مقدمات بين يدي الموضوع
المقدمة الأولى :
إن طرح سؤال الأخلاق في الزمن الراهن، ليس استجابة لترف عقلي، أو وليد رغبة في الإبحار في جدل فلسفي يروم البحث عن جذور قضية الأخلاق وتحديد أسسها النظرية والفلسفية -وإن كانت المسألة الأخلاقية جديرة بمثل هذا الجهد..- وإنما الذي كان وراء طرح هذا السؤال هو استشعار أزمة في الأخلاق، باتت تخترق مفاصل المجتمع، وتوشك أن تذهب بريحه وتفرغه من جوهره ومعنى وجوده. وإذا كان تتبع المسألة يفضي في المدى البعيد إلى مستوى عميق في البحث الفلسفي والمعالجة النظرية العميقة الغور، فإن حالة الإلحاح والاستعجال التي تفرضها عملية الإنقاذ وإخماد النيران التي تلتهم ألسنتها الأخضر واليابس في المجتمع الذي يكتنفنا، تفرض القيام بتشخيص أولي لأعراض الداء الذي يستشري بشكل سرطاني رهيب في جسم المجتمع، وصولا إلى تقديم وصفة كفيلة بإيقاف زحف واكتساح هذا السرطان البغيض لأقطار ذلك الجسم العليل.
المقدمة الثانية :
ستنحو المعالجة لهذا الموضوع منحى تطبيقيا من خلال بحث سؤال الأخلاق داخل مجال محدد له خطورته المعلومة ضمن أنساق المجتمع ومجالاته المتشابكة، إنه مجال التربية والتعليم، أو ما يصطلح عليه في الوقت الحالي، ب”المنظومة التعليمية أو التربوية”، وذلك في ظل ما سمي بالإصلاح الذي انطلقت أولى حلقاته بصياغة وإصدار الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ورسمت بعض خطوطه ومعالمه الكبرى فيما سمي بالوثيقة الإطار وعرف صيغته الإجرائية والتفصيلية فيما سمي ب”الكتاب الأبيض” الذي يتضمن الهيكلة الشاملة والبرمجة التخطيطية لما سيقوم عليه النظام التعليمي في المجتمع، ومن ثم لما يتوخى أن تصاغ على أساسه الشاكلة الثقافية للأجيال المتعلمة.
المقدمة الثالثة :
إن التعليم في الأمة المسلمة، ليس هو التعليم في غيرها من الأمم، ذلك أن الأمة المسلمة هي أمة الرسالة وأمة البلاغ، الذي تقتفي فيه أثر رسولها الأمين عليه الصلاة والسلام، الذي خاطبه ربه بقوله: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته، والله يعصمك من الناس}(المائدة: 67).
وإنه مهما قيل، إن التربية قرينة التعليم في الأمم كافة، فإن هذا الاقتران لا يجد مصداقيته وطابعه المبدئي الأصيل، إلا في ظل الإسلام الذي يقوم منهجه التعليمي التربوي على ثلاثية مترابطة تتمثل في تلاوة الآيات أولا، وفي التزكية ثانيا، وفي تعليم الكتاب ثالثا، وإن ربانية ذلك المنهج هي التي تؤهل القائمين عليه لمهمة الشهود على الناس، المتمثلة في : “قيادة الركب البشري والوصاية على العالم والحسبة على العقائد والأخلاق”(1).
تحديد مفاهيم الموضوع
بعد هذه المقدمات أنتقل إلى خطوة أخرى أساسية، تتمثل في تحديد المفاهيم:
1- مفهوم المنظومة القيمية :
المنظومة القيمية هي نسق القيم الذي يتوخى فيه قيامه على قاعدة من التجانس والانسجام، واتجاهه نحو مقاصد محسوبة ومحددة، تجتمع في الحصيلة النهائية، في بناء نموذج إنساني ذي مواصفات محددة، تؤهل أصحابها أو مستهدفيها للقيام بمهام محددة داخل مجتمع معين ذي طبيعة وخصائص حضارية معينة تميزه عن غيره من المجتمعات.
