منذ سنوات خلت فاز صحافي غربي بجائزة أحسن صورة التقطت، وإن لم تخنني الذاكرة فالصورة كانت تؤرخ لفصل مؤلم من فصول المجاعة بالقرن الإفريقي، حيث تبدو فيها طفلة ليس في جسدها إلا العظام فقط، وهي تزحف في أرض قاحلة جرداء بحثا عن الطعام، ونسر كاسر ينتظر بيقين تام سقوطها الوشيك للانقضاض عليها وافتراسها، فما أشبه الوضع العربي بهذه الصورة حيث الأكلة الغربيون يشحذون سكاكينهم وشوكاتهم وأسنان دراكولا التي يوارونها عبثا خلف شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان لينقضوا علينا ” سرطا بلا مضغا ” كما تقول أمي، أي ابتلاعا بلا مضغ!!..
ففي الوقت الذي كان فيه العالم ذاهلا أو غير عابئ، يتابع مجازر القوات الأمريكية في الفلوجة الصامدة، ومذابحها بين المثلث السني والشيعي، بحجة تعقب وحش هوليودي السيناريو يدعى أبا مصعب الزرقاوي وصحبه، وفي الوقت الذي كانت فيه القوات الصهيونية تمطر الشعب الفلسطيني بالموت الناري، قياما وقعودا وعلى جنبه في غزة وتتصيد المقاومة كما الفئران لتفتتها بالمتفجرات كما لو كانت مجرد ألعاب فيديو، والمجتمع الدولي يناشدها بلغة الحملان!! التوقف ويكفيها ما لقنته للإرهابين من دروس في عدم التجرؤ على محضية زعيمة العالم، في هذا الوقت بالتمام والكمال كان الاستعماريون الجدد يهربون إلى الأمام بتحريك بيدق جديد في رقعة الشطرنح الأمريكية الصهيونية تحت مسمى “دارفور”..
وسيقت الحجج والمفردات الطنانة كالعادة لتسويغ نقل الانتباه والغضب المتفاقم جراء ما يحدث في الفلوجة وسامراء وقطاع غزة، فقيل إن ما يجري في السودان جرائم ضد الإنسانية وحرب إبادة وتطهير عرقي!!..فما الذي يجري حقا خلف الستارة السينمائية؟!
إن الراصد للعدسات الاستعمارية سيلحظ بيسر كيف تحاول خفت الأضواء على سبيل المثال حول ثـعلب الخليج “رامسفيلد” وتسليطها على المقاومة والزرقاوي، وكيف تـخفت الأضواء حول شارون وتسلطها على ياسر عرفات وحماس والجهاد الإسلامي، وكيف تـخفت الأضواء حول الحركات الانفصالية المسيحية كمرتزقة جون جارانج المستقوية بأمريكا وإسرائيل وتسلطها على عمر البشير والحكومة الإسلامية.إلا أن من يطلع على ملف دارفور بعيدا عن الخداع السينمائي سيكتشف كما لو بمجرد صدفة، وكما المألوف، أن النفط وأشياء أخرى لا علاقة لها بالبشر والعواطف مضيا على سنة العراق وأفغانستان، لازالت هي العامل المشترك والحاسم في الاحتلال، موازاة مع حصار العامل الديني والإسلامي بالخصوص لتسهيل هذا الاحتلال، وفي المقابل، تعبيد الطريق لقوافل التنصير الموفورة الدعم، تحت غطاء المساعدات الإنسانية. وقد علم من مصادر موثوقة أن هناك حوالي 30 منظمة في هذا المضمار بمنطقة دارفور لوحدها، وبالتالي فقد أصبح في خضم هذه اللجج المدلهمة من قبيلالكلام الشبيه بالأكل البائت الحديث عن الصمت العربي الإسلامي، لأن من يطلع على سير الحملة الاستعمارية الجديدة والشعارات المرافقة لها كالديمقراطية وحقوق الإنسان، وكذا خبايا استراتيجياتها في إعادة تشكيل الأنظمة والخرائط العربية والإسلامية، ويعرف طبيعة التدبير السياسي الرديء للكثير من هذه الأنظمة، سيعلم يقينا أن لكل منها عضوا موجعا في مكان ما من جسدها المتآكل، له علاقة بافتقار عضوي لهذه الشعارات، وبالمحصلة فليس من مصلحتها أن تطيل رقبتها أكثر من فسحة مـحارتها وإلا فستكون لها معيشة ضنكا!!
