{وأنفقوا خيرا لأنفسكم}
هناك أمر يحدد مستقبل الأمة الإسلامية ويرسم لها طريق الفلاح وطريق النجاح وهو الدعوة القرآنية إلى الانفاق.
الله تعالى يدعو في هذه الآية وفي آيات كثيرة المؤمنين إلى أن ينفقوا. ويسمى هذا الانفاق خيرا، وهو خير لنفس الانسان، والذي وقاه الله تعالى الشح فهو من المفلحين. إذن فأشياء كثيرة تترتب على هذا الانفاق.
الإنفاق شرط ضروري
لإقامة الحضارة
الانفاق هو الإخراج، أنفق الشيء بمعنى أخرجه، قد يكون وقتًا أو غيره، ولكن هنا الحديث بخصوص المال، فينفق الإنسان خيرا لنفسه.
لماذا يتحدث القرآن كثيرا عن النفقة، وعن الإنفاق؟ لماذا؟ لأن هذا الأمر مهم وشرط ضروري لقيام الحضارة الإسلامية.
إن الحضارة الإسلامية حضارة ينشئها الإنفاق، وأما التقتير والبخل والحرص والجمع، فإن ذلك كله يوقف حضارة الإسلام ويعرقل سيرها. ولا يمكن أن نتصور أن هناك أمة يمكن أن ترتقي بلا إنفاق، في جميع المجالات، أي في مجالَيْها الدنيوي والأخروي. إذ نحن لدينا البعدان الدنيوي والأخروي. أمّا الأمم الأوربية أو الأمريكية وغيرهم فليس لهم إلا المجال الدنيوي. وما وصلوه في المجال الدنيوي كان بسبب الإنفاق.
إنفاقنا في التفاهات أخّرنا وإنفاقهم في تطوير العلوم والمؤسسات قدّمهم
ولكن هم أنفقوا في أشياء مصيرية في أشياء مهمة. خلافا لنا نحن الذين ننفق في التفاهات. ننفق في ما لا يفيد. نحن مغرَمُون بالرقص والفلكلور، وهم ينفقون في مشروع إيجاد مفاعل نووي، قد يستغرق القدرة المالية لأمة، قد يستنزف خزانة الدولة، تُصْرَف أموال طائلة في حرب النجوم -كما سموها- وتُخصَّصُ أرصدة عظيمةٌ للبنتاغون مثلا في أمريكا، ويتناقش النواب وممثلو الأمة عن هذه المصاريف الضخمة التي تصرف على عسكرة الفضاء، وعلى التجارب النووية، ومع ذلك -تقريبا- فالجميع يسلم بأن هذا الأمر أمْرٌ ضروري. إذن فالأمم المتقدمة أنفقت وأنفقت كثيرا من أجل تحسين دنياها، فأوجدت المعامل الضخمة، وأوجدت أدوات الإنتاج والتسخير التي بهاتستخرج خيرات الأرض وكنوزها المخبوءة، وأوجدت الأشياء الكثيرةَ التي تسيطر بها على الأمة الإسلامية الضعيفة.
إنفاق دولنا ومجتمعاتنا بدون دراسة وهدف محرّر الإرادة
أخَّرنا ويؤخرنا كثيرا
الإنفاق شرط ضروري لقيام الأشياء الدنيوية والأخروية، ونحن في دنيانا لا ننفق إنفاقاً هادفاً واضح المعالم، نحب أن نصل إلى النتائج كلها بأَقلّ كُلْفة وبأقل نفقة. نحن نريد المشاريع المهمة ونريد الأهداف العظيمة ولكن نريدها مجانا تقريبا، هذا لا يمكن، كل شيء يقتضي نوعا من النفقة مناسبا لحجم المطامح والمشروعات، فينبغي أولا :
تعيين المشروعات وآفاقها والآمال المنوطة بها..
مثلا عندما تريد أن تنشىء مدرسة، تخرج جيلا متعلما دارسا، جيلا تناط به الآمال, مدرسة غير حكومية، مدرسة خاصة، هذهالمدرسة لها مهمة خطيرة جدا، أن تأخذ الطفل من والديه جاهلا، غضا طريا، وتريد أن تجعله في المستوى المناسب ليتلقى العلوم فيما بعد. فماذا نفعل نحن في مدرستنا؟ نأخذ مجموعة من الشباب الحامل للشهادات ونطلب منهم أن يدرسوا هؤلاء الأطفال. هذا جيد، فهو تشجيع للشباب على العمل. لكن كم هو أجْرُهم، تُعْطى لهم أجورٌ زهيدة ويقال لهم تعاونُوا بها على أموركم. هل نحن هنا بصدد توزيع المعونة؟ هل هذا الشاب جاء ليعمل ويكسب ما يعتاش منه، ويتزوج ويسكن أم هو يعمل في التعاون الوطني؟.