< نستخلص من هذا التحديد عنصرين أساسيين يلزم توفرهما في كل منظومة قيمية جديرة بأن تحمل هذه الصفة، بصرف النظر عن تعبيرها عن الحق والفطرة، أو مجانبتها لذلك، وهذا العنصران هما عنصر الانسجام وعنصر القصدية، ومن ثم فإن أية مناهج أو مضامين تعليمية ينتفي منها العنصران المذكوران، لا يمكن الحديث بشأنها عن منظومة قيمية.
وجدير بالذكر والاعتبار، أن ما يشكل قيام منظومة قيمية معينة، ليس هي فقط القيم المنشود نقلها إلى الأجيال وترسيخها في ضميرهم، بل يضاف إليها كل الوسائل والمقومات البشرية والديداكتيكية والمادية، الكفيلة بإيصال تلك القيم بكل دقة وأمانة وفي أحسن صورة. ولعل هذه الحقيقة، أو هذا المعطى التربوي، هو مما يحتمله تعريف الخبير البريطاني المعروف في التربية والتعليم سيربرسي نان حين يقول: “إن وظيفة المدرسة أن تمنح القوى الروحية فرصة التأثير في التلميذ، تلك القوى الروحية التي تتصل بنظرية الحياة، وتربي التلميذ تربية تمكن من الاحتفاظ بحياة الشعب، وتمد يدها إلى الأمام”(2).
ومما لاشك فيه أن مما يسمح للمدرسة أن تقوم بوظيفتها، سلامة ما أصبح يصطلح عليه بالفضاء المدرسي، الذي تجري فيه أنشطة الحياة المدرسية، فهو يشكل الإطار الحيوي الرحب الذي هو بمثابة المرآة العاكسة لمخرجات المنظومة القيمية، والمفروض فيه بناء على شرط القصدية والانسجام، أن يحمل نفس الصبغة التي تحملها تلك المنظومة.
< أما إذا كان الفضاء المدرسي يسير في الاتجاه المعاكس والمشاكس لما يتوخى تحقيقه من خلال غرس قيم المنظومة وتنميتها، فإن من شأن ذلك أن يسقط المنظومة التعليمية في عبثية عمياء.
< وأما إذا كان ديدن المنظومة التعليمية أن تزعزع يقين الناشئة وتحطم بناءهم العقدي، بوعي أو بغير وعي، فتلك هي الطامة الكبرى، والخيانة العظمى في حق الأجيال.
ويرتبط بتعريف المنظومة القيمية تعريف “القيمة” التي هي مفرد القيم. والمقصود بالقيمة في موضوعنا هذا، القيمة الأخلاقية، وهي بهذا الاعتبار تتميز بخاصية الثبات، لأن المصدر الذي تستمد منه وجودها يتميز بالخاصية نفسها، إنه دين الإسلام الذي خصه الله عز وجل، من دون سائر الرسالات، بالحفظ والتنزه عن التحريف، ومن ثم فقد كان خليقا بخاصية الهيمنة والحسبة على العقائد والأخلاق، وبإصدار حكمه النافذ في حقها، بمنتهى الجدارة والحكمة والاقتدار.
وبناء على ما سبق، تشكل القيم الأخلاقية التي تتلبس بها النفوس المشبعة بها، منطلقات ودوافع، ومعايير للسلوكات والأفعال، التي تتخذ لها غاية محددة تتميز بالرفعة والسمو على سائر الاعتبارات والأهداف، هذه الغاية هي رضى الله عز وجل وابتغاء وجهه الكريم. وارتباطا بهذه الحقيقة، يمكننا أن نزعم بكل ثقة واطمئنان، بأن الأخلاق لا يمكن أن تجد صورتها الراسخة وكيانها الحق إلا في ظل الإسلام، الذي يؤطرها بسياج عقائدي متين، يضمن نماءها وتألقها وديمومتها. وجدير بالذكر أن القيم المقصودة، تتسم بالدقة والشمول، والارتباط بمختلف الدوائر والمستويات التي تتشابك فيما بينها في بنيان مرصوص يشد بعضه بعضا، إنها أخلاق تخص الفرد في ذات نفسه من جهة، وتشد أواصره بأسرته من جهة ثانية، وتنسج شبكة علاقاته بالمجتمع الذي يكتنفه من جهة ثالثة.
< والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا المقام، ينصب على طبيعة القيم التي تنشد المنظومة التعليمية الراهنة تمريرها إلى الناشئة، هل هي من النوع الذي يحمل الخصائص المذكورة أعلاه، أم تراها تنتمي إلى طراز آخر ذي خصائص مغايرة تماما.؟
هذا ما سأجيب عنه لاحقا بإذن الله.
2- مفهوم الإصلاح :
جاء في المعجم الوسيط (مادة صلح): “أصلح في عمله أو أمره: أتى بما هو صالح نافع، وأصلح الشيء: أزال فساده، وأصلح بينهما أو ما بينهما: أزال ما بينهما من عداوة وشقاق”(3).
< إن مقتضى الإصلاح من خلال التعريف الآنف الذكر، في سياق الموضوع الذي نعالجه، أن تكون المنظومة القيمية التي هي قوام المنظومة التعليمية وجوهرها أو قواها الروحية -بتعبير سيربرسي نان- في حال تشكو فيه من الاختلال والفساد، فينهض القائمون على أمر تلك المنظومة، بناء على استشعار تلك الحال، وإدراك واقع الفساد والاختلال، إلى إصلاح الحال -أي إصلاح ما اختل وفسد، فهل هذا هو واقع الإصلاح الذي انطلق منذ أربع سنوات في إطار ما سمي بعشرية التعليم التي تمثل أحد الرهانات الكبرى التي يرفعها المغرب في مستهل القرن الحادي و العشرين الميلادي ، ونهاية الربع الثاني من القرن الخامس عشر الهجري؟ ذاك ما ستحاول هذه الورقة الكشف عنه والإجابة عليه في ثنايا المناقشة والتحليل.
نظرة على المنظومة القيمية
قيد الانقراض
إن كل الذين عايشوا منظومة القيم التي سادت في الأنظمة التعليمية السابقة على المنظومة التي هي قيد التأسيس والإرساء، يدركون أن تلك المنظومة مهما كانت تشكو من مثالب وتناقضات، فإنها لم تعدم حفاظا على الحد الأدنى من المبادئ والمنطلقات التي يسمح اللجوء إليها والاتكاء عليها بتصحيح المسار وإعادة التوازن إلى المنظومة التعليمية كلما سنحت الفرصة وتوفرت الشروط، أو على الأقل، وهذا في أسوء الظروف، كان حق المطالبة مكفولا متسما بالشرعية، بموجب تلك المبادئ والمنطلقات التي شكلت ثابتا بنيويا طوال العهود السابقة، يتعلق الأمر بما درجت عليه الوثائق الرسميةمن التنصيص على الدين الإسلامي باعتباره أبرز الأسس التي تستلهم في بناء النظام التعليمي بجميع مكوناته وأركانه(4). وفي مختلف عمليات الممارسة والتنفيذ، وكذا في عملية التقويم وإعادة الهيكلة، كلما دعت إلى ذلك احتياجات التطوير.
فأي انقلاب هذا الذي حدث، مع الدخول فيما سمي بإصلاح التعليم الذي أنشئت له في الآونة الأخيرة منتديات سميت بمنتديات الإصلاح، بهدف تعبئة الفاعلين التربويين بمختلف فئاتهم، في اتجاه تفعيل مضامين الميثاق، وما تمخض عنه من صيغ إجرائية تمثلت في “الكتاب الأبيض”.؟
< عود على بدء: وأعيد هنا طرح السؤال الذي سبق أن طرحته حول مصداقية الإصلاح المعلن، بصيغة أخرى: فأقول: إلى أي حد تعتبر المنظومة القيمية الجديدة التي بشر بها الميثاق الوطني والكتاب الأبيض، “إتيانا بما هو صالح ونافع”؟ وإلى أي حد يعتبر هذا الجديد استجابة لحاجات داخلية استشعرها المجتمع، فبات التطوير أمرا حتميا يعتبر الإعراض عنه معاكسة لمنطق الحق وصيرورة التاريخ؟
المنظومة القيمية الحالية:
بؤرة للتناقضات
< إذا كان من المسلم به أن القيم التي تبشر بها أية منظومة تعليمية، لا مناص لها من الارتكاز إلى إطار تصوري، يشكل بالنسبة لها الخيط الناظم والمرجعية التفسيرية، فقد بات من الأكيد أن أي اهتزاز أو اضطراب يعتري ذلك الإطار التصوري المرجعي، ينعكس حتما على جملة القيم التي تربطه بذلك الإطار، فما هو الإطار المرجعي الذي تستند إليه قيم المنظومة التعليمية في تجربة “الإصلاح” الجديد؟؛ علما أن ذلك الإطار نفسه- أو المرتكزات كما هي في تسمية الميثاق الوطني للتربية والتكوين، يشكل قيمة، أو قيما كبرى عليها مدار سائر القيم التي تتحرك في فضاء المنظومة التعليمية، فهو المحك وهو المعيار الذي إليه يتم الاحتكام.
