كـــونـــوا مــع الصـــادقــيـن


خلق الصدق:

إن أخلاق القرءان تدخل في كل شئ وتحيط بكل شئ، و من هذه الأخلاق الربانية ( خلق الصدق) الذي وصف به المولى نفسه بقوله : {قل صدق الله}ووصف به رسله وجعله من صفاتهم الأساسية، تصاحبهم في كل مراحل حياتهم الرسالية ليكونوا قدوة لأتباعهم و سراجا منيرا لكل من يأتي بعدهم، وعلى رأس أولئك رسولنا الكريم الذي توفرت فيه دون سواه شروط” الهادي القدوة “حتى أنه اشتهر” بالصادق الأمين” قبل البعثة .

أما بعد البعثة فكل الدلائل العقلية  والنقلية الزمانية و المكانية و سواء تعلق الأمر بعالم الغيب أم بعالم الشهادة، تشهد له بذلك فلم يصدر عنه قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية إلا و صدقته الأحداث والوقائع و المسار التاريخي مصداقا لقوله تعالى : {و ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}(النجم).

و لم يقف الأمر عنده بل ربى على تلك الأخلاق الساميةجيلا لم يسبق له مثيل، ولن يأتي بعده نظير صنعه بروح القرءان التي كانت تتجسد في سلوكه و أفعاله قبل كلامه وأقواله، فصدقه وصدق بالذي جاء به حتى وسمهم المولى بقوله : {محمد رسول الله  والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا}(الفتح).

نعم هذه الأخلاق التي بنت جيلا وكونت أمة و خلفت وراءها تاريخا مشرقا في جبين البشرية لم تشهد له مثيلا و كان الأولى أن تستمر المسيرة و يستمر البناء لإسعاد البشرية.

ما هو الصدق ؟

الصدق هو موافقة الأقوال و الأفعال  والأحوال  للحق في السر و العلانية انطلاقا من باعث النية إلى صدق العزم  وصدق الوفاء به عقيدة و شريعة من أجل تحرير العبودية و جعل الإنسان لمولاه لا لنفسه ويكون شعاره في كل مجال حياته {قل إن صلاتي و نسكي و محياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت}.

ثم يرتقي في كمالات الصدق حتى يكون الظاهر مثل الباطن، بل الباطن أفضل مرددا مع رسوله الكريم : “اللهم اجعل سريرتي خيرا من علانيتي و اجعل علانيتي صالحة ” لذلك نرى ذلك العالم النحرير ابن قيم الجوزية يعرف الصدق بقوله :”الصدق روح الأعمال ومحك الأحوال والحامل على اقتحام الأهوال والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال”.

> ركائز الصدق :إن العبد لا يصل إلى مرتبة الصديقية إلا بتحقيق هذه الركائز الأساسية

1- صدق التوحيد: الذي يعد الركيزة الأساسية  في تصحيح العقيدة  وتحريرها  من كل شوائب شركية مهما دقت كما رسمها المولى في كتابه وسنة نبيه، إذ بها وحدها تتم المفاصلة بين العبد و بين المعبود، بين الخالق القادر على كل شئ، و بين المخلوق الضعيف في كل شئ، بين الصمد الذي لا يحتاج لأي شئ، والمخلوق الذي يحتاج إليه في كل شئ بين ظلام الشرك وصفاء التوحيد الذي  يجعل العبد يتوجه إلى مولاه وهو يقول :” لا رب لي سواه و لا إله لي من دونه {إياك نعبد و إياك نستعين} عبادته غايتي في وجودي و رضاه مقصدي في معاشي ومعادي.

و بذلك يتحقق الإيمان الذي لا ريب فيه لأنه وليد اليقين، و لا هوى معه لأنه قرين  الإخلاص ،و لا عوج فيه لأنه نبع من الحق والحق يقول : {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}(الحجرات).

2- صدق الطاعة : إن صدق الطاعة يجعل طاعة الله و طاعة الرسول فوق كل طاعة و كل طاعة لسواهما تنضبط بقوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم}(النساء).

وقوله : {فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلا} باعتبارهما المرجع الأصلي و الأساسي في كل أمور المؤمنين أينما كانوا و مهما كانت مكانتهم الدنيويةصغيرا أو  كبيرا ذكرا أو أنثى رئيسا أو مرؤوسا …الخ ولا اختيار لهم على الإطلاق مصداقا لقوله تعالى : {وما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم و من يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا}(الأحزاب).

و صدق التوحيد و صدق الطاعة يرشدان إلى البر الذي هو قمة الخير و الذي لا يرقى إليه إلا الصادقون من أولي العزم، يكفي في وصف البر “آية البر” التي ترمي إلى التصديق بأركان الإيمان و العمل على ترشيد  وظيفة المال في المجتمع الإسلامي، وتحث على القيام بالفرائض المكتوية مع التحلي بأصول أسمى الفضائل الربانية و أخيرا تختم بتلك الشهادة الغالية : {أولئك الذين صدقوا و أولئك هم المتقون}(البقرة).

