عن عوف بن مالك ] قال : كنا عند رسول الله : تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال : ألا تبايعون رسول الله؟ فبسطنا أيدينا وقلنا : نبايعك يا رسول الله . قال : “على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وتصلوا الصلوات الخمس، وتسمعوا وتطيعوا، وأسر كلمة خفية ـ قال :>ولا تسألوا الناس شيئا< قال عوف بن مالك فلقد رأيت بعض أولائك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه” رواه مسلم.
البيعة عقد وميثاقُ ترابط وتماسك شرعي بين المؤمنين وبين رسول الله على الوفاء لله بما عاهد عليه المؤمن ربه من عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملات مقابل ما وعد الله به من فلاح وصلاح في الدنيا وفوز بالجنة في الآخرة. وليس هدفنا من الإتيان بالحديث تفصيل القول في البيعة وشروطها وأهدافها وثمارها مما لا يسع المجال ذكره، وإنما أن نشير بإيجاز إلى ما يستفاد من الحديث من تجديد للايمانبتجديد البيعة لله ولرسوله في كل يوم من خلال الصلوات الخمس، وفي كل أسبوع من خلال صلاة الجمعة، وفي كل عام من خلال شهر رمضان، وفي العمر كله من خلال فريضة الحج.
والحديث الشريف تناول الأصول التي ينبغي تجديد البيعة فيها لرسول الله وإن وقع التركيز على البند الأخير من بنود البيعة بدليل قول راوي الحديث -عوف بن مالك ]- (فلقد رأيت بعض أولائك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه، وقوله أيضا : >وأَسَرَّ كلمة خفية<.
ونرى ـ مع ذلك ـ أن نتناول شرح الحديث بشيء من التبسيط والإيجاز تتميما للفائدة والتزاما بالأمانة.
يقول رسول الله لأصحابه الذين كانوا بحضرته الشريفة ألا تبايعون رسول الله؟ فقال قائلهم : نبايعك يا رسول الله.
ولعلنا نسأل لماذا يسأل النفر السبعة أو الثمانية أو التسعة الحاضرين مبايعته في غياب الآخرين من أصحابه؟ ولماذا تجديد البيعة وقد بايعوا من قبل.
ونقول إن تكرار البيعة ليس أمرا مستقبحا، ولا عملا مستهجنا حتى يرد التساؤل؛ ولأنها نوع من التأكيد والتعزيز والتثبيت والتصفية والتنظيم وإحكام الربط وتوثيق عرى الإسلام في النفوس فلقد حدث في السيرة النبوية تجديد البيعة لرسول الله أكثر من مرة أشهرها :
1- بيعة العقبة الأولى سنة 12 للبعثة وكان عدد المبايعين 12 رجلا من الأنصار بايعهم البيعة التي اشتهرت ببيعة النساء المذكورة في سورة الممتحنة.
2- بيعة العقبة الثانية سنة 13 للبعثة وكان عدد المبايعين ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين وعرفت ببيعة الحماية للرسول .
3- بيعة الرضوان عام صلح الحديبية سنة 6 للهجرة وهي المدونة في سورة الفتح عند قوله تعالى : {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم}(الفتح : 18).
والذي يثير ويدل على غرض التأكيد من البيعة في الحديث هو قوله : >على أن لا تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا< مع علمه أن أتباعه وأصحابه قد نبذوا عبادة الأوثان، وأقلعوا عن أعراف الجاهلية وتقاليدها مما هو مذكور في بيعة النساء، وأنهم قد أسلموا قلوبهم لله عز وجل. وما ذلك إلا لكونه كان يخشى على أمته الشرك الأصغر الذي يتسلل إلى القلوب والأرواح في خفة وسهولة ويسر. وتأمل معي دقة التصور في العبارة حين يحدثنا الرسول الأعظم عن الشرك الخفي وكيف يَدْلِفُ إلى كيان الانسان، فيغمر كيانه ووجدانه : “الشرك أخفى من دبيب النمل في الليلة الظلماء، على الصخرة الملساء” ونحن نعيش في زمن تتقاطر فيه مغريات الشرك وتتعدد صوره، وتتنوع أشكاله. ومن هناك يكون لتجديد البيعة أثرها الجليل ونفعها الواقي.
فعلينا أن نجدد إيماننا في كل لحظة كما كان النبي يؤكد على تجديد الإيمان عند أصحابه لأن الإيمان يخلَقُ كما يخلَقُ الثوب من طول الاستعمال. ويأتي على رأس التجديد تجديد التوحيد وإفراده تعالى بالعبودية والألوهية. والكفر بالأنداد والشركاء وبكل معبود سواه.
ثم إن الحرص على إقامة الصلوات الخمس في أوقاتها ومع الجماعة بإتمام شروطها وأركانها والخشوع فيها هو من أولويات الأساليب والآليات لهذا التجديد ولذلك خصها الحبيب المصطفى بالذكر بعد التوحيد والعبادة فهي من باب عطف الخاص على العام، وإذا كانت الصلاة المفروضة تزامنت مع ليلة الإسراء والمعراج فما ذلك إلا ليبقى المؤمن موصولا بالله بالعروج إليه عند كل تكبيرة إحرام، وبالإسراء إليه عندما يصلي بالليل والناس نيام. وهو خير أسلوب عملي وسلوكي لتجديد الإيمان.
ثم إن قوله : >تسمعوا وتطيعوا< فالربط بين السمع والطاعة هو من باب الربط بين الوسيلة والغاية، والأسباب والمسببات، والنتائج بالمقدمات لأن مقابلة السمع بالعصيان يؤدي إلى أسوء العواقب وأردى المهالك {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}.
فكيف بمن يجمع بين العصيان والسخرية والاستهزاء بعد الاستماع وهي حالة كثير من المنافقين الذين عناهم الله بقوله : {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ما ذا قال آنفا}(محمد : 17). فالعصيان بعد السماع، والعمي بعد البصر، والضلال بعد الهداية من أقبح ما يخشاه رسول الله على أمته، ومن ثم يكون للتذكير أثره البليغ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
أما البند الأخير من بنود البيعة في الحديث فهو قوله : >ولا تسألوا الناس شيئا< فهي دعوة صريحة من رسول الله إلى علو الهمة، والترفع والاباء عن محقرات االأمور وسفاسفها ولأن التعفف عن المسألة ـ ما لم تدع إليها ضرورة هي من حميد الخصال، وكريم الفعال، و شيم النبلاء، وتنزه الفضلاء، وزهادة العقلاء. وكان يقول في الدعاء : (اللهم أغنني بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبك عمن سواك) ولأن سؤال الناس منقصة ومذمة. فالله يفرح بسؤال عبده، والعباد يسخرون ممن يسألهم لأنهم يخشون على ضياع ما بأيديهم ولذلك قيل : (استغن عما في أيدي الناس تكن أغنى الناس) فليس الغني عن كثرة العرض ولكن الغني غنى النفس كما في الحديث. وقد يظن بعض الناس أن خدمة الانسان لنفسه في شؤونه الخاصة والعامة عيب إذا ما قدر على استخدام الآخرين وتسخيرهم. وهذا ما لم يفعله رسول الله فقد كان في السوق ذات يوم فاشترى حاجات أهله وبيته وحملها، فأراد أحد الصحابة وكان مرافقا له أن يحملها عنه، فقال له : صاحب الحاجة أحق بحملها.
إن تجديد الايمان مطلب نبوي يتكرر لكل الأتباع، في كل الأزمان والبقاع. فلنعزم على تجديد البيعة لله ولرسوله عند كل أذان وإقامة والله يتولى دفع الثمن.