الربط بين الأمن المعيشي والأمن الديني
يقترن الأمن المعيشي بالأمن الديني، اقتران الوسيلة بالهدف. فإذا انهدمت الوسيلة وتعطلت فاعليتها، صعب تحقيق الهدف. ولذلك يوجه القرآن الكريم ـ في دعاء إبراهيم عليه السلام ـ إلى أن توفر الأمن المعيشي، والأمن الاجتماعي، سبب في عبادة الله وشكره :
- {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون}(ابراهيم : 37).
وتتكرر توجيهات الرسول إلى العلاقة بين العبادة والأمن المعيشي، من ذلك ما يرويه الصحابي أبو واقد الليثي ] حيث قـال:
- “كنا نأتي النبي إذا نزل علينا، فيحدثنا. فقال لنا ذات يوم : إن الله عز وجل قال : إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. ولو كان لابن آدم واد لأحب أن يكون إليه ثان. ولو كان له واديان لأحب أن يكون إليهما ثالث. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. ثم يتوب الله على من تاب”(1).
وعند تفسير قوله تعالى : {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة}، قال ابن زيد : افترضت الصلاة والزكاة جميعاً، لم يفرق بينهما -وقرأ الآية- وأبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال : رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه!.
وعن عبد الله بن مسعود قال : أمرتم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة ومن لم يزك فلا صلاة له(2).
فالصلاة -إذن- لا تقوم معانيها في واقع الحياة، إلا إذا اقترنت بإيتاء الزكاة.
والرسول يربط ـ أيضا ـ بين الأمن المعيشي، وبين شفاء الإنسان من الجريمة، والشح، والانحراف. وكأن الأمة المسلمة مسؤولة عن توفير الوسائل والمأوى اللذين يوفران للمجرمين والمنحرفين الشفاء من أمراضهم وانحرافاتهم، من خلال تلبية حاجاتهم، التي أدت بهم إلى الانحراف. فعن أبي هريرة أن رسول الله قال : “قال رجل لأتصدقن بصدقة. فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق. فأصبحوا يتحدثون : تصدق على سارق. قال : اللهم لك الحمد، لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته، فوضعها في يد زانية. فأصبحوا يتحدثون : تصدق على زانية. فقال : اللهم لك الحمد على زانية لأتصدقن بصدقة. فخرج بصدقة فوضعها في يد غني. فأصبحوا يتحدثون : تصدق على غني. فأُتِيَ فقيل له : أما صدقتك على سارق، فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله”(3).
الربط بين الإيواء والفاعلية السياسية والإدارية
وحتى يصبح “الإيواء” حقيقة قائمة في الحياة الاجتماعية، لا بد من توفير الضمانات الكافية له، وعلى رأسها الوسائل الإدارية والسياسية التي تضمن للإيواء تحققه واستمراره.
ولقد اعتمد تنفيذه في صدر الإسلام على تقوى الحاكم، ورسوخه في علمه. من ذلك ما قام به أبو بكر الصديق] من رفض حازم لعرض المرتدين لأداء الصلاة دون الزكاة، حتى لا تتعطل فاعلية الصلاة في حياة الناس، وتتحول تحت ضغط الحاجات المادية إلى طقوس وحركات شكلية.
ومثله عمر بن الخطاب] الذي حرص على أن لا يتميز الخلفاء والولاة عن غيرهم في مظاهر العيش. من ذلك كتابه إلى أبي موسى الأشعري ] الذي جاء فيه :
“إنما أنت رجل منهم (أي من المسلمين)، غير أن الله جعلك أثقلهم حملا. وقد بلغني أنه نشأ لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك، ومطعمك، ومركبك، ليس للمسلمين مثلها. فإياك يا عبد الله أن تكون بمنزلة البهيمة مرت بواد خصب، فلم يكن لها هم إلا التسمن، وإنما حتفها في السمن، واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته، وأشقى الناس من شقيت به رعيته”(4).
وحين كتب إليه عمرو بن العاص من مصر: “إنا قد خططنا لك دارا عند المسجد الجامع! “.
رد الخليفة عمر قائلا :
“إني لرجل من الحجاز تكون له دار بمصر؟”، وأمره أن يجعلها سوقا للمسلمين(5).
ثم حدد صلاحية الحاكم بالنسبة لمال الأمة بقوله :
“إني أنزلت مال الله تعالى مني بمنزلة اليتيم : إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت”(6).
وفي رواية أخرى :
“يحل لولي الأمر ما يحل لولي اليتيم، من كان غنيا فليستعفف، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف”(7).
ومثله ما فقهه علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ حين قال :
“إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، وإن جاعوا وعروا وجهدوا، فيمنع الأغنياء، وحق على الله أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه”(8).
ولكن التاريخ أثبت أن هذا الحرص الذي التزمه أبو بكر، والاستعفاف الذي تحلى به الخليفة عمر، والحس الاجتماعي العادل المرهف الذي أوتيه علي ]، لم يتصف به إلا أبو بكر، وعمر، وعلي، ونفر لم يتعد أصابع اليد. لذلك لا يجوز أن يترك مصير “الإيواء” المعيشي والاجتماعي لتقوى الحاكمين ومشيئتهم، وإنما لا بد أن توجه التربية إلى صون هذا الإيواء وحمايته، بالتشريعات والمؤسسات، التي تقيد القائم عليه، وتجعله عرضة للاستجواب، والاستفسار، والمحاكمة إن أتى ما يخرق هذا الحرص، والاستعفاف، والتشريع.
