مع سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم : المــراحــــل الضـــرورية لاصطفاء العـــامـلـــين


جـ- مرحلة التعاون والتآزر :

وهي المرحلة التي يحصل فيها الاقتناع التام بسلامة التوجه الإيماني والدَّعوي، والاطمئنان التام للصّف المتماسك بروح الإخلاص، ورِبَاطِ العَقِيدَةِ الصافية، يُفْصِحُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ صِدْقُ السَّيْرِ في طريق المحبّة والتآخي المنزَّهَيْن عن كلِّ شَوَائِب الرياء والطمع والمصلحة الشَّخْصِيّة، قال رسول الله  >إنَّ رَجُلاً زَارَ أخاً له في قَرْيَةٍ أُخْرَى فَأَرْصَدَ اللَّهُ عََلَى مَدْرَجَتِهِ -طريقِه- مَلَكاً، فَلَمّاً أتى عَلَيْهِ، قال : أَيْنَ تُرِيد؟ قال : أُريدُ أخاً لي في هذه القرية، قال : هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنَ نِعْمَةِ ترُبُّهَا -تَقُومُ بها وتَسْعَى في صلاحِها- عليه؟ قال : لا، غَيْرَ أَنِي أَحْبَبْتُه في الله تعالى، قال : فإِنِّى رسول الله إلَيْكَ، بأَنَّ اللَّه قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ<-رواه الإمام مسلم، انظر رياض الصالحين 155-.

وميادين التعاون والتآزر كثيرة جدا منها : التعاون على حفظ كتاب الله تعالى وفهمه، والتعاون على فهم السنة النبوية، والتعاون على إنجاز رحلات مشتركة بأهداف معينة، والتعاون على القيام بزيارات لأشخاص صالحين، أو لأماكن ذات قيمة إيمانية عميقة، والتعاون على أداء طاعات تطوعية يُتقَرَّبُ بها إلى الله تعالى… إلى غير ذلك من الميادين التي تدخل ضمن قوله تعالى {وتَعَاوَنُوا علَى البِرِّ والتَّقْوى} وقوله تعالى : {وتَوَاصَوْا بالحَقِّ وتَوَاصَوْا بالصَّبْر} وتدخل ضمن قوله  >الدِّين النصيحَةُ، قلنا : لمن؟ قال : للَّه ولِرَسُولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعَامَّتِهِمْ<-رواه الامام مسلم انظر رياض الصالحين 91-.

وقَوله  >مَنْ دلَّ عََلَى خَيْرِ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ<-رواه الإمام مسلم، انظر الرياض88- وقوله  >مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أجور من تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِك مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً<-رواه الإمام مسلم، انظر تتمته في الرياض 88-.

د- مرحلة التشارك والتوحُّد :

قال الله عز وجل لموسى : {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنّهُ طَغَى}-سورة طه- فاسْتَعْظَمَ كَلِيمُ اللَّهِ عليه السلام الأمر، واستشعر ثِقْل المسؤولية وجَسَامَةَ التكليف، ولكن لا منَاصَ، فذلك هُو ثمن اصْطفائه للأمر الجليل، أن يَدْعُوَ النّاسَ إلى عبادة الله الواحد الأحد، ولكن قبل ذلك عليه أن يواجه واحداً من الذين لَمْ يَكْتَفُوا بالعِصْيان والتمرُّد على الله، بَلْ خرج عن هذا النطاق وعتَا عتوّاً كبيراً، فتألّه مع الله تعالى ودعا الناس إلى عبادته، فكان ذلك قِمَّة الطُّغْيان، فأنَّى لموسى عليه السلام أن يواجهه وحده؟؟ فلذلك طَلَبَ عليه السلام من ربّه أن يَمْنَحَهُ قوة ذاتية، بأن يَشْرح الله تعالى صَدْرَهُ للدَّعوة ليتحَوَّل التكليفُ إلى مُتْعَة، والعَنَاءُ إلى لَذَّةٍ، وأن يُيَسِّر أمْرَهُ لِكَيْ يَضْمَنَ النجاح في مُهِمَّتِهِ، فالإمدَادُ بالتَّيْسِيرِ أعظم زادٍ في طريق طويلٍ شائِكٍ لا يَعْلم نهايتَه إلا الله تعالى رب الدَّعْوةِ وحاميهاَ وناصِرَها {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ويَسِّرْ لِي أَمْرِي واحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي واجْعَلْ لِي وزِيراً مِنَ أَهْلِى هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أزْرِي وأشْرِكْهُ فِي أمْرِ ي كَيْ نُسَبِّحَك كَثِيراً ونَذْكُرَكَ كِثِيراً إِنَّك كُنْتَ بِنَا بَصِيراً}-سورة طه-.

ولم يكتف موسى عليه السلام بطلب القوة الذاتية، بل طَلَب من الله عز وجل أن يُقَوِيهُ بِمُعِينٍ ومناصر له من أسرته، وذلك بأن يجْعَل أخاه هاروه عليه السلام وزيراً له كي يشركَهُ في أمر الدعوة، ويساعده على أعبائها.

