نحن وهم – 2- في أسس التربية ومقتضياتها


نجاح أي نوع من أنواع التربية رهين بسلامة أسسها وصفاء مقتضياتها ووضوح أهدافها وغاياتها. وأي خلل في هذه الأسس أو المقتضيات، وأي غبش في وضوح الأهداف يؤدي بالتأكيد إلى نتائج سلبية، وقبل ذلك إلى ظهور أورام خبيثة في جسم التربية على جميع مستوياتها، ما تلبث أن تأتي على بنيانها فتصبح جسما بلا روح، وقالبا بلا قلب.

أكبر ورم يعاني منه عصب التربية في مجتمعنا ورم ما يسمى “بالساعات الإضافية” التي أرهقت كاهل الآباء بفاتورات شهرية تتزايد بتزايد عدد الأطفال، وأرهقت كاهل الأبناء بحجم عدد الساعات التي يدرسونها آناء الليل وأطراف النهار، “وأرهقت” كاهل شريحة من المدرسين بواجبات تدريسية خارج نطاق المؤسسات، فملأت جيوب عدد منهم بقدر ما أفرغت جيوب الآباء.

لكن ما الذي يمكن أن يشاهده المتتبع في مجتمعنا عن هذه الظاهرة؟

- أول ما نلاحظه هو تغييب مادة اللغة العربية والتربية الإسلامية من هذه الساعات. اللغة العربية اللغة الرسمية للبلاد، ولغة حضارتنا وثقافتنا وديننا، والتربية الإسلامية التي تُعْنى ـ على الأقل من الناحية النظرية ـ بعقيدة الأمة وشريعتها وامتدادها الحضاري والجغرافي، هاتان المادتان لا نصيب لهما في الساعات الإضافية، وكأن أبناءنا كلهم سبويه في اللغة، ومالك في الفقه مع أن طلبتنا في الجامعة وفي التخصصات الأدبية، لا بل في تخصص اللغة العربية وآدابها يجهلون أبسط قواعد النحو التي يدرسه التلاميذ عادة في المدارس الابتدائية، وكذا الأمر في تخصص الشريعة الاسلامية، يجهلون أبسط أركان الاسلام، بله فقه المعاملات، ولا حتى فقه العبادات، ولعلنا استقبالا سنبسط في هذا الركن، بإذن الله، ما يشاهد لدى طلبتنا في الجامعة من ضعف شكلا ومضمونا.

- وفي مقابل ذلك هناك تسابق محموم لتعلم اللغات الأجنبية وإتقانها وخاصة الفرنسية والانجليزية. حتى إن المراكز والمؤسسات والأفراد الذين يدرسون هذه اللغات يعرفون إقبالا منقطع النظير.

- وفي مقام ثالث هناك المواد العلمية التي تشكل بورصة المواد المدرسة في التخصصات العلمية، حتى إن التلميذ الذي لا يدرس في هذه الساعات الإضافية، وعند أساتذته بالذات، لا يحصل على نقطة جيدة، بل قد لا يحصل على المعدل أصلا، لأن الاتكال على ما يُدرس داخل الأقسام، لا يفي بالمقصود لأسباب عديدة.

لكن ما ذا عن هذا في مجتمعات غيرنا من الذين نقلدهم ونقتفي آثارهم؟

- أول ما يلاحظ عندهم هو اهتمام كل شعب بلغته وكل أمة بحضارتها وثقافتها الخاصة، حتى إن الاتحاد الذي يجمع أوربا على متانته السياسية والاقتصادية والعلمية لم يستطع محو الحدود اللغوية، سواء بالنسبة لأبناء أوربا، أو للوافدين على هذه الدول. أبناؤهم متفوقون في لغتهم لا لأنهم يتكلمونها في الشارع، ولكن لأن البرامج الدراسية حازمة في إعطاء الأولوية للغة الوطن الرسمية. وأما الوافدون الذين يفدون من أجل الدراسة خاصة، فالشرط الأول ليس هو إتقان لغتهم فحسب ولكن حمل شهادة فيها. أما تعلم اللغات الأخرى فمشروط ومقنن بالبرامج الدراسية وبالمعاملات التي تحمي دائما لغة الوطن الرسمية.

- أما ما يعرف بالساعات الإضافية فيعكسه قانون واضح، وأبرز ما في هذ ا القانون هو منع المتاجرة بهذه الساعات، بحيث لا يعقل ولا يمكن أن يتصور ربط مصير التلميذ ومستقبله، وقبل ذلك وبعده مستواه، بساعات إجبارية قد لا يكون الجدوى منها إلا الحصول على نقط مرتفعة.

د. عبد الرحيم بلحاج

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>