خطب منبرية : اعرف الله في الرخاء يعرفك في الشدة


الحمد لله رب العالمين القوي المعين، القائم على كل نفس بما كسبت المجازى لها بما عملت.

ونشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله سيد العارفين وخاتم الأنبياء والمرسلين.  وعلى  أصحابه الهادين المهتدين.

أما بعد, فيا أيها الإخوة المومنون : كثيرا ما يتعرض الإنسان في حياته إلى  مشاكل معقدة فيحتار في أمره، ويهتز من هول ما نزل به فتضطرب نفسه ويخشى  الضياع، فيبذل قصارى  جهده باحثا عن مخرج يريحه أو سبيل يجلب له نفعا أو يدفع هنه ضرا فلا يجد شيئا.

ينظر عن يمينه وشماله، ويدقق النظر خلفه وأمامه، وينظر إلى فوق وتحت فيعجز عن تحقيق ما يريد.

أمام هذا الفشل الذريع، والعجز التام، والأزمات الشديدة تستولي عليه موجات من البلاء المطبق والظلمات الحالكة فيشعر بهول شديد وصدمة قوية فيقفمندهشا لا يدري ما يفعل, ولم يبق له إلا طريق واحد هو طريق الله المفرج للكروب، والكاشف للهموم والغموم، الحي القيوم القائل في كتابه العزيز. {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر، تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين. قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون}(الأنعام : 13- 14).

ويستفاد من الآيتين أن اللؤماء من الناس والكافرين منهم خاصة إذا عاينوا الأهوال والشدائد، وخافوا الهلاك دعوا ربهم وأخلصوا في الدعاء فإذا أنجاهم وخلصهم من ما أصابهم كفروا.

وقال تعالى في سورة الزمر : {وإذا مس الانسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله. قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار}.

أيها الإخوة المومنون : إن الإنسان مهما بلغ علمه وعلا فكره وكثرت حيله فطاقاته محدودة قد تخونه في وقت عصيب ويشعر بضعف وقلة حيلة وهوان على الناس. ولا يملك حولا ولا قوة. ويدرك أن الحول والطول لله الواحد القهار القادر على كل شيء.

هذا نبي الله ورسوله يونس عليه السلام والمذكور في القرآن بذي النون. لقد غضب من قومه لعدم استجابتهم لدعوته، فخرج عنهم غاضبا عليهم وتركهم. فلجأ إلى  سفينة في البحر وركبها مع من فيها فسارت تمخر عباب البحر، تصارع الأمواج، وفجأة توقفت عن المسير، فقال ركابها : معنا عبد آبق من سيده فعليه أن يخرج من السفينة لتسير، فلم يخرج أحد، فضربوا السهام ـ كعادتهم ـ فخرج السهم على يونس مرتين أو ثلاثة، فألقى  بنفسه في البحر فوجد في استقباله حوتا كبيرا التقمه بأمر ربه. قال تعالى : {وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم} (الصافات :42).

ولَفَّتْ يونس عليه السلام ظلماتٌ ثلاثٌ : ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت. إنه الموت المحقق والنهاية كما يبدو أسوأ من البداية.

لقد أصبح عليه السلام في قفص محكم لا هو من حديد ولا هو من خشب، ولكنه أقسى وأشد صلابة منهما، ورغم هذه المشاكل المعقدة والمتوالية فلم ييأس عليه السلام فطرق باب الله الذي لا يرد أحدا. وهتف بأعلى صوته {لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}(الأنبياء : 87) فاهتزت لهذا النداء العظيم أبواب السماء وانفتحت على مصراعيها وجاء الفرج فلفظه الحوت بأمر ربه من غير أن يؤذيه، فلم ينهش له لحما ولم يكسر له عظما. {فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المومنين}(الأنبياء : 88).

وفي الحديث، ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له.

لقد لبث يونس عليه السلام في بطن الحوت أياما مسبحا ومهللا داعيا ومستغيثا فجاء الفرج ونبذ بالعراء نبذا رفيقا. فأعظم وسيلة لتفريج الكروب التسبيح والاستغفار.

