبر من بلاد الإسلام. وينبغي أيضا أن يستصحبه المسلم حيثما كان ولو خارج بلاد الإسلام.فالأرضون كلها، إلا ما استثنى الشرع من بعض بقعها، مساجد كما أخبر عليه السلام” جُعِلت لي الأرض مسجدا وطهوراً”، ومن ثم ينبغي ألا يحال بينها وبين أداء وظيفتها الكبرى التي هي ذكر الله كثيراً.

فالذكر على هذا النحو متى امتد امتداد بلاد الإسلام، وخالط قلوب أهلها فرادى وجماعات ومجتمعات، هو الذي يحفظ التدين، و يدفع البلوى، و يورث الأمان،و يُوطِّئ لمنِّ الله على عباده وتمكينه لهم في الأرض {ونريد أن نمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين}. حتى إذا ما قدر الله البلاء، لم يعز على الأمة تلمس سبيل الاهتداء إلى النصر بإذن الله.

ولقد سرنا كلما عصفت بنا العواصف مسيرات و مسيرات، لكنها لم تُـثمر النتائج المرجوة، فظلت مجرد صيحاتِ غضب، ذلك أنًّا ضعيفو التدين، بعيدون عن الذكر بمعناه الصحيح.

الدفاع المحارب

> الثاني :  الدفاع المُحارِب: وهو الذي تتسع فيه رقعة التدافع وتمتد،و تتنوع فيه أسلحة المتدافعين،فيأخذ صورة حرب حقيقية، تبرز فيها حِلية كلتا القوتين الشاهية و الغاضبة، وإنما الحرب حربان: جائرة يطلب بها المحارب غصب منافع غيره، و عادلة ينتصف بها المُحِقّ من المبطل.

وكثيرا ما عرض القرآن عبر قصصه مشاهد من هذه الحرب، مختلفة زمانا و مكانا و إنسانا، لكنها ذات طبيعة واحدة تقوم بين متدافعين جائر و عادل، فاسد  صالح.

ولا ريب في أن الاهتمام بالقصص القرآني بِقصد استلهامِ لبِناتِ النّصرِّ فيه من أجل توظيفها في ساحة المدافعة، أمر لما يستوف حقّه من العناية الفائقة بعد على الرغم من وفرة مادته، و رحابة ساحته في القرآن الكريم.و كله شريط يكاد يكون مرئيا لجملة من أشكال التدافع الإنساني عبر التاريخ. نعم لقد تم الاهتمام بالجانب الجمالي لهذا القَصص، بيد أن ذلك وحده لم يكن لِيَفي بالغرض، فكان لابد من الانتقال من مرحلة تذوقه التذوق الفني إلى مرحلة تفقهه الفقه الحكيم المتذوِّق لِلَبنات النصر فيه استنباطاً و تنزيلاً.

والنصر في اللغة يأتي على معانٍ منها الظفر و العون انتصافاً للمظلوم- وهو المراد هنا- ومنها العطاء وإتيان البلاد، وكلها تؤول إلى “أصل صحيح يدل على إتيان خير و إيتائه” كما قال ابن فارس في المعجم.

و لَبِنات النّصر دعائمه و مقدماته التي يكون هو بمثابة النتيجة الطبيعية لها بحيث يتحقق بعد توافرها وجوده و حقيقته.

القرآن الكريم وأشكال التدافع الإنساني

و القرآن الكريم بشتى موضوعاته وأفانينه حافل بتلك اللبنات، غير أن تقصيها يحسن أكثر ما يحسن في القصص القرآني خاصة، و ذلك لاعتبارات:

القصص القرآني وِعاء لأشكال التدافع الإنساني عبر التاريخ، بحيث يعرض صراعات بين طرفين جائر وعادل، فاسد وصالح، وهما يمثلان بالتبع القوتان الشاهية و الغاضبة، ويحسم النتيجة دائما لصالح أهل الحق و الصلاح. فكان لزاما-والحالة هذه- على المقصود بهذا الخطاب البحث في مقدمات هذه النتيجة وأسبابها.

سلوك القرآن في سوق القصص والأخبار أسلوب التوصيف و المحاورة، أو طريقة التصوير كما قال الأستاذ الشهيد. ذلك أن” التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن… وبه تصبح_ الحوادث والمشاهد والقصص شاخصة حاضرة، فيها الحياة و فيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل”. و استخلاص لبنات النصر ومقوماته من هذا القصص الموصوف المصور يكون أقرب و أيسر من استخلاصه في باقي الموضوعات الأخرى التي قد لا تتوافر فيها قوة التصوير المبثوثة في القصص القرآني بحيث تصير القصة مشهدا محسوسا و صورة حية لا يعزب عن المتلقي شيء منها.

عرض القرآن لهذا القصص بهذا الأسلوب يجعل أحيانا الأحداث تتعاقب، والمشاهد تتابع، فيسهل بذلك استخلاص ما ينبغي استخلاصه منها و بانتظام فتأتي العبر و الفوائد فيها كالبنيان المرصوص.

وإذا كان التصوير و التوصيف ميزة القصص القرآني عامة، فإن تتابع الأحداث وتعاقبها لا يتأتى في كل قصص القرآن، بل نادرا ما يتحقق ذلك، لأن القرآن إنما ” يذكر القصص و الأخبار للموعظة والاعتبار، لا لأن يتحادث بها الناس في الأسمار” كما قال الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله، فيكون عرض القرآن للقصة كلها أو بعضها بحسب قدر الموعظة المناسب للمقام.

و بعد، فهذه نماذج لبعض لبنات النصر من خلال قصة موسى عليه السلام، وقصة طالوت و جالوت مذيلة ببعض أدلتها. وهي تنادي صارخة أن حال المأساة و الوهن التي عشناها قرونا، وحصدنا بموجبها الهزائم تلو الهزائم والنكبات تلو النكبات ليست نتيجة عجز عن تحقيق النصر بالوسائل والأدوات بقدر ما هو عجز عن تحقيقه بعد التدين الحق بالأركان و اللبنات، ذلك أن امتلاك القوة لا يكفي في نصرة دين الله و في تحقيق الصلاح المقصود من الدفاع كما رسمه القرآن ما لم تكن هناك قيادات راشدة و صبر على البلاء و الابتلاء ويقين مستمر في الله بالنصر.

 لبنــــــات النـــصــر

القيادة الـراشدة

الصبر على البلاء والابتلاء

اليقيــن في الله بالنصر

الصلاح و استمرار التقوى

1- قــصة  موسى

{واصطنعتك لنفسي}

{وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردّا يصدقني}

{و قال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}

{قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا}

{وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا}

{إن الأرض لله يورثها من يشاء عباده والعاقبة للمتقين، قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا. قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم و يستخلفكم في الأرض فينظر كيف تفعلون}.

{أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، و نطبع على قلوبهم فهم لايسمعون}.

2-  قـــصة طالوت وجالوت

{إن الله اصطفاه عليكم و زاده بسطة في العلم و الجسم}.

{إن الله مبتليكم بنهر.}.

{والله مع الصابرين}.

{ربنا أفرغ علينا صبراً}.

{قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله  كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله}.

{ولما برزوا لجالوت وجنوده، قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين}.

ذ. عبد المجيد بالبصير

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>