< ينص “الكتاب الأبيض” على أنه “انطلاقا من القيم التي تم إعلانها كمرتكزاتثابتة في الميثاق الوطني للتربية والتكوين، والمتمثلة في: قيم العقيدة الإسلامية -قيم الهوية الحضارية ومبادئها الأخلاقية والثقافية- قيم المواطنة- قيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية، وانسجاما مع هذه القيم، يخضع نظام التربية والتكوين للحاجات المتجددة للمجتمع المغربي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي من جهة وللحاجات الشخصية للمتعلمين من جهة أخرى”(ص6).
< ثم يحدد “الكتاب الأبيض” مجموعة من الغايات يتوخاها نظام التربية والتكوين في علاقة بالحاجات التي سبقت الإشارة إليها. من جملة تلك الغايات: “ترسيخ الهوية المغربية الحضارية والوعي بتنوع وتفاعل وتكامل روافدها”.
- التفتح على مكاسب ومنجزات الحضارة الإنسانية المعاصرة.
- ترسيخ قيم المعاصرة والحداثة.
< إن أول شيء يلفت نظر الدارس الحصيف إلى هذا الذي سماه الكتاب الأبيض بالمرتكزات الثابتة في الميثاق الوطني للتربية والتكوين، هو تعدد “الأقانيم”، التي تشكل قوام المرجعية الكبرى لنظام التربية والتكوين. فإذا كانت العقيدة المسيحية ثلاثية الأقانيم، (الأب، الابن، روح القدس) فإننا أمام مرجعية تقوم على أربعة أقانيم، وهو أمر مستغرب في منظومة بلد أغناه الإسلام عن داء التذبذب بين المرجعيات، والتخبط في تنازع المذهبيات.. وثاني ملحظ يقف عليه الدارس فيما يخص مكونات المرجعية المشار إليها، هو الإيحاء بأسبقية ورجحان وبتعبير أدق، بضرورة ترجيح أحد تلك المكونات، على ما سواها، يتعلق الأمر ب: “قيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية”:
ولا يفت في مصداقية هذا الملحظ كون مرتكز “مبادئ العقيدة الإسلامية السمحة”، يتصدر هذا المركب الرباعي، بل وحتى “الميثاق الوطني للتربية والتكوين، إذ أن العبرة ليست بالتقديم والتأخيرعلى مستوى الألفاظ والسطور، وإنما هي بمدى السبق والدرجة في الاعتبار التي يحوزها عنصر أو مكون معين ضمن غيره من المكونات. والذي تكشف عنه القراءة السيميائية فيما نحن بصدده، هو أن الذي حاز أعلى درجة في الاعتبار ضمن المكونات الأربعة، هو مكون أو مرتكز”قيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية”، كيف لا وقد وصفت قيم هذا المرتكز ب”الكونية” بينما وصفت قيم العقيدة الإسلامية “بالسمحة” وشتان بين الكونية والسماحة في عالم القيم. فلا يحتاج القارئ إلى جهد كبير ليدرك أن الذين قاموا بصياغة المرتكزات المذكورة أو قاموا بتحديد تلك الأنواع من القيم، قصدوا إلى هذا الإيحاء الخطير. والذي يؤكد هذا الترجيح أو الرجحان في الولاء للمرتكز السالف الذكر، هو اعتناء “الكتاب الأبيض” بتدقيق الغايات التي تخدم ذلك المرتكز. يتجلى ذلك بوضوح في غاية: “التفتح على مكاسب ومنجزات الحضارة الإنسانية المعاصرة” وغاية: “ترسيخ قيم المعاصرة والحداثة”. وإن الذي له أدنى دراية بطبيعة قيم الحداثة وفكر الحداثة يعلمعلم اليقين أنها وقيم الدين الإسلامي على طرفي نقيض.