كذلك لا يجوز أن تترك صدقات الفقراء لمشيئة الأغنياء، ليبذلوا الفضلات، والفتات، والدراهم، والقروش، التي لا تسد حاجة، ولا توقف عوزا، وإنما لا بد من التشريعات وضرائب الضمان الاجتماعي، التي توفر حاجة الأمة في “الإيواء” بالأساليب الكريمة التي لا تنال من كرامات الناس، ولا تعرضهم للمن والأذى، إذا لم تَكْفِ الزكاة لذلك.
أهمية الإيواء
واستنادا إلى معاني “الإيواء” ومظاهره، يتضح دور الإيواء، وأهميته في الأمة التي يوجهها روح هذا العنصر. وتتجلى هذه الأهمية فيما يلي :
أولا : الأمة التي يوجه الحياة فيها عنصر”الإيواء”، أمة مفتوحة الأبواب للمؤمنين من جميع الأجناس، فليس هناك حواجز مادية، ولا عوائق قانونية، مما تفرزه روابط الدم والإقليم. بل تكون جنسية المسلم هي عقيدته. وبها ـ فقط ـ تتحدد مكانته الاجتماعية وتتيسر إقامته، ونشاطاته.
ثانيا : حين يوجه ” الإيواء” ممارسات الأمة، يرتاح الناس من أسباب الصراع الطبقي والعنصري، ولا تظهر مظاهر هذا الصراع ومضاعفاته. ويتوفر لكل إنسان فرص الاستقرار الاجتماعي والفكري والنفسي، ويتوفر له الزواج وتكوين الأسرة والمأوى الذي يقيه من غوائل البرد والحر والتشرد، ويمنحه الستر والراحة.
ثالثا : والأمة التي يوجه علاقاتها ” الإيواء” تتمحور قيمها الاجتماعية حول (المظهر الاجتماعي) للعبادة. وتتوفر فيها الضمانات والخدمات العامة كالتعليم والصحة وفرص العمل، وغير ذلك مما يحمي الإنسان من الجهل والمرض والفقر وآثار الحوادث والشيخوخة والنوازل المختلفة.
رابعا : حين تسود قيم “الإيواء” في الأمة، تتمحور قيمها الإدارية حول ” الإعداد والتخطيط بدل “الارتجال والتفريط” وتعد للمستقبل عدته، وبذلك تحفظ مجتمعها من الأزمات، وحضارتها من الانحطاط والانهيارات.
خامسا : حين يشكل “الإيواء” بعض مكونات الأمة ويغذي دعائمها، لا تسمح بارتفاع الأسعار ارتفاعا ينسف مفهوم الإيواء، ويطرد الأفراد في هجرات معاكسة إلى الخارج. فلا سماح أبدا بزيادة النفقات عن الدخول، ولا تترك للاحتكار والاستغلال منفذا ليهز أركان الأمة ويضعف تماسكها وروابطها.
مسؤولية التربية
إزاء عنصر (الإيواء)
تتجلى مسؤولية التربية الاسلامية إزاء عنصر ـ الإيواء ـ في الأمور التالية :
> الأول : بلورة مضامين مظاهر الإيواء التي مرت في البحث، حسب مقتضيات التطور الاجتماعي الذي تمر به الأمة، زمانا ومكانا، وترجمتها إلى تطبيقات عملية حسب الحاجات والتحديات.
والثاني : إفراز المؤسسات العلمية التي تطور مضامين (الإيواء) إلى علوم متخصصة، تنمو وتتشكل حسب حاجات الزمان والمكان.
> والثالث : اقتراح المؤسسات الإدارية والتنفيذية التي تضمن تجسيد عنصر (الإيواء) في شبكة علاقات اجتماعية تهتدي بالأصول الإسلامية، مع مراعاة الاستفادة من مظاهر الحكمة عند الآخرين، والتجاوب مع الشؤون المتجددة.
> والرابع : تعميق الولاء لعنصر (الإيواء) ومؤسساته وتطبيقاته، والغيرة عليها كلها من عدوان المتسلطين أو المحتكرين، إلى درجة الغيرة على الأعراض والحرمات، لأن في غياب الإيواء ومؤسساته وتطبيقاته، تعريض الأعراض للامتهان، والحرمات للتدنيس.
> والخامس : تطوير علم اقتصاد إسلامي يبدأ بنصيب الآخرة، ويمر بنصيب الدنيا ـ كما قال معاذ بن جبل ـ وبذلك تبرز نظريات وتطبيقات اقتصادية تتطابق مع أصول الإيواء في القرآن والسنة، وتفنيد النظريات الاقتصادية ـ التي تبدأ بنصيب الدنيا وتضر بنصيب الآخرة ـ وتشيع الاحتكار والرأسمالية ومضاعفاتها في الطبقية، والترف والفقر والتلاعب بالأسعار والمضاربات، وغير ذلك من تطبيقات الدارونية الاجتماعية التي يتصف بها الاقتصاد الحديث.
>والسادس : تطوير مفهوم إسلامي للعمل، يحتقر العجز والكسل، ويحارب الاحتيال والجشع ، ويثمر السعادة بالعيش، والاستمتاع بالعلاقات والمعاملات.
———-
1- مسند أحمد بشرح الساعاتي، ج 5 ص 219.
2- الطبري التفسير، ج 10، ص 87.
3- صحيح البخاري، باب الزكاة.
4- كنز العمال، ج 5، ص 696 نقلا عن الدينوري.
5- كنز العمال، ج 5 ص 687، نقلا عن تاريخ مصر لابن عبد الحكم.
6- تفسير الطبري، ج 4، ص 255.
7- نفسه، ص 258.
8- كنز العمال، ج 6، ص 528، نقلا عن سنن البيهقي.