هذا مشروع تعليمي بدون هدف، وهذا معلم بدون هدف، هل هذا التعليم يمكن أن ينشئ أمة متقدمة في جميع الميادين، تعليم مبني على عقلية التعاون الوطني، وعقلية التصدٍّق والإحسان لا يفيد.
يجب منح المعلم أجره كاملا ليمكنه أن يؤدي واجبه كاملا، نحن نعتصر الإنسان عصرا، ونستخرج منه عصارته، ولكن بدون مقابل هذا لا يُنْشِئُ شيئاً، وحينئذ تكون النوايا سيئة من الطرفين. الأول لم يجد فرصة أخرى للعمل فيضطر للقبول تمضية للوقت، والآخر يعيش ليجمع الأموال باطلا. والنتيجة ما هي؟ ضياع جيل من الشباب تنشأ تحت هذه الكذبة. وتسمى عملاً تربويا.
إذن الإنفاق أيها الإخوة في حياة الناس، أي من أجل قيام نهضة حقيقية دنيوية، لابد فيها من إعطاء كل شيء ما يستحقه من أنواع النفقة بتحديد ومحاسبة، مشروع اقتصادي يحتاج نفقة كذا، مشروع صناعي يحتاج نفقة كذا، مشروع تجاري يحتاج كذا، مشروع عسكري يحتاج كذا. فلا بد حينئذ من الإنفاق المنظّم المحدّد الأهداف والأنواع زماناً ومكاناً.
ولا يجوز للناس أو المسلمين كأمة أن تبخل على المرافق بما يجب لها من رعاية على مستوى الدولة والمجتمع.
نحن نحتاج إلى الإنفاق الحقيقي على البحث العلمي، لا يمكن أن يكون لديك بحث علمي وأنت لا تنفق على المختبرات، عندما تهتم بالملاعب ولا تهتم بالمختبرات لا يمكن للأمة أن تقوم أبدا، لأن الملاعب جزء من الأنشطة المرفِّهة وليست العصب الضروري للتقدم.
المختبر فيه يتدرب العلماء عندنا، سواء في كليات العلوم، أو كليات الطب، في كليات مختلفة، وهذا يستنزف أموالا لا شك في ذلك، ولكنه ليس شيئا ضائعا. لا بد أن يُعْطى المختبر لا بد أن يجهز من أجل أن تتقدم الأمة، لا يمكننا أن نبخل في مثل هذه الأشياء التي هي حيوية بالنسبة للأمة، هذه مسألة عامة، وهناك مثيلاتها من المسائل الكبيرة.
المسلمون ابتداءا من عهد الصحابة. أي بعد وفاة الرسول وقع لهم شيء من الاختلاف في فهم قضية الإنفاق، أي نشأ في بداية حياة الأمة الإسلامية نزاع اقتصادي، ونشأ يومها مذهب اقتصادي، مستلهم من القرآن، من فهم القرآن والسنة.
وانطلاق هذا المذهب كان من قول الله تعالى :{والذين يكْنِزُون الذهب والفضَّة ولا يُنْفِقُونها في سبيل الله فبشِّرْهم بعذاب أليم، يوم يُحْمَى عليها في نَار جَهَنَّم فَتُكْوى بِهَا جِبَاهُهُم وجُنُوبهم وظُهُورهم، هذَا ما كَنَزْتُم لأَنْفُسِكُم فذُوقُوا ما كُنتُم تكْنِزُون}(سورة التوبة).
إذن فالذي يكْنِزُ هذَا هو الوعيدُ الذي يستحِقُّه، ولكن ما هُوَ الكَنْزُ؟ كيف نُسَمّي الشيء كنْزا؟ حتى لا نكْنِز ولا نكون ممَّنْ ينطَبِق عليهِمْ هذا الأمر؟ ماذا نفعل؟ أسئلة عديدة انطلقت من خلال التأمل في الآية، وتعدُّدِ الفهم لها.
بعض فقهاء الصحابة قالوا : إن المال إذا أديت زكاته فقد أعطي منه ما هو في سبيل الله بمعنى أن الذي أدَّى زكاةَ ماله لَيْسَ من المكتنزين.
إذن حتى لا تكون من المكتنزين فأعط زكاة مالك، ولو كان قدرا زهيدا جدا، (مائة درهم مثلا)، وإلا فأنت من المكتنزين، لأن الزكاة ليست فرضا على الأغنياء فقط، فكل من بلغ النصاب الذي تجب فيه الزكاة وجبت في حقه، طالبٌ في الجامعة إذا كان لديه ما تجب فيه الزكاة وجب عليه أن يزكيها. إذن المال إذا أديت فيه الزكاة لا يصير صاحبه كانزاً، هذا كان هو قول غالبية الصحابة رضوان الله عليهم وكان هناك من يقول في المال حق سوى الزكاة. وهذا بحث طويل يحتاج التوقف عنده إلى دروس أخرى.