< وإن الذي يؤكد ويؤيد الزعم السابق أيضا هو أن برامج التربية على حقوق الإنسان، تعرف كثافة ملحوظة على مستوى النقاش حول آليات إدماج مبادئها في المناهج الدراسية، بما يؤدي إلى تغلغل تلك المبادئ والمفاهيم في البنية الشعورية واللاشعورية للمتعلمين. ولقد قطعت تلك البرامج أشواطا بعيدة على مستوى الأجرأة والتنفيذ.
< وإن الذي يدعم الأطروحة التي نحن بصددها، أن عملية إدماج قيم ومبادئ حقوق الإنسان في المناهج الدراسية، قد شملت حتى مادة التربية الإسلامية نفسها مما يعطي الدليل القاطع على أن القيمين على أمر التربية والتكوين، يعتقدون أن مخزون مادة التربية الإسلامية من القيم لا يفي بحاجة المتعلمين، ومن ثم فلابد من تطعيمها وتعزيزها بقيم حقوق الإنسان، خاصة وأنها تزهو بثوب “الكونية”.
وإذا كان هذا التصرف في حد ذاته يعتبر انتقاصا بينا من قدر دين أكمله ربه وأتم به النعمة على العالمين، فإن توجس الباحث، انطلاقا من مقولة، “من الحزم سوء الظن” يمكن أن يذهب بعيدا، فيعبر عن نفسه في الخشية من أن تكون مزاحمة “الميثاق العالمي لحقوق الإنسان” لنصوص القرآن والحديث في مادة التربية الإسلامية، في هذه المرحلة، معبرا لجعله بديلا كاملا في يوم من الأيام تحت ذريعة، توحيد المنظومات التربوية تحت سلطان قيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية، تمهيدا لدخول معابد العولمة وتقديم الولاء الكامل لسدنتها وكهانها الحريصين على إحكام قبضتهم على البشرية جمعاء.
وضعية الأخلاق (القيم الأخلاقية) في ظل المنظومة الحالية
إنه من تحصيل الحاصل أن نقول، بأنه إذا أصيب رأس المنظومة القيمية أو قلبها، بالخلل والتناقض والاضطراب فإن ذلك يستتبع اضطرابا في باقي القيم، فما يلحق الأصل يلحق الفروع.
إن من شأن تلاشي أثر المرجعية الإسلامية في نفوس التلاميذ وتآكلها في وجدانهم بفعل تشويش ومزاحمة المرجعية الحداثية ومرجعية قيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية، أن يترتب عنه ضمور في فاعلية القيم الأخلاقية الإسلامية وتجفيف لحمولتها الروحية الخلاقة.
إن أبرز القيم الأخلاقية الإسلامية من قبيل الصدق والإخلاص والعفة والحياء، وعرفان الجميل، والطاعة والإحسان والوفاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تتعرض لعاصفة هوجاء، أو بالأحرى لخطة ممنهجة لاستئصالها من جذورها، بدءا من التضييق عليها، أو تضييق مساحتها في المناهج الدراسية وما يتعلق بها في المنظومة التعليمية، مرورا بإبراز مقابلاتها وأضدادها، ثم “تتويج” كل ذلك بتوفير فضاء مدرسي مساعد على الانجراف إلى مهاوي الميوعة والتحلل والسقوط في مستنقعات الرذيلة، وذلك عبر تأجيج نيران الغرائز على حساب تألق نور العقل وتسامي الخلق الرفيع، وإن أخطر سرطان يلتهم الأخلاق في المدرسة المغربية،بالإضافة إلى العوامل والمعاول المذكورة، لهو الاختلاط البغيض، خاصة وأن الأمر يتعلق بمرحلة عمرية هي من الحساسية بمكان.
