من خصائص هذا العصر
إن خاصية من خصائص هذا العصر هي أنها تجعل المرء يفضّل الحياة الدنيا على الحياة الباقية بعلم، حتى غدا تفضيله هذا كأنه دستور عام وقاعدة عامة. فهذا العصر العجيب الذي أثقل كاهل الإنسان بالحياة الدنيوية بما كثّر عليه من متطلبات الحياة وضيّق عليه مواردَها، وحوّل حاجاته غير الضرورية إلى ضرورية بما ابتلاه من تقليد الناس بعضهم بعضاً ومن التمسك بعادات مستحكمة فيهم.. جعل الحياة والمعاش هي الغاية القصوى والمقصد الأعظم للإنسان في كل وقت. فأسدل بهذه الأمور حجاباً دون الحياة الدينية والأخروية والأبدية، أو في الأقل جعلها أمراً ثانوياً أو ثالثياً بالنسبة له(2)..حتى صدق عليه قوله تعالى : (يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة)(3).
واذكر مثالاً :
كنت ضيفا عند أستاذ فاضل. سلّمني مسودة كتاب قد ألّفه حديثا في العقيدة ، تصفحت الكتاب ووجدته يبحثعن الأركان الإيمانية سوى الركن المهم وهو الآخرة . فقلت: أخي الكريم لِمَ لم تبحث عن الآخرة ؟ فقال : الكتاب يتضمن ذلك. وعندما سلّمت له المسودة وتصفحها هو الآخر وجد أنه قد نسي الركن الإيماني الآخرة. فقال: حقا لقد نسيت الآخرة.
ثم ألقى الأستاذ المحترم محاضرة في إحدى المناسبات الدينية بعنوان ( الركن الذي نسيناه) وبعد ذلك نشر المحاضرة في مجلة شهرية تحت العنوان نفسه.
سلّم اهتمامات الإنسان
إن أحوال العالم الحاضرة ولاسيما الحياة الدنيوية ولاسيما الحياة الاجتماعية والحياة السياسية خاصة وأخبار الحروب الطاحنة في أرجاء العالم.. كلها تستميل أذهان الناس إلى جانبها وتهيّج أعصابهم وتنفخ في عروقهم حتى تدخل إلى باطن قلوبهم.. لذا نرى علماء أجلاء، قد جعلوا حكم الحقائق الإيمانية في سلم اهتماماتهم وفي موازينهم وتقييمهم للأحداث والوقائع، في الدرجة الثانية والثالثة، ويسقطون من حسابهم البعد الأخروي للقضية، وذلك بسبب ارتباطهم الوثيق بتلك الحياة السياسية والاجتماعية.
وعندما سئل الأستاذ النورسي:
- لقد أخذت الحرب العالمية الثانية باهتمام الناس وشغلت الكرة الأرضية وأوقعتها في اضطراب وقلق، وهي ذات علاقة بمقدرات العالم الإسلامي، إلاّ أننا نراك لا تسأل عنها رغم مرور خمسين يوما على نشوبها … فهل هناك قضية أعظم منها تشغل بالك؟ أم أن الانشغال بها فيه خسارة وضرر؟.
كان جوابه :
إن رأس مال العمر قليل، ورحلة العمر هنا قصيرة، بينما الواجبات الضرورية والمهمات التي كُلّفنا القيام بها كثيرة، وهذه الواجبات هي كالدوائر المتداخلة المتحدة المركز حول الإنسان :
فابتداء من دائرة القلب والمعدة والجسد والبيت والمحلة والمدينة والبلاد والكرة الأرضية والبشرية، وانتهاء إلى دائرة الأحياء قاطبة والعالم اجمع، كلها دوائر متداخلة بعضها في البعض الآخر. فكل إنسان له نوعمن الوظيفة في كل دائرة من تلك الدوائر. ولكن اعظم تلك الواجبات وأهمها، بل أدومها بالنسبة له هي في اصغر تلك الدوائر وأقربها اليه، بينما أصغر الواجبات واقلها شأناً ودواماً هي في أعظم تلك الدوائر وأبعدها عنه. فقياساً على هذا :
تتناسب الوظائف والواجبات تناسباً عكسياً مع سعة الدائرة، أي كلما صغرت الدائرة – وقربت – عَظمت الوظيفة، وكلما كبرت الدائرة – وبَعُدت – قلت أهمية الوظيفة..
ولكن لما كانت الدائرة العظمى فاتنة جذابة، فهي تشغل الإنسان بأمور غير ضرورية له، وتصرف فكره إلى أعمال قد لا تعنيه بشيء، بل قد تجعله يهمل واجباته الضرورية في الدائرة الصغيرة القريبة منه..
نعم، إن أمام كل إنسان – ولاسيما المسلم – مسألة مهمة، وحادثة خطيرة هي اعظم من الصراع الدائر بين الدول الكبرى لأجل السيطرة على الكرة الأرضية. تلك المسألة هي من الأهمية والخطورة ما لو امتلك الإنسان العاقل قوة الدول الكبرى وثروتها، لَما تردد في أن يضعها كلها لأجل كسب تلك القضية المبتغاة.
تلك القضية هي القضية المصيرية للإنسان وهي: أن يكسب الإنسان بالإيمان، ملكاً عظيماً خالداً ومساكن طيبة في جنات عدن عرضها عرض السموات والأرض، أو يخسر دونه، وذلك هو الخسران المبين(4).
فهذه هي قضية الإنسان الكبرى، الفوز بالجنة والنجاة من النار. ولكن ينبغي أن نميّز بين منهج الأنبياء في الدعوة إلى الآخرة وبين منهج الإصلاحيين في الدعوة إليها . فقد وفق الله سبحانه الأستاذ الجليل أبوالحسن على الحسني الندوي رحمه الله، في بيان هذا الفرق فقال: “لم تكن دعوة الأنبياء إلى الإيمان بالآخرة، أو الإشادة بها “كضرورة خلقية، أو كحاجة إصلاحية، لا يقوم بغيرها مجتمع فاضل ومدنية صالحة، فضلا عن المجتمع الإسلامي، وهذا وإن كان يستحق التقدير والإعجاب، ولكنه يختلف عن منهج الأنبياء وسيرتهم، ومنهج خلفائهم اختلافاً واضحاً، والفرق بينهما أن الأول -منهج الأنبياء- إيمانٌ ووجدانٌ، وشعورٌ وعاطفةٌ، وعقيدةٌ تملك على الإنسان مشاعرَه وتفكيَره وتصرفاته، والثاني اعترافٌ وتقريرٌ، وقانونٌ مرسومٌ، وأن الأولين يتكلمون (عن الآخرة) باندفاع والتذاذ، ويدعون إليها بحماسة وقوة، وآخرون يتكلمون عنها بقدر الضرورة الخلقية، والحاجة الاجتماعية، وبدافع من الإصلاح والتنظيم الخلقي، وشتان ما بين الوجدان والعاطفة، وبين الخضوع للمنطق والمصالح الاجتماعية”(5).
ذ. إحسان قاسم الصالحي
—————
1- انظر الملاحق ص 145
2- سورة إبراهيم:3
3- انظر الشعاعات ص 252-253
4- النبوة والأنبياء، أبو الحسن علي الحسني الندوي ص52
5- الكلمات ص 195-197