من ثمرات الصيام


لعل أهم ثمرات الصوم إيتاء القدرة على الحياة مع الحرمان في صورة ما..

كنت أرمق النبي  وهو يسأل أهل بيته في الصباح : أثَم ما يفطر به؟ فيقال : لا! فينوي الصيام، ويستقبل يومه كأنه لم يحدث شيء.

ويذهب فيلقى الوفد ببشاشة ويبتُّ في القضايا، وليس في صفاء نفسه غيمةٌ واحدة ! وينتظر بثقة تامة رزق ربه دونما ريبة، ولسان حاله : {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}.

قلت: لو جاءني إفطاري دون شاي لسختُ!! ولرفضت إمضاء ورقةٍ على مكتبي، بَلْهَ كتابة مقال!!.

إنها لعظمةٌ نفسيةٌ جديرة بالإكبار أن يواجه المرءُ البأساء والضراء مكتمل الرشد، باسم الثغر، والأفرادُ والجماعات تقدر على ذلك لو شاءت!.

وأعتقد أن أسباب غَلَب العرب في الفتوح الأولى قلةُ الشهوات التي يخضعون لها، أو قلة العادات التي تعجز عن العمل إن لم تتوفر. يضع الواحد منهم تمرات فيجيبه وينطلق إلى الميدان، أما جنود فارس والروم فإن العربات المشحونةَ بالأطعمة كانت وراءهم، وإلا توقفوا.

وقد اعتمد غاندي على هذا السلاح عندما حارب “بريطانيا” العظمى.. كان الإنتاج البريطاني يعتمد على الاستهلاك الهندي.. وقرَّر غاندي أن ينتصر بتدريب قومه على الاستغناء :نلبس الخيش ولا نلبَس منسوجات “مانشيستر”، نأكل الطعام بدون الملح ما دامت الدولة تحتكره، نركب أرجلنا ولا نركب سياراتهم

وقاد حركة المقاطعة رجل نصف عار جائع، يتنقّل بين المدن والقرى مكتفيًا بكُوب من اللبن.

واستجابت الجماهير الكثيفة للرجل الزاهد، وشرعت تَسِيرُ وراءه فإذا الإنتاج الإنكليزي يتوقَّف، والمصانع تتعطل، وألوفٌ مؤلفة من العمال الإنجليز يشكون البطالة. واضطرتْ الحكومةُ إلى أن تطلب من “غاندي” المجيء إلى لندن كي يتفاوض معها، أو يُمْلي شروطه عليها!!.

وحَيَّاهُ أحمد شوقي -وهو ذاهب إلى لندن- بقصيدته التي يقول فيها محذرًا من ألاعيب الساسة:

وقل: هاتوا أفاعيكم أتى “الحاوي” من الهند.

إن الإنسان الذي يملكُ شهَوَاته قوةٌ خطيرةٌ، والشَّعْب الذي يملك شهواته قوةٌ أخطر، فهل نعقل؟؟..

أحفظ للشيخ الكبير “محمد الخضر حسين” -شيخ الأزهر الأسبق- كلمة عظيمة:

“لست أنا الذي يهدَّد؛ إن كوبًا من اللَّبن يكْفيني أربعًا وعشرين ساعة”!.

ومن قبله قال الشيخ عبد المجيد سليم وقد حذروه من غضب جهات عالية:

“أيَمْنَعُني ذاك من التردُّد بين بَيْتي والمسْجِد؟ قالوا: لا.. قال: لا خَطَر إذَن؛ ليس هناك ما يُخاف”..

من أركان العظمة أن يجعل الرجل مآربه من الدنيا في أضيق نطاقٍ مستطاع إنه يُعْيِي عدوَّه بذلك الاستعفاف أو الاستغناء.

وذاك نهج الشّرف الذي خطّه علي بن أبي طالب عندما قال: “استَغْن عمَّن شئت تكن نَظِيره، واحتجْ إلى من شئت تكن أسيره”.. وما يستقيم على هذا النهج إلا امرؤٌ يُحسن الصيام..

أعجبتني هذه الوصية لأبي عثمان النوري لابنه، وأثبتها الجاحظ، وليس لي في كتابتها إلا فضْلُ النقل..