< ومن الغريب جدا، ومن المفارقات العجيبة أن يطلع علينا أحد أبرز المسؤولين في الوزارة الوصية على مستقبل الناشئة، بتحرك محموم تحت شعار” محاربة التمييز بين الجنسين” في المؤسسات التعليمية، ونزلت الأوامر والتوجيهات العملية لتفسير المشروع بضرورة الحرص على الاختلاط بين الذكور والإناث في تلك المؤسسات، وعدم التسامح مطلقا إزاء التهاون في تنفيذ هذه التعليمات السامية”. وإذا علمنا أن جميع المؤسسات التعليمية مختلطة، وأنه قد تم استكمال التخليط، بإلحاق المؤسسات الخاصة بالبنات، التي عرفت بتلك الصفة حتى في وقت “الاستعمار”، إلحاقها بركب الحداثة، إذا علمنا ذلك، جاز لنا أن نطرح علامة استفهام عريضة عن الدوافع الكامنة وراء هذا الحرص الكبير على الالتزام بالتخليط والاختلاط، وهذا الحذر الشديد من أن يكسر هذا الإجماع، نتيجة غفلة أو تقصير.!!…
< بقي أن أشير في نهاية هذه الورقة، إلى ثغرة توشك أن تتسع في بنياننا التعليمي، من شأنها فيما نحن بصدده أن تعمق الأخطار المحدقة بالأجيال، إنها ثغرة القدوة الصالحة، التي يشكل غيابها أو تغييبها سمة ضمن استراتيجية التربية والتعليم في بلادنا. والدليل على ذلك أن المعيار الوحيد المتحكم في امتحانات ولوج مراكز التكوين بجميع أنواعها، إنما هو المعيار المعرفي..، وهذا هو السر في أن مدارسنا عرفت وتعرف انتكاسة مريعة على مستوى من أوكل إليهم المجتمع تعهد أبناء وفلذات أكباده بالتربية والتهذيب، فإذا بكثير من هؤلاء “المربين” يتحولون إلى معاول هدم وتخريب يغذون منظومة الفساد العام ويعيدون إنتاج النماذج المنحرفة التي تعمق المأساة، وتبعد الأمة عن موعد الخلاص.
والله الموفق للصواب. و لا حول و لا قوة إلا باللهالعلي العظيم
——————
* مساهمة في ندوة “المجتمع والأخلاق” التي نظمتها جمعية النبراس الثقافية بوجدة (السبت والأحد 8- 9 ماي 2004).
(1) العلامة الشيخ أبو الحسن الندوي -محاضرات إسلامية في الفكر والدعوة جمع وتحقيق وتعليق سيد عبد الماجد الغوري، ط1 1422هـ/2001. دار ابن كثير nدمشق- بيروت- ص 561.
(2) نقلا عن العلامة الشيخ أبي الحسن الندوي المرجع السابق (ص 566).
(3) إصدار مجمع اللغة العربية nالإدارة العامة للمعجمات وإحياء التراث قام بإخراجه: إبراهيم مصطفى وآخرون. ج1/المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع- استانبول- تركيا.
(4) أورد هنا على سبيل المثال ما ورد ضمن وثائق تربوية عامة من إصدار مديرية التعليم الثانوي قسم البرامج 1991 (حول التعليم الأساسي ص 5: +الأساس الديني: يعتبر الدين الإسلامي السمح شريعة المملكة المغربية وعقيدتها الراسخة، تتجلى على جميع الأصعدة والمجالات، وتستلهم مبادئها وتعاليمها في التفكير والتخطيط والتنفيذ والتقويم، لذا فالتعلم الأساسي يسعى لطبع أهدافه ومضامينه بروح الشريعة الحنيفية ومقاصدها فعلى التعليم الأساسي أن يكفل استمرارها وفاعليتها وتمثل الأفراد والجماعات لمبادئها وتعاليمها اعتقادا وسلوكا ومعاملات؛.