وقريبا من مكر السياسة والجغرافيا، فالمتتبع للشأن الإفريقي يعلم أن الرقعة التي يجري التهافت لتمزيق أوصالها هي منطقة نفوذ فرنسي بالدرجة الأولى، وقد لاحظنا كيف أن فرنسا منذ ابتعادها عن القاطرة الأمريكية في العدوان على العراق، واندماجها في محور “العقلاء والمتريثين” في مسألة غزو العراق، بدأت تشعر بأنفاس الإدارة الأمريكية قريبا من أذنها بمناطق نفوذها في إفريقيا، فلا يستبعد أن تدخل هذه الحملة في إطار التنغيص على فرنسا لإجبارها على تليين مواقفها. ومن جهة أخرى فإن خلق كيانات هزيلة ومزعجة في نفس الآن في السودان، مرة في الجنوب ومرة في الشمال و مرة في الغرب، وتزويدها بالمال والعتاد وظهر الأمم المتحدة لشرعنة تواجدها،من شأنه إضعاف السلطة المركزية واستـنـزافها في فتن متلاحقة، لاسيما إذا كانت هذه السلطة “على علاتها” سلطة إسلامية وتبسط نفوذها على أرض زاخرة بالثروات الزراعية والمعدنية من نفط ويورانيوم، ودارفور غنية في هذا المجال، وإذا عرف السبب بطل العجب، فقد أشارت صحيفة “الجارديان” البريطانية إلى هذا الأمر بكل وضوح، بقولها إن النفط سيكون القوة المحركة في أي غزو عسكري خارجي للسودان، وقالت أن التدخل العسكري في السودان سيوفر خزان نفط ضخم وغير مستـغلفي جنوب إقليم دارفور والسودان بصفة عامة.
أما إسرائيل وموقعها في خريطة قطاع الطرق هذه، والشبيه بتلك النكتة التي تقول إن مفتشا دخل القسم فوجده في حالة من الفوضى العارمة، فبدأ يسأل كل واحد من التلاميذ عما اقترفه فكان أهونهم شغبا، تلميذ قال إنه رمى ب”كريطينة” فقط، من النافذة، فظن المفتش أن الأمر يتعلق بعلبة كارتون فحسب، وفي الغد أخبر المفتش أن تلميذا يوجد في المستشفى في حالة حرجة، وحين سأل عن إسمه قالوا إنه يدعى “كريطينة”.
أفلسنا جميعا نسخة من كريطينة هذا المسكين، وإسرائيل هي هذا التلميذ “الدرويش” المنضبط، وبعبارة أخرى، فإسرائيل توجد حتما وراء الكثير من متاعب السودان لا سيما إذا علمنا ما للوجود الصهيوني في الإدارة الأمريكية من نفوذ، والرغبة الكبيرة لإسرائيل في تقليم أظافر دولة راعية للمد الثوري الإسلامي ضد الكيان الصهيوني وهي السودان، وفي نفس الآن، التربع علىخياشيم مصر المتاخمة للسودان وقص أجنحتها القومية والإسلامية الرمزية عند الاقتضاء، فلا غرابة أن يكون صقورها بالإدارة الأمريكية وراء الإعداد للانقضاض على السودان. ولأن الشيء بالشيء يذكر، فمن مصادر إعلامية غربية هناك تسرب لأخبار عن ضربة أكيدة للمفاعلات النووية الإيرانية قبل متم شهر أكتوبر، لدعم حظوظ بوش في الفوز برئاسة ثانية، يدفع في اتجاه أجرأتها صقور الإدارة الأمريكية، ولاأحد تخفى عليه أصول هؤلاء الصقور كما أسلفنا..
فهل يكون شهر رمضان مرة أخرى شهر الانكسارات في طبعتها الأكثر مأساوية بعد أن عودنا أجدادنا الأماجد أن يكون هذا الشهر شهرالانتصارات الربانية الباهرة يا حسرة؟؟..
وعذرا خالد، عذرا صلاح الدين،
وآه من أنادي والخطوب تثرى، لاه هو المعتصم، لاه هو المنادى!!