{وأنفقوا خيرا لأنفسكم}
مفهوم الكنز عند أبي ذر ومن كان يرى رأيه من الصحابة
كان أبو ذر الغفاري يرى أن الكنز له فهم آخر، وهو عموم المال، كل المال الزائد عن حاجة المسلم بعد أداء ضرورياته، بمعنى أن الانسان لديه مال، هذا المال يجب أن يغطي جميع ضرورياته بعد أن يلبي جميع حاجاته الضرورية التي يعيش بمثلها أمثاله يبقى له فائض، هذا الفائض إذا ادخر عند أبي ذر، فقد وقع صاحبه في الكنز حينئذ، فكان أبو ذر لا يرى أبدا أن الإنسان بعد تغطيته لجميع الحاجات -وهو مذهب كثير من الصحابة- بإمكانه أن يبقى بيده ذلك المال نقدا.
كان أبو ذر يتقاضى أجره من الدولة ككل المسلمين. فكان يُعطى أربعة آلاف درهم عن سنة، فينادي خادمه ويقول : كم يكفيك في نفقة عامك؟ فيقوم أبو ذر بشراء كل ما يحتاجه خلال السنة حسب التقديرات، وما بقي بعد ذلك من دراهم كان يصرفها إلى فلوس دراهم فضية أو دنانير ذهبية لأن جعلها فضة أو ذهبا معرضة للادخار من حيث هي معادن ثمينة وهذه قاعدة اقتصادية معروفة تقول “النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة”. لذلك تجد الإنسان دائما يحاول الاحتفاظ بالنقود الجيدة يدخرها ويتعامل بتلك الأقل جودة وهي الفلوس لأنها تكون من نحاس.
إذن معنى هذا أن هذا النقد الذي هو قوة اقتصادية كله سيختفي والدراهم والدنانير كلها ستُدَّخر في المنازل، بمعنى أن الذي بقي بيد الناس هو بعض الفلوس فقط. ولم يعد هناك تداول كبير، لأن كل المال أُخفي. فأبو ذر كان يتخوف من هذا الأمر، فكان يرى أن ما زاد على حاجته يحولُهُ إلى فلوس حتى لا تكتنز، وكان طبعا يصرفها في نفقته الخاصة أو على عموم المسلمين. المهم أنه يستقبل بها بعضا من أنواع النفقة. بمعنى أن أبا ذر ] كان يمنع المسلمين أو كان يأمر بأن لا يكتنز ذلك المال، وأن لا يدخر ذلك المال، لأن ادخار ذلك المال هو توقيف للحركة الاقتصادية مطلقا، ولكن هذا لا يعني أنه لم يكن يمتلك، كان له خادمان كما يقال، كانت له قطعة من إبل، وكانت له قطعة من غنم. لكن بعد هذا الذي هو في حاجة إليه، ماذا يفعل بأمواله؟
يخزنها في جانب من حوانب البيت أو يفعل كما يفعل الناس الآن يدخلها في حسابه في البنك؟؟.
أبو ذر كان لا يفعل هذا وكان ضد الذين يزيدون عن تغطية الحاجات الضرورية، وكان يرى أن ما زاد على ذلك إنما هو من قبيل الكنز. إذن مازاد على الحاجة فيجب أن ينفق في سبيل الله، هذا مبدؤه.
أبو ذر لم يكن يمنع الملكية الفردية كالشيوعية
لكننا فيما بعد رأينا من يتعلق بأبي ذر ويقول إنه رحمه الله كان شيوعيا. أي على المذهب الذي أسسه ماركس. الكل كان يتحدث عن اشتراكية أبي ذر. فهو لم يكن يمنع الملكية الفردية وفي نفس الوقت كان يرى إباحتها وجوازها ولكنه كان يرى ببساطة أن الانسان يجب أن تُلبى جميع حاجاته وفي نفس الوقت عليه أن يشتغل بماله أي يجب أن يحرك مالَه حتى يبقى المال دائما رائجا كما قال تعالى : {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} فتعطيل الرواج للمال هو ما كان ضده أبو ذر ].
