ماذا وراء التصعيد الدراماتيكي الغربي في دارفور؟ لماذا الإصرار الأمريكي على إصدار قرار -أي قرار- من مجلس الأمن وإعطاء السودان شهرا واحدا (على الطريقة العراقية) كمهلة لاعتقال ومحاكمة قادة قبائل عرب في دارفور بدعوى أنهم من الجنجويد الذين قاموا “بفظاعات” ضد القبائل الأخرى من أصل أفريقي في دارفور دون أن يشمل القرار معاقبة الطرف الآخر في الصراع وهم متمردو دارفور؟. وهل هناك علاقة بين قرار مجلس الأمن الذي يهدد بفرض عقوبات على السودان في غضون 30 يوما “إذا لم ينزع سلاح مليشيا الجنجويد في دارفور ويحاكمها”، وبين قرار الكونجرس الأمريكي الذي سبقه ووصف ما يحدث هناك بأنه “تطهير عرقي” ليمهد الطريق لتدخل دولي؟ ولماذا طلب توني بلير رئيس الوزراء البريطاني من عسكرييه وضع خطط لاحتمال التدخل العسكري في السودان، وطلب الرئيس الفرنسي من قواته في تشاد التعبئة العامة، وأشاد كوفي عنان بالقرار رغم أنه وعد الخرطوم بفرصة كاملة لإنهاء الأزمة سلميا؟ ثم لماذا ألقى الإسرائيليون بثقلهم في معركة دارفور ونفخوا في إشاعة “الإبادة الجماعية” داعين لحملة دولية ضد الخرطوم؟.
الظاهر للعيان أن لغة المصالح الغربية والإرث التاريخي الاستعماري والصليبي هو الأمر الحاكم في أزمة دارفور، وأن هناك أطرافا لها مصلحة أكيدة في الترويج لشائعة التطهير العرقي والإبادة الجماعية تسعى للوصول بالأزمة إلى ذروتها وتكرار مأساة العراق في السودان لتحقيق أكثر من هدف، ومواصلة مخططات قديمة. والمؤكد -كما يقول د. حسن مكي مدير مركز الدراسات الأفريقية في الخرطوم- أن هناك “إستراتيجية مرسومة” ضد السودان ككل وليس لمجرد حماية دارفور، وأن هناك محاولة لإعادة تشكيل السودان ككل والتمكين لجون جارانج قائد التمرد الجنوبي.
ولهذا توعد أول رد فعل رسمي سوداني على قرار مجلس الأمن -على لسان وزير الإعلام الزهاوي مالك- بمواجهة “دسائس الحكومات المعادية ومؤامرات الذين يطمحون إلى الاستيلاء على الموارد الاقتصادية للسودان”.
وبشكل عام يمكن رصد تداعيات وما سيترتب على هذا القرار فيما يلي:
1- تحديد مهلة 30 يوما فقط لوقف العنف في دارفور يفترض سلفا أن “الجنجويد” والقبائل العربية هم سبب الأزمة وحدهم وأن الحكومة السودانية هي التي تديرهم بـ”الريموت كنترول” ومن ثم سوف تردعهم فورا، وهذا خطأ فادح؛ لأن العنف في دارفور بدأ من قبل مليشيا حركات التمرد في جبل مرة، التي تنحدر من قبائل أفريقية، ولن تستطيع الحكومة السودانية وقفه، بل سيظل هو الحجة لإثبات عدم سيطرة الخرطوم على الأوضاع تمهيدا لتصعيد العقوبات ضد السودان على الطريقة العراقية.
2- في حالة عجز الخرطوم لسبب أو لآخر عن وقف العنف هناك (قرار مجلس الأمن لا يطالب المتمردين بوقف القتال) ستستمر حلقة الضغط بقرارات أخرى اعتمادا على المادة رقم 41 من ميثاق الأمم المتحدة التي تجيز اتخاذ إجراءات عقابية أخرى “غير عسكرية” منها “وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفا جزئياً أو كليا وقطع العلاقات الدبلوماسية”.. وهذا السيناريو سيكون “قريب الشبه بالضغط المتزايد الذي مورس على العراق قبل الحرب عام 2003″ كما قال وزير الخارجية السوداني.
3- يطالب القرار الخرطوم بأن تنزع سلاح مليشيا الجنجويد “في غضون 30 يوما” فقط رغم أن السلاح ظل يتدفق على دارفور قرابة ربع قرن من كافة الجهات نتيجة الحروب الأهلية وبسبب السعي لمواجهة تمدد حركة جارانج في الغرب بعد الجنوب، فضلا عن أن هذه المنطقة تعتبر سوقا للسلاح، ما يعني أن معدي القرار يعلمون جيدا أن الخرطوم ليست قادرة على تلبية الطلب في هذه الفترة الزمنية الوجيزة، ولهذا حددوا سلفا عقوبات أخرى ستتم!.