“يا بني: كلْ مما يليك، واعلم أنه إذا كان في الطعام لقمةٌ كريمة أو شيء مستطرَفٌ فإنما ذلك للشّيخ المعظَّم أو الصبي المدلَّل، ولست واحدًا منهما.

يا بني عوِّد نفسك مجاهدة الهوى والشهوة، ولا تنهش كالسباع، ولا تقضم كالبغال، ولا تلقم لقم الجمال، فإن الله جعلك إنسانًا فلا تجعلْ نفسك بهيمةً، واعلم أن الشبضعُ داعيةُ البَشَم، والبشم داعية السَّقم، والسقم داعية الموت، ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتةً لئيمة، لأنه قاتَلَ نفسه، وقاتل نفسه أَلأَمُ من قاتل غيره. يا بني: والله ما أدَّى حقَّ الركوع والسجود ممتلئٌ قطٌّ! ولا خَضَع لله ذو بِطْنة، والصومُ مصحَّة والوجباتُ عيش الصالحين.

يا بني: قد بلغت تسعين عامًا ما نقص لي سنُّ، ولا انتشر لي عصب، ولا عرفت ذنين أنفٍ، ولا سَيَلان عين، ولا سلس بول، وما لذلك علةٌ إلا التخفُّف من الزاد. فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تحب الموت فتلك سبيل الموت، ولا أبعد الله غيرك”..

هذه وصية رجل لا يعرف عبادة الجسد التي تهاوى فيها أبناءُ هذا العصر، والتي جاء فيها قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}(الحجر)، وقوله : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ}(محمد).

وتجْتاح الناس بين الحين والحين أزماتٌ حادةٌ تقشعرُّ منها البلاد، ويجف الزرعُ والضرعُ، ما عساهم يفعلون؟ إنهم يصبرون مُرْغَمين، أو يَصُومون كارهين، ومِلّءُ أفئدتهم السخط والضَّيْق.. وشريعة الصوم شيءٌ فوق هذا، إنها حِرمان الواجد، ابتغاء ما عند الله. إنها تحمِلُ للمرء منه مندوحة -لو شاء- ولكنه يُخْرِس صياح بطنه، ويرجئ إجابة رغبته، مُدَّخرًًا صبرَه عند ربه، كيْما يلقاه راحةً ورضًا في يوم عصيب {ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ}(هود).

وربط التعب بأجر الآخرة هو ما عناه النبي  في قوله : >من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه<!..

إن كلمتي “إيمانًا واحتسابًا” تعنيان جهدًا لا يستعجل أجره، ولا يُطلب اليوم ثمنه؛ لأن باذله قرر حين بذله أن يجعله ضِمن مدَّخراته عند ربه.. نازلاً عند قوله {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا}(النبإ).

وسوف يجد الصائم مفطرين لا يعرفون لرمضان حرمة ولا لصيامه حِكْمة، إذا اشتهوا طعامًا أكلوا، وإذا شاقَهُم شراب كَرَعُوا.. ماذا يجدون يوم اللقاء؟..

إنهم يجدون أصحاب المدَّخرات في أُفُق آخر، مفعم بالنعمة والمتاع، ويحدِّثُنا القرآن الكريم عمن أضاعوا مستقبلهم فيقول {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ، الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}(الأعراف).

إن الصيامَ عبادةٌ مضادّة لتيار الحياة الآن، لأن الفلسفات الماديةَ المسيطرةَ في الشَّرْق والغرب، تعرفُ الأرض ولا تعرف السماء، تعرف الجسم ولا تعرف الروح، تعرف الدنيا ولا تعرف الآخرة.

ليكُن للقوم ما أرادوا، ذلك مبلغهم من العلم!.. بيْدَ أننا نحن المسلمين يجب أن نعرف ربّنا، وأن نَلْزَم صراطه، وأن نََصُُوم له، وأن ندَّخِر عنده!..

على أن هناك حقيقةً مؤسفةً هي أن الصُّوام قِلةٌ وان امتنع عَنِ الطعام كثيرون!

 فضيلة الشيخ محمد الغزالي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>