والذين كانوا يتعلقون بأبي ذر ما كانوا يتبعونه في صلاته، ولا في صيامه، ولا في تدينه، بعضهم دائما حين يريد أن يتكلم عن الاشتراكية يتحدث عن أبي ذر، وهو لا يصوم ويتحدث عن أبي ذر وهو لا يصلي. هل كان أبو ذر لا يصلي، أبو ذر ليس قدوة لأحد من هؤلاء، إنه مثَّل فهما في الشريعة الاسلامية انطلاقا من فهمه لقوله تعالى : {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} وقصده من ذلك أن يُحَرِّك المال، ولا يبقى جامدا وأن تتصرف الأمة في جميع طاقاتها حتى لا تجمد هذه الطاقات.
نظرية أبي ذر اجتهاد من داخل الاسلام
لكن هذا الفهم لأبي ذر ومعه أناس آخرون، هو فهم في الحقيقة غير خاص به وغير خارج عن الشريعة. إنه اجتهاد من داخل الاسلا م ليس من خارجه تؤيده الكثير من توجهات الشريعة الإسلامية، وكثير من أحكام الشريعة الاسلامية، عكس هؤلاء الذين يأتون بنظريات جاهزة ثم يصيرون عندنا شُرَّاحا لها بلغة عربية ويدعمون ذلك بأدلة وحجج قرآنية. أي أن النظرة الشيوعية التي دافع عنها الشيوعيون عندنا لم يأخذوها اجتهادا من القرآن ولكنهم جعلوا القرآن يصادق عليها بالقوة، لو أنهم وصلوا إلى شيء منها اجتهادا من القرآن يجتهدونه أو استنباطا من السنة يستنبطونه لقلنا إنهم أناس مجتهدون انتهى بهم اجتهادهم إلى هذا المنتهى، لكنهم لم يكونوا كذلك إنهم اقتبسوا النظرية واستجلبوها بكل أخطائها وبكل عيوبها ثم صاروا ينقلونها إلينا نحن بلغتنا، بلغة عربية، ثم صاروا يؤيدون أفكارها بآيات يحاولون أن يلووا فيها أعناق الألفاظ، والأكثر غرابة أن الصحابة في نظر هؤلاء ـ أصبحوا اشتراكيين وشيوعيين، وأحيانا ديمقراطيين على حسب طلبات العصر ورغباته. وهذا كله لاغ لأن ما تأسس على الباطل فهو باطل.
فقد سقطت الشيوعية وسقطت جميع الشروحات التي حاولنا أن نشرح بها هذه الفلسفة التي كانت تجربة إنسانية أبان الزمان عُوَارها وفسادها وانتهى دورها وانتهت رسالتها. ولا أحد أصبح يحن إليها كنظرية اقتصادية ناجحة ولكن كتيار متسلط واستعمار فكري ما زال له بريق في أذهان عشاقه، الذين يؤسسون به الأحزاب أو يسمون به تكتلاتهم؛ أما أن يطمع أحد في تطبيق الشيوعية فهذا ميئوس منه لأنه يعلم أن ذلك مضيعة للوقت وأن الزمن قال كلمته فيها وأنهاها بل وألغاها الواقع.
فهم أبي ذر للكنز ليس غريبا عن الشريعة
فالفهم الذي فهمه أبو ذر له ما يعضده من داخل الشريعة الإسلامية، فنحن إذا تجاوزنا هذا النص {والذين يكنزون الذهب والفضة…} نجد أن هناك نصوصا أخرى تشهد لهذا المعنى لا يتسع الوقت لذكرها، وهناك أحكام كثيرة تدعو إلى تحريك المال وجعله رائجا منها أن الله عز وجل رتب في حقوق المسلمين فريضة الزكاة، وفريضة الزكاة تدفع المال دفعا إلى النمو والكثرة، لأن الذي يؤدي زكاة ماله يجد نفسه مضطرا إلى أن يعوض ما أخذته الزكاة بأرباح جديدة، فالمسلم بطبيعته يجب عليه أن يتحرك في عمل تجاري، لأنه إن لم يربح يخسر، ليس هناك مال مستقر، المال يخسر مرتين، يخسر بجموده أولا وأنه يفقد قيمته عبر الزمن، ويخسر من جهة ثانية بالزكاة التي تنتقص منه وتأكل منه، إذن مال المسلم معرض للخسارة مرتين.
الزكاة فرض في مال المكلف وليس على المكلف
المهم الذي تنص عليه الشريعة الاسلامية أن فريضة الزكاة فريضة حاسمة في الدين، وفريضة ذات خصوصية، إنها لا تتعلق بتكليف المكلف، إن الصلاة لا تفرض على الانسان حتى يكون مكلفا، بالغا عاقلا واعيا بالشعائر الدينية وإن الحج كذلك وإن الصيام لا يطالب به الانسان إلا إذا بلغ سن التكليف وبلغ عاقلا.
