لقطات من المعركة
> تقدم الملك المظفر إلى سائر الولاة بإزعاج الأجناد في الخروج للسفر ومن وجد منهم قد اختفى يضرب بالمقارع! فلما كان الليل ركب السلطان وحرك أعلامه وقال: أنا ألقى التتار بنفسي. فلما رأى الأمراء مسير السلطان ساروا على كره!
> أقسم المظفر لقادة الصليبيين في فلسطين أنه متى تبعه منهم فارس أو راجل يريد أذى عسكر المسلمين رجع وقاتلهم قبل أن يلقى التتر!
> أمر الملك المظفر بالأمراء فجمِعوا، وحضهم على قتال التتار وذكرهم بما وقع بأهل الأقاليم من القتل والسبي والحريق، وخوّفهم من وقوع مثل ذلك، وحثّهم على استنقاذ الشام من التتر ونصرة الإسلام والمسلمين، وحذّرهم عقوبة الله، فضجوا بالبكاء وتحالفوا على الاجتهاد في قتال التتر ودفعهم عن البلاد.
> عندما اصطدم العسكران اضطرب جناح عسكر السلطان وانتقض طرف منه فألقى الملك المظفر عند ذلك خوذته عن رأسه إلى الأرض وصرخ بأعلى صوته: (واإسلاماه!) وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة، فأيّده الله بنصره..
> مرّ العسكر في أثر التتر إلى قرب بيسان فرجع التتر والتقوا بالمسلمين لقاء ثانياً أعظم من الأول فهزمهم الله وقتل أكابرهم وعدة منهم، وكان قد تزلزل المسلمون زلزالاً شديداً فصرخ السلطان صرخة عظيمة سمعه معظم المعسكر وهو يقول: (واإسلاماه!) ثلاث مرات: (يا الله انصر عبدك قطز على التتار!) فلما انكسر التتار الكسرة الثانية نزل السلطان عن فرسه ومرغ وجهه على الأرض وقبلها، وصلى ركعتين شكراً لله تعالى ثم ركب، فأقبل العساكر وقد امتلأت أيديهم بالمغانم!
> كتب السلطان إلى دمشق يبشر الناس بفتح الله وخذلانه التتر، وهو أول كتاب ورد منه إلى دمشق. فلما ورد الكتاب سرّ الناس به سروراً كثيراً وبادروا إلى دور النصارى الذين كانوا من أعوان التتار فنهبوها وخربوا ما قدروا على تخريبه، وقتلوا عدة من النصارى واستتر باقيهم، وذلك أنهم في مدة استيلاء التتر هموا مراراً بالثورة على المسلمين وخربوا مساجد ومآذن كانت بجوار كنائسهم، وأعلنوا بضرب الناقوس وركبوا بالصليب وشربوا الخمر في الطرقات ورشّوه على المسلمين!
> لما بلغ هولاكو كسرة عسكرة وقتل نائبه كتبغا، عظم عليه فإنه لم يكسر له عسكر قبل ذلك..
> .. وأتم الملك المظفر السير بالعسكر حتى دخل دمشق، وتضاعف شكر المسلمين لله تعالى على هذا النصر العظيم، فإن القلوب كانت قد يئست من النصرة على التتر لاستيلائهم على معظم بلاد الإسلام، فابتهجت الرعايا بالنصرة عليهم وبقدوم الملك المظفر إلى الشام. وفي يوم دخوله إلى دمشق أمر بشنق جماعة من المنتسبين إلى التتر فشنقوا.. وأنشد بعض الشعراء:
هلك الكفرُ في الشآم جميعاً
واستجدّالإسلامُ بعد دحوضِهِ
بالمليك المظفرالملك الأو
رع سيف الإسلامِ عند نهوضِهِ
ملك جاءنا بعزم وحزم
فاعتززنا بسحره وببيضهِ
أوجب الله شكر ذاك علينا
دائما مثل واجبات فروضِهِ
الأرقام التي يريدها الله ورسوله
فليس من المبالغة القول بأن عين جالوت شهدت معركة حاسمة على المستويات العسكرية والسياسية والعقيدية والحضارية عموماً..