4- الضغوط الدولية على الخرطوم ستؤدي تدريجيا لتطرف القوى السودانية الحاكمة ورفع شعارات الجهاد والدخول في حلقة مفرغة من قرارات مجلس الأمن مع أمريكا وبريطانيا تمهيدا لإرسال قوات غربية تحت علم الأمم المتحدة، وفي هذه الحالة يرسم وزير الخارجية السوداني سيناريو لما سيجري بقوله: “أفترض دخولا للقوات البريطانية بعد سحب القوات السودانية من دارفور، أتعرفون ما سيحدث؟.. بعد شهر أو اثنين سيعتبر سكان دارفور القوات البريطانية قوات احتلال ونفس الأحداث التي تواجهونها الآن في العراق ستتكرر في دارفور”.
5- القرار يتجاهل تماما الجهود التي تقوم بها الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي ولا يعتد بها، وهو نفس الأسلوب المتبع في حالة العراق والذي انتهى للغزو والاحتلال؛ لأن هناك مصالح غربية من وراء الغزو كانت لها الغلبة في التفكير والخطط.
أما الهدف النهائي الظاهر من القرار ومن التدخل الغربي الكثيف فهو تركيبة من عدة أهداف مجتمعة أبرزها:
- تفكيك السودان وضرب وحدته بنزع ربعه الجنوبي (الذي رسمت معالمه اتفاقية نيفاشا)، ونزع خمسه الغربي في دارفور ووضعه تحت أمريكا بغطاء الأمم المتحدة، وسلخ شرقه (منطقة الحدود مع أثيوبيا وأريتريا) بحيث تبقى دولة ممسوخة ضعيفة بلا موارد بترولية ومحاصرة وسهل قيادها.
- إنهاء مشروع “الإنقاذ الإسلامي” الذي سعى إلى توسيع نطاق السيطرة العربية شرقا وجنوبا وغربا في القارة الأفريقية بشكل يتعارض مع المصالح الغربية، وهذا ما دفع الرئيس السوداني عمر البشير لاتهام المجتمع الدولي “باستهداف الإسلام” والقول عقب صلاة الجمعة 23 يوليه 2004 في منطقة الجزيرة وسط البلاد: إن الاهتمام الدولي بقضية دارفور ليس هو هدف الحملة ضد بلاده، لكن الدافع هو “استهداف دولة الإسلامفي السودان”.
- تمهيد الطريق أمام المتمرد الجنوبي جون جارانج لفرض سيطرته بحرية في الجنوب، والتمكين له ليلعب دورا أكثر ضغطا على حكومة الخرطوم التي سيعتبر نائب رئيس دولتها، بحيث يكون عنصر هدم لما تبقى من مشروع “الإنقاذ”.
- تهديد دول الجوار العربية خصوصا مصر بشكل مباشر وحصارها إستراتيجيا وتوجيه رسالة عبر ضرب الخرطوم بأن القاهرة ليست بمنأى لو حاولت التملص من الضغوط الأمريكية كما تفعل الآن فيما يخص قضايا تأتي في مقدمة الأجندة الأمريكية في المنطقة.
- حصار المد العربي والإسلامي الذي انتعش في السنوات الـ15 الأخيرة على يد منظمات وهيئات خيرية تعليمية وإسلامية سودانية في أفريقيا، وإعادة تنشيط الدور التنصيري الغربي الذي تلعب فيه المنظمات الإغاثية الغربية دورا حيويا، وله خريطة واضحة المعالم تمتد من جنوب السودان حتى جنوب أفريقيا عبر سلسلة من المواني النهرية والمطارات الصغيرة .
- إنهاء الأمل العربي في تحول السودان (في ظل السلام المأمول) إلى سلة غذاء العالم العربي.
المصالح الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية في دارفور
ولكن ما هي مصلحة كل طرف من الأطراف الأمريكية والأوربية والإسرائيلية من التصعيد في ملف دارفور والسعي لاستهداف الدولة السودانية ككل.. هل الفشل الأمريكي في العراق والأكاذيب التي شوهت صورة الرئيس بوش أمام الأمريكان وراء التحرك بقوة في دارفور تحت لافتة إنسانية هذه المرة؟ وهل السعي البريطاني للتدخل في دارفور عائد لإرث تاريخي استعماري لاستكمال المعركة التي بدأت مع حركة المهدي الإسلامية (1885- 1898م) والبحث عن دور لأحفاد الإمبراطورية البريطانية في مستعمراتها القديمة، فضلا عن اختراع مبرر إنساني هذه المرة للتدخل؟.