فلو أن شخصا بلغ ولكن كان أحمقا فإنه لا يكون مكلفا حتى ولو بلغ الأربعين أو الخمسين، إلا في قضية الزكاة، فإن فرضيتها موجهة إلى المال، حين يوجد تتوجب فيه الزكاة، لا نقول إن صاحب المال صبي صغير ليس مكلفا كيف نخرج الزكاة في ماله، نقول لا، إن الزكاة ليست فرضا على المكلف، إنها فرض في مال المكلف، ولو كان عمره نصف ساعة فقط، يخرجها عنه وصية أووليه، ثم لازال الصبي يكبر حتى يبلغ مبلغ الرجال فيؤديها هو بيده. لكن المال يحتاج دائما إلى أن يطهر بالزكاة، وهذا دور خاص بالزكاة، ثم إن الزكاة هي العبادة التي فرض أمامها عقاب دنيوي معروف وباالاتفاق.
واقع الزكاة في حياتنا اليوم
إن الذين لا يؤدون الزكاة تجب محاربتهم حتى يؤدوا الزكاة، لأن القضية هنا ليست قضية شخصية. وليست قضية متروكة إلى مزاج الانسان، إنه أمر يتعلق به مستقبل الأمة ككل. فإذا تركنا الناس حتى يتوبوا بعد سنوات من منع الزكاة، فقد يتوبون بعد سنين متطاولة، ولكن بعد سنين يكون هناك فقراء قد ضاعوا، ومصالح تعطلت، وهذا هو الذي يقع الآن للأمة الاسلامية، الأمة الإسلامية في سوادها الأعظم، في جمهورها الكبير لا تؤدي الزكاة : الأمة الإسلامية في غالب أحوالها وغالب شأنها لا تؤدي الزكاة، هناك أناس لا يؤدون الزكاة بحجة أنه مجرد موظف (أستاذ أو معلم أو موظف في البريد…) لا يجب عليه أداء الزكاة، لا يسأل عن النصاب ولكن يقول إن الزكاة يؤديها أصحاب الملايير، فهم لا يؤدون الزكاة، بل على العكس نجدهم يجمعون الزكاة، يطوفون على الدكاكين والمحلات التجارية ويأخذون الزكاة كبقية الناس، وهو يجب في حقه أداء الزكاة، هذه كارثة. قد يكون المقدار المؤدى هزيلا، ولكن يجب أداء الزكاة على الجميع، على كل من ملك النصاب، حوالي 85 غراما ذهبية يجب أن يؤدي الزكاة، لا اعتبار كونه موظفا أو غير موظف، أو أن البعض يأتي ويقول لدي المال ولكني أريد أن أقتني به مسكنا أو غيره من الذرائع، هذا شأن. أما شأن الأغنياء فهو شأن أخطر، إن الغالبية العظمى من الأغنياء لا يؤدون الزكاة، بعض الناس تجب في أموالهم الملايين، الشخص الذي لديه مليار تجب في حقه 25 مليون، أين هي، أترونها؟ بعض الناس يجمعون الفرنكات الصدئة التي لديهم ويعطونها الفقراء ليذروا الرماد في العيون. وليس ذلك حسابا وليس ذلك شيئا مشروعا. فأكثر الأغنياء لا يؤدون الزكاة، يسرقون حق الله في أموالهم، ويذهبون للعمرة قصد الاستجمام مقابل مبالغ زهيدة بالمقارنة مع حجم أموالهم وما يجب فيها من الزكاة. ويأتون ويقولون إن الله تجاوز عنا كل ذنوبنا دون أن يخرجوا الزكاة.
إن ذلك المال الذي ذهبت به إلى الحج أو العمرة ليس مالك، بل هو مال الله عز وجل، هذا لعب بالدين وهو لعب لا يمكن أن يؤدي بأصحابه إلى خير أبدا. إنه نوع من الاحتيال والتلاعب، بمعنى أن الناس تعلموا الاحتيال والكذب في الضرائب والحسابات حتى بدأوا يطبقون ذلك مع الله عز وجل أيضا وأكثر من ذلك أن بعضهم يقول : أعطيها لابني، والآخر لبنتي، يعطيها بيد ليضعها في يده الأخرى. معظم الأسئلة تأتي بهذا الشكل، هذا نوع من الاستهتار والتلاعب.