ها هنا، في قلب فلسطين، وبعد ما يقرب من مضي قرن على معركة حطين الفاصلة، أجرى التاريخ نزالاً لا يقل حسماً بين قوتين متقابلتين : الإسلام والوثنية، التحضر والجاهلية، والالتزام بالقيم والانفلات منها.. وكان انتصار المسلمين يعني انتصاراً على الوثنية، والتحضر على الجاهلية، والقيم على الانفلات..
ومؤشرات الثقة بالنفس والإيمان بالنصر والقدرة على تجاوز الهزائم والنكسات والتي كادت تصل بالمسلمين إلى نقطة الصفر.. جاءت هذه المعركة المباركة لكي ترتفع بها ثانية صوب الأرقام التي تليق بمكانة المسلمين في العالم.
وها هنا -أيضاً- نشهد المعادلة الواضحة التي لا تمنح جوابها العادل إلا إذا تجمع طرفاها في تكافؤ متقابل: الأخذ بالأسباب، والإيمان الواثق العميق بالله وبعدالة القضية التي يجاهد المسلمون من أجلها.. وبدون تحقق هذا التقابل فلن يكون هناك نصر أو توفيق.. ولن يحتاج الأمر إلى مزيد شواهد أو نقاش، فإن مجرى التاريخ الإسلامي الطويل يعرض علينا عشرات بل مئات وألوفاً من الشواهد على هذا الذي تعرضه علينا واقعة عين جالوت..
وهذه شهادة المؤرخ الإنجليزي المعاصر ستيفن رنسيمان في كتابه الحروب الصليبية يقول: (تعتبر معركة عين جالوت من أهم المعارك الحاسمة في التاريخ.. ومن المحقق لو أن المغول عجلوا بإرسال جيش كبير عقب وقوع الكارثة لتيسر تعويض الهزيمة، غير أن أحكام التاريخ حالت دون نقض ما اتخذ في عين جالوت من قرار. فما أحرزه المماليك من انتصار أنقذ الإسلام من أخطر تهديد تعرض له. فلو أن المغول توغلواإلى داخل مصر لما بقي للمسلمين في العالم دولة كبيرة شرقي بلاد المغرب، ومع أن المسلمين في آسيا كانوا من وفرة العدد ما يمنع من استئصال شأفتهم، فإنهم لم يعودوا يؤلفون العنصر الحاكم. ولو انتصر كتبغا النصراني، لازداد عطف المغول على النصارى ولأصبح للنصارى السلطة لأول مرة منذ سيادة النحل الكبيرة في العصر السابق على الإسلام. على أنه من العبث أن نفكر في الأمور التي قد تحدث وقتئذ، فليس للمؤرخ إلا أن يروي ما حدث فعلاً إذ أن معركة عين جالوت جعلت سلطة المماليك بمصر القوة الأساسية في الشرق الأدنى في القرنين التاليين، إلى أن قامت الدولة العثمانية.. فما حدث من ازدياد قوة العنصر الإسلامي وإضعاف العنصر النصراني لم يلبث أن أغوى المغول الذين بقوا في غرب آسيا على اعتناق الإسلام. وعجلت هذه المعركة بزوال الإمارات الصليبية، لأن المسلمين المظفرين، حسبما تنبأ مقدم طائفة فرسان التيوتون، أضحوا حريصين على أن يتخلصوا نهائياً من أعداء الدين).
ولم يشأ رنسيمان أن يشير إلى أن انتماء مغول غربي آسيا إلى الإسلام لم يكن بسبب وجودهم في قلب أكثرية إسلامية فحسب، بل وهذا هو الأهم، لما يمتلكه الإسلام نفسه من قدرة ذاتية على الجذب والتأثير، وفاعلية دائمة في التغلب على العناصر المناوئة الغريبة واحتوائها.
