نحن وهم – 3- في  الإصلاح التربوي والتعليمي


الإصلاح سمة من سمات الحياة، فحينما يقوم مجتمع باصلاح في مجال من المجالات فإنَّ ذَلِك يعني أن هذا المجتمع حي يطمح إلى ما هو أحسن في المجال ليعود عليه بما هو أنفع وأجدى.

لكنّ الإصلاح المجدي هو بمثابة علاج للمرض، والعلاج يأتي بعد الشخيص، والعلاج بعد ذلك قد يكون بدواء محلي، وقد يؤتى به من بعيد إن دعت الضرورة إلى ذلك.

معنى هذا مفهوم الاصلاح يختلف عن مفهوم التغيير بل ويختلف حتى عن مفهوم التطوير، لأن الاصلاح كما يقول أحد أساتذتنا العارفين بالمصطلح، هو محاولة الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، بينما التغيير على عكس ذلك، وأما التطوير أو التطور فهو الانتقال من طور إلى طور سواء أكَانَ المنتَقَلُ إليه أعلى أم أدنى.

والإصلاح التربوي بالذات هو جوهر الاصلاحات كلها، لأنه بالنهوض التربوي تنهض الأمة بكل قطاعاتها الأخرى، وبالركود التربوي تركد كل القطاعات الأخرى لذا ما فتئت الأمم التي لها مسكة من تمدن وتقدم تُعْنى بالتّربية مُصْلِحةً لأُسُسِها ومَناهِجها وكل ما يتعلق بها، باحثة عما يمكن أن ينهض بِهَا وأن يقود المجتمع إلى ما يعود عليه بالنفع.

في سنة 1999م التقّيت بأستاذ جامعي ياباني فذكر لي أن اليابان حينما عزمت على إصلاح التعليم العالي في بداية الستينات من القرن الماضي، بعثت ببعثات إلى كل الجامعت المعروفة في العالم، بما في ذلك الجامعة المصرية، لتدرس تجاربها في الاصلاح، وعادت بما عادت به، وعرضت نتائج ما حصلت عليه على المسؤولين، جمع هؤلاء هذه النتائج، وأخضعوها للدراسة والتحليل. وقبل ذلك كانوا قد قاموا بدراسات ميدانية شخصوا فيها الايجابيات والسلبيات لواقع التعليم عندهم. وفي ضوء ذلك كله خرجوا بمشاريع إصلاحية تعتمد الايجابيات التي عندهم، وتتجاوز السلبيات بتبني عدد من إيجابيات تجارب التعليم العالي عند الشعوب الأخرى وبذلك كان إصلاحهم إصلاحاً وطنيا، جاء بعد تشخيص الداء، فأدى ذلك كله إلى ازدهار التعليم العالي في اليابان، وبازدهاره ازدهر الاقتصاد ونما، وأصبحت اليابان تعد الآن من الدول الصناعية الكبرى كما هو معروف.

حينما ذَكَر لي هذا الاستاذ تجربتهم في الإصلاح تذكّرت تجربتنا نحْنُ، وتذكَّرْتُ بالذات أواسط الثمانينات حينما كانت الجامعة المغربية بصدد مناقشة أحد مشاريع الإصلاح، المعروف بـ”وحدات القيمة” (U.V) أتذكر جيداً حينما كان الأساتذة يناقشون هذا المشروع الذي أرادت الوزارة أن تتبناه، وخلال تلك الأيام زارنا مجموعة من الأساتذة الفرنسيين، ولما عرفوا ما نحن فيه، قال لنا أحدهم : “إن نظام “وحدات القيمة” نظام فاشل وقد انتهينا منه وليس فيه أي شيء إيجابي، لقد خرب تعليمنا”، لم يعقب أحد من الأساتذة المغاربة ولكن الكل علم أن الوزارة الوصية آنذاك طرحت مشروعاً أكل عليه الدهر وشرب.