ثم لماذا التدخل الإسرائيلي الواسع والبكاء على أطلال دارفور وتشبيهها بما يسمونه مذبحة “ياد فاشيم” أو الهولوكوست الإسرائيلية.. ولماذا أقدم “متحف الهولوكوست” في الولايات المتحدة على تعليق نشاطاته للمرة الأولى في تاريخه لتنظيم حدث مدته نصف ساعة عن الأزمة الإنسانية في دارفور.. هل الغرض تلميع صورتهم “الإنسانية” والتغطية على جرائمهم في غزة ومدن الضفة، أم الاستفادة من حصار السودان وضربه لتنفيذ بقية مخططهم الواسع تجاه السودان وحصار مصر (العدو التقليدي)؟ وهو الدور الذي فضحه كتاب أصدره مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وأفريقيا (التابع لجامعة تل أبيب) حول (إسرائيل وحركة تحرير السودان)، الذي كتبه ضابط الموساد السابق العميد المتقاعد موشي فرجي وشرح فيه بالتفصيل ما فعلته إسرائيل لكي تحقق مرادها في إضعاف مصر وتهديدها من الظهر، وكيف أنها انتشرت في قلب أفريقيا (في الفترة من عام 56 إلى 77 أقامت علاقات مع 32 دولة أفريقية)، لكي تحيط بالسودان وتخترق جنوبه، وكيف انتقت من بين زعماء الحركة الانفصالية واختبرت جون جارانج، فأعدته وساندته لكي يتحدى حكومة الخرطوم ويفرض نفسه عليها!؟.
ثم لماذا دخلت الأمم المتحدة على خط التصعيد الغربي والترويج لتطهير عرقي في دارفور؟ هل الهدف هو أن يُطهر كوفي عنان أمين عام الأمم المتحدة نفسه من ذنب التغافل عن التطهير العرقي السابق في رواندا ومقتل الآلاف وإظهار أنه جدير بالدعم الغربي لفترة أمانة عامة ثالثة بعد انتهاء فترة خدمته الثانية نهاية 2005؟.
لا شك أن عقدة الكذب لدى كل من بوش وبلير فيما يتعلق بالعراق واختراع قضية أسلحة الدمار الشامل والحرب على الإرهاب كذريعة لشن الحروب الاستباقية وتغيير الأنظمة، لها دور في قضية دارفور، حيث يسعى كل منهما للبس قناع إنساني جديد يخفي الوجه القديم ويظهرهما بمظهر منقذ البشرية المعذبة، ولا شك أن هذا بدوره ما هو سوى قناع زائف.
فالشهادة التي قدمها نائب وزير الخارجية الأمريكي للشئون الأفريقية تشارلس سنايدر أمام الكونجرس في 6 مايو 2004 وتحدث فيها عن التوجه الإسلامي لحكومة الخرطوم والمصالح الأمريكية في أفريقيا، وضحت بما لا يقبل الشك أن الهدف هو خلق الظروف الملائمة لعملية انفصال دارفور عن السودان، مثلما يجري السعي إلى هذا الهدف بنجاح في جنوب السودان. بحيث يتوقع مخططو هذه الأهداف -كما تقول مجلة Executive Intelligence الأمريكية المعارضة لسياسات الإدارة الأمريكية- أن يتم تشجيع أقاليم أخرى من السودان، مثل المنطقة الشرقية المحاذية لإريتريا (وبعض الأقاليم في دول مجاورة أيضا) على الانفصال، ويتم خلق ما يسميه المنظرون الأنجلوأمريكيون “دولا فاشلة” في كل المنطقة بشكل متعمد فيتدخلوا هم بسهولة!.
مهندسو هذه السياسات من بريطانيا والولايات المتحدة هم أنفسهم الذين ساندوا الحركة الشعبية لتحرير السودان في سعيهم لفرض حالة شبه انفصال لجنوب السودان عن طريق حركة التمرد، ويبدو اليوم أن المتمردين في دارفور، حتى وإن كانت لدى سكان المنطقة مطالب مشروعة، يتبعون نفس المسار ويتم دعمهم من الخارج بنفس الطريقة.
والصورة الجديدة للإمبراطورية الأنجلوأمريكية، كما يطالب بذلك منظرو الجمعية الفابية البريطانية المنتجة لفكر حزب العمال وحكومة توني بلير، هي أنه يجب تنحية قضية أسلحة الدمار الشامل والحرب على الإرهاب جانبا كذريعة لشن الحروب الاستباقية و”تغيير الأنظمة” خاصة بعد الفضائح الكبيرة التي برزت في حربي أفغانستان والعراق، والتوجه نحو التدخل العسكري وتغيير الأنظمة “الفاشلة” كما يقولون “لأسباب إنسانية” وبسبب انتهاكات حقوق الإنسان فيها!!.
ميزة هذه السياسة الجديدة هي أنها -بعد حملات إعلامية واسعة النطاق كما يفعلون الآن حيث يضخمون من قضية دارفور- يمكنها كسب تعاطف عدد أكبر من الدول والشعوب مع مثل هذا التدخل، وهو ما لم يحدث في حرب العراق، ويبدو أن السودان قد يصبح حقل التجارب لهذه السياسة الجديدة لغزو الدول التي لا يرضى عنها الغرب!.
يبدو أن حملة العلاقات العامة التي قام بها الزعماء الغربيون ومنظمات الإغاثة التبشيرية الغربية بشأن دارفور تمثل جزءا من الترويج لهذا التدخل المنتظر، إن قرار مجلس الأمن بشأن دارفور جاء كمقدمة لهذه السياسة الجديدة لقلب نظم الحكم المعادية للغرب.