فلقد جعلها موسى عليه السلام سنة للدعاة كي يلتجئوا إلى الله تعالى طالبين منه العون والقوة المنبعثة من الذات، والعون والقوة المنبعثَتَيْن من رِفاق المسجد والمحراب، ورفاق التضرع والتبتُّل، ورفاق التسبيح والتذكر لله تعالى بمختلف أنواع القُربات، وعلى رأسها الدعوة للخير وتحبيب الله تعالى لعباده العاملين المصطفين الأخيار، الذين يضعون اليد في اليد، والشعور في الشعور، والاهتمام في الاهتمام، والذات في الذات ليصبحوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

ولقد جعلها موسى عليه السلام سنة للدعاة أيضا كي يطلبوا العون الداخلي والخارجي من الله تعالى لغاية واحدة كبيرة صافية نقية هي التسبيح الكثير، والحمد الكثير، وذلك يُمثل قمة العبودية التي يَعْقُبها الفوز العظيم، والنصر المبين، بإذن الله تعالى العظيم الكريم، قال  >الطَّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ والحَمْدُ للّهِ تَمْلأُ المِيزَان، وسُبْحَانَ اللَّهِ والحَمْدُ للّهِ تَمْلآنِ -أو تَمْلأُ- ما بَيْنَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، والصَّلاَةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهَانُ، والصَّبْرُ ضِيَاءٌ، والقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أو مُوبِقُهَا<-رواه الإمام مسلم أنظر الرياض 24-.

ولقد تزود واحد من صحابة رسول الله  بالتسبيح والحمد فجاءه الفرج في الحال، من عند العلي المتعال، عن ابن عمر أن رسول الله  بعث جَيْشاً فيهم رجل يقال له (حُدَيْرٌ) وكانت  تلك السَّنة قد أصابتهم سَنَةٌ -شدَّة- من قلة الطعام، فزودهم رسول الله، ونسي أن يُزَوِّدَ (حُدَيْراً) فخرج (حُدَيْر) صابراً محتسبا، وهو فى آخر الركب يقول : (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ، واللَّهُ أَكْبَرُ، والحَمْدُ للَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، ولاَ حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللّهِ) ويقول : >هو نِعْمَ الزَّادُ يَارَبّ< فهو يردِّدها فى آخر الركب، فجاء جبريل إلى النبي  فقال له : >إن ربِّي أرسلني إليك يُخبرك أنك زَوَّدت أصحابك ونسيتَ أن تُزَوِّدَ حُدَيْراً، وهو في آخر الركب يقول : ….. فكلامه ذاك لَهُ نُورٌ يَوْم القيامة، فابْعَثْ إليه بزاد.

فدعا النبي  رجلا فدفع إليه زاد حُدَيْر، وأمَرَه ُ إذا انتهى إليه حَفظَ عليه ما يَقُولُ، وإذا دَفَعَ إليه الزَّادَ حَفِظَ عليه ما يَقُول، ويقول له : إن رسول الله يقرئك السلام ورحْمةَ الله، ويخبرك أنه كان قد نسي أن يُزَوِّدك، وإن ربِّى تبارك وتعالى أرسل إليَّ جبريل يُذَكِّرني بك، فَذَكّره جبريل، وأعْلَمَهُ مَكَانَكَ.

فانتهى إليه وهو يقول : …. فدنا مِنْهُ ثم قال له : إن رسول الله يقرئك السلام ورحمة الله، وقد أرسلني إليك بزاد مَعِي، ويقول : إني إنما نَسِيتُكَ فأَرسَلَ إليَّ جبريل من السماء يذكّرني بك، قال : فحمد الله وأثْنَى عليه، وصلَّى على النبي، ثم قال : >الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، ذَكَرَنِي رَبِّي مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ، ورَحِمَ جُوعِي وضَعْفِي، يَارَبِّ كََما لَمْ تَنْسَ حَدَيْراً، فَاجْعَلْ حُدَيْراً لاَ يَنْسَاكَ<

فحفظ ما قال ورجع إلى النبي فأخبره بما سمع حين أتاه، وبما قال حين أخبره فقال صلى الله عليه وسلم : >أمَا إِنَّكَ لَوْ رَفَعْتَ رَأْسَكَ إلَى السَّمَاءِ لَرَأَيْتَ لِكَلاَمِهِ ذَاكَ نُوراً سَاطعاً مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ<(1).

وبالنسبة لرسول الله  كان قد قطع هذه المراحل كلها، حيث كان أعْرفَ الناس بقريش وبمعادن الناس، ولذلك دعا في المرحلة السرية من وثق بعقله، وكذلك فعل أبو بكر وغيره من الأوائل حيث كان كل واحد يختار أصحاب العقول الراجحة ويبتعدون عن أصحاب الأهواء الجامحة.

———-

1- صفة الصفوة 1/744.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>