وأنا أكتب للقارئ الكريم هذا الآن، أشير إلى أن الدافع إليه هو واقع الجامعة المغربية الآن، التي هي بصدد تطبيق إصلاح أثبت فشله منذ البداية. لن أدخل في التفاصيل، التي ربما سأعود إليها في مقال لاحق إن شاء الله، ولكن من باب المقارنة أقول أيضا، إن أبرز شيء في هذا النظام الجديد هو نظام الفصول بدل نظام السنوات. ونظام الفصول مطبق في الشرق العربي منذ سنوات، وقبل سنتين عقدت في سوريا ندوة حضرها عدد كبير من الأساتذة والمسؤولين الجامعيين العرب بما فيهم عدد من المغاربة وكان موضوع الندوة يدور حول تطوير الجامعة وخاصة كليات الآداب والتربية، وكان مما ألحّ عليه عدد من الأساتذة وخرج ضمن توصيات الندوة أن تتم العودة إلى التدريس بنظام السنوات بدل نظام الفصول، نظراً لأن نظام الفصول جعل من الجامعة ومن كليات الآداب بالذات مدرسة أو ثانوية كبرى ليس أكثر.

قلت في نفسي إن هذا لهو العجب العجاب بلدان عربية جربت نظام الفصول، ووجدت النظام فاشلا،  ونحن أقبلنا عليه من جديد، وقبل ذلك كنا سنقبل على نظام الوحدات الذي وجدته فرنسا نظاماً فاشلا.. لست أدري ماذا نجرب في مدارسنا وجامعاتنا، هل نجرب المشاريع الفاشلة، التي تزيد الطين بلة، أم أننا نستورد المشاريع النظرية كما نستورد الأجهزة المادية؟؟ أليست لدينا إمكانيات لتشخيص الداء حتى ننتج برامج إصلاحية وطنية تحافظ على هويتنا وتضمن لنا التقدم وتمكننا من الانفتاح على الغير، كما فعلت اليابان أم أننا عاجزون عن ذلك ولا نستطيع إلا الاستيراد.

كلمة أخيرة عن الاصلاح التربوي في بلداننا العربية الاسلامية لكن ليس في الجامعة وإنما في المدارس الابتدائية والثانوية. منذ سنوات بدأ الحديث عن إصلاح المناهج الدراسية في عدد من البلدان العربية والإسلامية باملاءات خارجية، وكان القصد إزالة مواد التربية الاسلامية  أو على الأقل ابعاد مضمونها عن التأثير في الفرد أو المجتمع، فتصبح جسداً بلا روح وقالبا بلا قلب.

هذه الأيام بالذات وأثناء الانتخابات الأمريكية تحدثت كل وسائل الاعلام عن دور الدين في صناعة الرئيس الأمريكي الحالي، فلقد كان فاشلا في حياته ودراسته، ولكن دراسته للانجيل جعلت منه رجلا آخر، فتبنى الفكر المسيحي في شكله المتطرف وصدرت عنه “فلتات” عن لسانه تحدثت عن الحرب الصليبية في العالم الاسلامي، كما صدرت عن شخصيات مسؤولة في البيت الأبيض تصريحات معادية للاسلام ونبيه وأهله، مرات متتالية، هذا ما ذكرته وسائل الاعلام هذه الأيام، ولاشك أن العاقل أمام هذه المفارقة لا يُمكنه إلا أن يسجل أن غَيْرنا حريصون على الالتزام بأديانهم غيورون على أوطانهم طامحون بكل صدق إلى تقدم أكثر، وعلم بذلك ولضمان ذلك يريدون لنا أن نبتعد عن ديننا، أن تُمْحى وطنيتنا أن تبقى وراء عجلة التقدم، فمتى يستفيق من يريد لناما يريده لنا غيْرنا، وينتبه إلى أن لا تقدم لنا إلا إذا انطلقنا من ذاتنا أولا، وأن أيّ إصلاح في أي مجال ينبغي أن ينطلق أولا من تشخيص الداء، وألا يؤتى بالعلاج من الخارج إلا إذا استنفد العلاج في الداخل.

د. عبد الرحيم بلحاج

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>