قال تعالى : {فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون، فنبذناه بالعراء وهو سقيم}.

وهذا نبي الله زكريا عليه السلام ينادي ربه بعد أن بلغ من الكبر عتيا واشتعل رأسه شيبا. كان عمره 120 سنة وعمر زوجته 98 سنة وكانت عاقرا أي عقيمة لا تلد في حياتها.

ولما رأى مريم عليها السلام وما هي عليه في محرابها من التوفيق والهداية وما تتلقاه من العناية الربانية : نادى ربه نداء خفيا مبينا ما يشعر به من الآلام والحرمان أن يرزقه ولدا يرثه ويرث أجداده في العلم والنبوة.

ويصدر القرآن الكريم مناجاة نبيه ورسوله زكرياء ودعواته المؤثرة في بلاغة تسمو عنها العقول وتعجز عنها الأفهام.

قال تعالى : {كهعص ذكر رحمة ربك عبده زكرياء إذ نادى ربه نداء خفيا. قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا، ولم أكن بدعائك رب شقيا، وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا}(مريم : 1- 6).

فاستجاب الله دعاءه وبشره بغلام اسمه يحيى لم يسمع أحد قبله بهذا الاسم.

نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيئا من الصالحين.

وهذا نبي الله آدم عليه السلام أكل من الشجرة هو وزوجته متأثرين بمقولة الشيطان العدو اللدود للإنسانية فكان ما كان من تنفيذ القدر المحتوم عليه وعلى زوجته. ولم يجدا بدا من الإنابة إلى الله فسألاه العفو والرحمة والتوبة. {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}(الأعراف : 22)

فاستجاب الله دعاءه وتاب عليه. قال تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، إنه هو التواب الرحيم}(البقرة : 37)

üüüüü

أما بعد : فيا أيها الإخوة المومنون : يقول الله تعالى  : {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مومن فلنحيينه حياة طيبة ولنجز ينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}(النحل : 92). في هذه الآية الشريفة : وعد من الله لمن عمل صالحا من ذكر أو أنثى  بشرط الإيمان أن يحييه حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن مما عمله في الدار الآخرة.

والعمل الصالح : هو كل عمل ينفع البلاد والعباد، ويوافق كتاب الله وسنة رسوله والحياة الطيبة تشمل أنواع الراحة من أي جهة كانت تشمل القناعة والرزق الحلال، والتوفيق لصالح الأعمال. قال الحسن ] : “لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة لأنها حياة بلا موت وغنى  بلا فقر، وصحة بلا سقم، وسعادة بلا شقاوة.

عن عبد الله بن عباس ] قال : كنت خلف النبي  يوما فقال : يا غلام : احفظ الله يحفظك أي امتثل أوامره واجتنب نواهيه، يحفظك في متطلباتك ورغباتك وفي دنياك وآخرتك.

أيها الإخوة : إن ما يحصل للعبد من البلايا والمصائب بسبب تضييع أوامر الله تعالى  مصداقا لقوله عزوجل : {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}.

وقد بين تعالى في كتابه العزيز : أن العمل الصالح ينفع عند الشدة وينجي فاعله وأن فعل المعاصي يؤدي إلى  الشدة.

قال تعالى حكاية عن يونس عليه السلام : {فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} (الصافات) أي لولا كثرة تسبيحه ودعائه لما خرج من بطن الحوت.

وقال تعالى عن فرعون الطاغية والداعي للربوبية، لما أدرك الغرق بسبب كفره وطغيانه {آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين}.

فأجابه الملك : {الآن وقد عصيت وكنت من المفسدين}.

أيها الإخوة : إن الدعاء مخ العبادة أمرنا تعالى  أن ندعوه ووعدنا الإجابة وهو سبحانه لا يخلف الميعاد. قال تعالى : {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}

ومن حسن إسلام المرء أن يذكر الله في اليسر والعسر، والرخاء والشدة. فإذا نزل به مكروه أو أصابته فاجعة دعا ربه استجيب له. قال  : تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة. فالله كريم لا يحرم سائلا ولا يرد مضطرا. قال تعالى : {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء….} النمل 62

ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>