3 – صدق المعرفة: بعد صدق التوحيد وصدق الطاعة يأتي صدق المعرفة التي لا يحدها مجال و لا يحيط بها عقل إنسان، أرقاها و أسماها معرفة الله التي تنبعث من التفكير في آياته المبثوثة في كتابه المسطور و كونه المنظور، و التي تربط العبد بخالقه وتدفعه إلى الإقرار بالوحدانية لله تعالى إقرارا يقينيا تجعله مستسلما لقضائه راضيا بحكمه مصداقا لقوله تعالى في حديث قدسي على لسان رسوله الكريم : >من استسلم لقضائي و صبر على بلائي و شكر نعمائي كتبته صديقا و بعثته مع الصادقين<.

4- مجال الصدق : و من هذا المنطلق نجد فضيلة الصدق جامعة و محيطة بالعقيدة و الشريعة تصورا وسلوكا والتزاما تربط الدنيا بالآخرة، و الأقوال بأفعالها والأفعال بمراميها و البداية بنهايتها والعبادة بغايتها لذا نرى الرسول الكريم يحث أمته على الصدق فيقول : ” عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر و البر يهدي إلى الجنة و ما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا …الحديث”و يقول أيضا : ” اضمنوا لي ستة  من أنفسكم أضمن لكم الجنة : >اصدقوا إذا حدثتم …<الحديث.

5-أهمية الصدق : ولأهمية الصدق مدح المولى به كثيرا من أنبيائه و رسله فقال في إبراهيم عليه السلام : {إنه كان صديقا نبيئا} و في إسماعيل {إنه كان صادق الوعد و كان رسولا نبيئا} و في إدريس يقول {إنه كان صديقا نبيئاورفعناه مكانا عليا} و إلى خلق الصدق يرشد المولى رسوله الكريم ليجعله في دعائه فقال تعالى : {وقل رب  أدخلني مدخل صدق و أخرجني مخرج صدق و اجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا}.

وهكذا لو تتبعنا خلق الصدق في الكتاب و السنة وسيرة السلف الصالح لضاقت بذلك المجلدات، لأن الصدق شامل و محيط بالأقوال  والأعمال و العقائد و الأحوال و المواقف والأحداث و الوقائع و مما يزيد في أهميته ارتباطه بخلقي الصبر و الإخلاص و لا يستغني عن أحدهم في أي مجال.

لكن قبل العيش مع بعض الصادقين  والصادقات أشير إلى موقفين باختصار ونرجئ المواقف الكثيرة و المتعددة إلى حين الكلام عن أصحابها .

> الموقف الأول :

ينزل سيدنا بلال عند رغبة أخيه الذي أبى إلا أن يتزوج فتاة من أشراف بني مخزوم، فيذهب معه و يخاطب أهل الفتاة بقوله:” يا قوم نحن من قد علمتم كنا عبيدا فأعتقنا الله، و كنا ضالين فهدانا الله، و كنا فقراء فأغنانا الله، وإني أخطب لأخي ابنتكم فإن تنكحوها لنا فالحمد لله و أن تردونا عن قصدنا فسوف يغنينا الله” فرحبوا به وزوجوا أخاه لمكانته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم

فلما خرجوا أقبل أخو بلال يعاتبه ويقول له : “هلا ذكرت لهم مواقفنا في الإسلام فقد أبلينا مع رسول الله  بلاء حسنا ” فأجابه بلال رضي الله عنه بقوله :”فقد أنكحك الصدق فكن من الصادقين ”

> الموقف الثاني : هذا غلام صغير اسمه عبد القادر الجيلاني تبعثه أمه إلى بغداد لطلب العلم و تعطيه أربعين دينارا بعدما تأخذ عليه العهد بأن يكون صادقا و بينما القافلة في طريقها إلى بغداد تهجم عليها جماعة من قطاع الطرق وتسلبها كل ما تملك و يصل أحد اللصوص إلى الغلام  و يسأله : “ما معك ؟” فيقول معي أربعين دينارا فيتعجب اللص من صدق الغلام و يذهب به إلى زعيمهم فيسأله الزعيم عن سر صدقه فيقول له : “إني عاهدت أمي على الصدق وأخاف من خيانتها فيصيح الزعيم و يقول أنت الصبي وتخاف خيانة عهد أمك وأنا المكلف ولا أخاف خيانة عهد ربي فإني تبت على يديك ويأمر اللصوص برد كل ما أخذ من القافلة فيقول جميع اللصوص أنت كنت زعيمنا في الشر وأنت اليوم  زعيمنا في التوبة إلى الله وتاب الجميع

وأخيرا إن الموقفين يضعان ألف سؤال وسؤال على كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .

كل موقف يصرخ في وجوهنا ويقول : أين ضيعتم الصدق يا أمة الصادق الأمين ؟ أين الصدق في أقوالنا ؟ أين الصدق في أعمالنا ؟ أين الصدق في تعاملنا ومعاملاتنا ؟ أين الصدق مع ربنا ؟ أين الصدق مع رسولنا ؟ أين الصدق …أين الصدق … أين الصدق وربنا يقول : “فلوا صدقوا الله لكان خيرا لهم” و ينادينا ويقول : ” يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين “اللهم اجعلنا من الصادقين ومع الصادقين حتى ننتفع به يوم لقاء الله حيث يقول المولى : {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم}.

و إلى جولات مع الصادقين إن شاء الله .

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>