مع سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم : شروط الاصطفاء (1)


تمهيد :

الاختلاف سنة كونية للتكامل والتدافع :

إن الله تعالى لم يخلق الناس سواسية لا في اللون واللسان والجمال، ولا في الطول والقصر، ولا في القُوَّة البدنية وغير ذلك من الأشياء المحسوسة، كما لم يخلقهم سواء في الطاقات المعنوية من كمال في العقل أو نقصان فيه، ومن ذكاء أو بلادة، ومن قوة فهم وتفكر وتدبر أوعدم مبالاة… الى غير ذلك من أنواع الاختلافات العديدة الضرورية لتكامل الانسان ماديا ومعنويا من جهة، ولتدافعه الحضاري من جهة أخرى، كي يشعر الانسان على ظهر هذا الكوكب بالتنوُّع والتجدُّد، ويَتِمَّ الإعمَار الحضاري المتوازن.

والذي يُهِمُّنا في هذه العجالة هو اختلاف القلوب في تَقَبُّل هُدَى الله أو رفضه، إذْ على أساس القبول يكون النهوض بأمانة الاستخلاف، وعلى أساس الرفض يكون النكوص عنها، وبين النهوض والنكوص مسافات يصعب تجاوزها لاختلاف الإقلاعات والمنطلقات والتوجهات، وللتبصير بهذه المسافات اعتنى القرآن الكريم والسنة النبوية بتوضيح أنواع المواقف التي تواجهُ بها القلوبُ المتنوعة عَرْضَ هُدَى الله تعالى ودِينه عليها.

وعند التأمل نجد أن القلوب في القرآن والسنة لا تخرج عن أصناف ثلاثة واضحة، وصنف رابع متأرجح ينتظر الإمداد ليتمحص هنا أو هناك.

فأما الأصنافُ الثلاثة فهي : قلوب الكافرين، والمنافقين، والمومنين، وأما الصنف الرابع فهم ضعفاء الإيمان الذين ينتظرون الإمداد الدعوي ليتمحضوا للخير والعمل الصالح، فإذا لم يجدوا البيئة الدعوية تمحضوا للشر الصراح وأصبحوا حربا على الخير وأهله.

وهذا التصنيف ورد في القرآن بأساليب مختلفة، إلا أن الرسول  جمعه بشكل مفصل في الحديث التالي: >القُلُوبُ أربعة : قَلْبٌ أجْرَدُ فيه مِثْلُ السِّراجِ يزهر، وقَلْبٌ أغْلَفُ مربوطٌ على غلافه، وقَلْبٌ مَنكُوسٌ، وقَلبٌ مُصْفَح -جامع بين الإيمان والنفاق- فأمَّا القلْبُ الأجْرَدُ فقلْب المُومن، فسراجُهُ فيه نُورُه، وأما القَلْبُ الأغْلَفُ فقَلْبُ الكافر، وأما القلْبُ المنكوس فقَلْبُ المنافق الخالِصِ عَرَفَ ثُمَّ أنْكَرَ، وأما القلْبُ المُصْفَحُ فقَلْبُ فيه إيمَانٌ ونفاقٌ، مَثْلُ الإيمان فيه كمثْل البُقْلة يُمِدُّها الماء الطيِّبُ ومِثْلُ النِّفاق كمِثْلِ القُرحة يُمِدُّها القَيْحُ والدَّمُ فأي المادَّتَيْنِ غَلََبَتْ على الأخرى غَلَبَتْ عليه<-رواه ابن كثير باسناد جيد، انظر تربيتنا الروحية سعيد حوى ص : 55-.

وبناء على هذا التصنيف للقلوب، فإن القلوب الصالحة للنهوض بأمر الدعوة هي قلوب المومنين الزاهرة بمصابيح الهدى والتقى، والعثور عليها يحتاج لشروط ضرورية لابد أن تتوفر في المصطفَى لهذه المهمة الخطيرة، مهمة الدعوة لدين الله تعالى والاصطباغ بقدسيتها وربانيتها وأول هذه الشروط :

1 -  جَوْدَة المنبت وسلامة الفطرة  :

إن الله تعالى خلق الانسان مفطوراً على الاعتراف بِرَبِّه: خالقه، ورازقه، ومحْييه ومُميته… {فَأَقِمْ وَجْهَكَ للِدِّين حَنيفاً فطْرةَ اللهِ التي فطَرَ النَّاسَ علَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لخلقِ اللَّهِ} (الروم)، إلاّ أن الانسان قد يتعرَّضُ لعوامل عديدة خارجية تُؤثِّرُ في توجيهه -بحكم استعداده لتقَبُّلِ الهدى والضلال- فتجعله ينحرف ويتوجَّه الوِجْهَة التي لا تَتَناسبُ مَعَ ما فُطِر عَلَيْهِ الإنسان من حُبِّ العبودية لله رب العالمين، وبذلك يُصْبح عبداً لله بالقهر والاضطرار، ولكنه عَبْدٌ للأهواء والشهوات بالرضى والاختيار، قال رسول الله  >كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ على الفِطْرَة، فأَبَواهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرانِهِ ويُمَجِّسَانِهِ، كما تُولَدُ بَهِيمَةٌ جَمْعَاءُ، هل تَحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ< متفق عليه. وقال  >يَقُولُ الله : إنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فاجْتَالَتْهمْ عَن دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ<-رواه الإمام مسلم- وقال الأسود بن سريع : غزوت مع رسول الله  أربع غزوات، فتناوَلَ القوم الذُّرّيَّة بعْدَما قَتَلُوا المُقَاتِلَةَ -أي صاروا يقتلونها أيضا- فبلغ ذلك رسول الله ، فاشتدَّ عليه، ثم قال : >مَابَالُ أقْوَامٍ يتَنَاوَلُونَ الذُّرِّيَّة؟؟< فقال رجل : يارسول الله أليْسُوا أبْنَاءَ المشركين؟ فقال : >إنَّ خِيَارَكُمْ أبناءُ المُشْرِكِين!! أَلاَ إنَّهَا لَيْسَتْ نَسْمَةٌ تُولَدُ إِلاَّ وُلِدَتْ عَلَى الفِطْرَةِ، فَمَا تَزَالُ عَلَيْهَا حَتَّى يُبينَ عنْهَا لِسَانُها فأبَواهَا يُهَوِّدَانِهَا ويُنَصِّرَانِهَا<-رواه الطبري انظر ابن كثير 2/261- .

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>