ومهما يكن من أمر فإن المعركة الفاصلة حققت وحدة بين مصر والشام كانت ذات قيمة استراتيجية كبيرة في صراع الإسلام ضد خصومه التاريخيين.. إذ أصبحت الذرع الذي يقي المسلمين هجمات المغول الشرسة، ويمكن -في الوقت نفسه- من مجابهة التحدي الصليبي ومحاولة استئصال وجوده من الأرض الإسلامية.
وليس ثمة غير الوحدة من طريق
إنها الوحدة نفسها التي سهر عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود على إقامتها، وجاء الناصر صلاح الدين من بعدهما لكي يبني عليها انتصاراته الحاسمة ضد الصليبيين الغزاة ويحرر القدس.. وها هي معركة عين جالوت تشد الآصرة مرة أخرى وتمنح المسلمين الأرضية التي سيتحركون عليها عبر العقود القادمة لمجابهة الخصوم ودفعهم إلى إحدى اثنتين: الاذعان لكلمة الإسلام أو العودة من حيث جاؤوا.. لقد ملأت المعركة الفراغ المخيف الذي كان يمكن أن يتمخض عن سقوط الخلافة العباسية وتفتت السلاجقة من قبل، فأتاحت للقيادة المملوكية الشابة أن تعوض عالم الإسلام عما فقدَ هناك..
.. وهناك البعد الحضاري
وثمة من يقول بأن المعركة خدمت أوربا نفسها وحفظت مدنيتها، كما يرى بروان وغيره، وهذا حق.. فإن المغول كانوا يطمحون لغزوها وتخريبها، ولكن تقليم أظافرهم في عين جالوت فضلاً عن عوامل أخرى صدّهم عن المضي في الطريق إلى نهايته.
هذا إلى أن المعركة حققت للحركة الحضارية الإسلامية القدرة على مواصلة المسير، وعلى أن تتجاوز محنة الدمار والتخريب الذي شهدته بغداد.. فها هي ذي في مصر والشام والمغرب تنجز المزيد من العطاء وتتحقق بالإبداع في جوانب عديدة وساحات شتى.. وليس كما يقال من أن عالم الإسلام دخل عصر الظلمة بعد سقوط بغداد.. وليس ابن خلدون وابن كثير وابن تيمية وأبو الفدا والسيوطي والسخاوي وابن القيم والجزري.. وغيرهم كثيرون، سوى إشارات على طريق هذا التحقق المبدع الذي شهدته حضارة الإسلام يومَها..
آن الأوان لكي نتعلم من التاريخ
لقد شهد تاريخ الإسلام سلسلة متطاولة من المعارك الفاصلة، منذ وقعة بدر التي فرق الله بها بين الحق والباطل، ومكّن لدعوته الناشئة في الأرض.. وإلى أن يشاء الله.. ولكن يبقى لمعركة عين جالوت ثقلها وأهميتها وخصوصيتها.. ذلك أنها جاءت وظلام الإعصار الوثني المتحالف مع الصليبية يكاد يطبق على نور التوحيد ويطمس على ألقه.. فردّت على القوة بالقوة، وقارعت سيف الشيطان بسيف الله، وعلمت الناس عموماً والمسلمين خاصة، بالانتصار الباهر الذي حققته، كيف يكون الإيمان الجاد المعزز بالرؤية الواعية والتخطيط المدروس، قديراً على تحقيق المعجزات..
واليوم وقوى الضلال، المادية والصهيونية والاستعمارية الجديدة، تتجمع مرة أخرى في محاولة شرسة للإطباق على الإسلام عقيدة وشريعة وأمة وحضارة ودولاً..
فإن لم نتعلم من (عين جالوت) سوى حقيقة أنه بالإيمان والثقة والعزم والتصميم، يمكن أن نجابه المحنة ونتفوق عليها.. فكفى بذلك من كسب تمنحنا إياه مطالعاتنا الجادة في التاريخ.. وإنه قد آن الأوان لكي نتعلم من التاريخ..
أ. د. عماد الدين خليل
> مجلة الأمة، العدد التاسع، رمضان 1401 هـ ، نقلاً عن موقع الفسطاط.