غاب آخر شعاع من أشعة الشمس وراء الأفق الملتهب كالحريق الهائل ؛ ليلفظ النهار معه آخر أنفاسه فيحكم الوقت ليؤذّن المؤذّن من فوق مئذنته معلناً حلول موعد اللقاء الجديد الحبيب مع الربّ الخلاّق العظيم في بيت من بيوته الكريمة الطهورة.
كنا -آنذاك- صفوفاً خاشعين لأداء صلاة المغرب وقد أقبل الليل فعلاً ليغزو نصف العالم بجحافله ، وفيالقه إكتساحاً كزحوف العساكر عند الحرب .. فتلا الإمام الخطيب للجامع على مسامعنا في الركعة الأولى : {قل يا أيها الكافرون}، وفي الركعة الثانية : {قل هو الله أحد} .
فتمخَّض في أعماقي سؤال ، وقد برز قلم غيبّي ليخطّ على سبورة فكري هذه العبارة : ترى لماذا لا نجد لهاتين السورتين وقعهما المفروض الأثير وإيقاعهما القويّ الشديد وكأنما هما معاً يكونان “مارشاً” عسكرياً لجند الله المستعرضين وهم يخوضون غمار الحرب والموت ، بمعنويات عالية لا يوصف أوجها ولا يتصور عمقها ، فلماذا لا نشعر بذات الحرارة التي كان يشعر بها الصحابة رضوان الله عليهم وهم يسمعونها ويتلقونها من فم الوحي والموحى ؟ !
ترى أين ذهب ذلك السُّر ؟ أين صارت تلك الحقيقة ؟ وما الذي دهاها ودهانا ؟ !
ما بالها لا تؤثر فينا ذاك الأثر الأول ، وما لنا لا نتأثر بذلك الأثر الأقدم ممن كانوا قبلنا من الجيل الأول والرعيل الأول ؟
أين يكمن السرّْ ؟ أين ؟ أو بعبارة أخرى : كيف نتلّقى سحرها وأثرها وفعاليتها كما كان الأولون يتلقونها بكل يسر وسليقة ؟
أغلب الظن أن الجوَّ الذي نحن فيه ليس ذلك الجوّ ، بل إننا نفتقد ذلك المناخ ، وأن الأحتدام الذي كان يعيش فيه وله الصحابة رضوان الله عليهم لم يعد له وجود بتلك الشرائط والأسباب والكيفية .
كان الجاهليون السابقون صرحاء ، وصادقون ، يقولون ما يفعلون ، ويفعلون ما يقولون . كانوا حقاً عُبّاد أصنام وأوثان . وكانوا حقاً أهل هوىً وضلالة، وكانوا حقاً لا يريدون إلهاً واحداً ولا دينه ولا حكمه ولا منهجه ولا كتابه ولا رسوله بوضوح وصراحة وقوة ووقاحة وقد ضحّوا في سبيل كفرهم وشيطانهم بأرواحهم وأموالهم وأمجادهم ، لم يتراجعوا عن مواقفهم وإعلان الحرب الضروس ضد الإسلام والمسلمين ، ضد التوحيد والنُّور .
ولكن أين هذا التحدّي اليوم في حياة المسلمين؟ أين ذلك الرفض القوي الجاد المعلن جهاراً نهاراً؟ إن كل من يعادي الإسلام هم ممن ينتمون إلى الإسلام وينتسبون إلى دين الإسلام ؟ إن كل من يعادي هذا الدين وهذا القرآن هم كاليهود ، لا يقاتلون إلاّ في قرىً محصنة أو من وراء جدر . إن كل من يعادي الإسلام اليوم كلهم أجمعين من المنافقين وقلما تجد واحداً منهم يعلنها بصراحة ووضوح وتحدّي ورفض !
هذا وأن مشكلة المشاكل لهداة الدين وروّاده أنهم لا يجابهون في معركتهم للإسلام إلاّ صنفاً واحداً صلداً صلباً يملك صولجان الحكم ومقاليد رقاب الناس ولا يتحاكمون إلى الشريعة في شئ ويحكمون على أهوائهم أو على أهواء أسيادهم الذين صنعوهم ونصبوهم جلادين طغاة على شعوبهم وهم مع ذلك لا يكشفون على حقائقهم للناس بل وربّما أعلنوا إنتصارهم للإسلام وغيرتهم على الدين إعلاماً وألسنة .
أما أعمالهم وآثارهم فحدّث ولا حرج في مخالفة الشريعة بل إلى حدّ الإرتداد الفاضح إلاّ أن المشكلة الأخرى أن جماهير المسلمين متخلفين وعياً وفهماً وعملاً عن حقائق الإسلام وأنوار الإسلام وأسرار الإسلام فهم جهلة لا يطاق وهم غفلة لا تتصور وهم حريصون على حياة بصورة مزرية يندى لها جبين المسلمين الأوفياء الوعاة .
فماذا يفعلون ؟ وكيف السبيل إلى العلاج ؟ وكيف السبيل إلى عودة السحر الحلال إلى القرآن في نفوس أبنائه ؟ وكيف السبيل إلى التلقي الفطري الصحيح في قلوب المؤمنين المعاصرين ؟
هنا الحيرة ؟ وهنا السؤال ؟
هل هو تلقي القرآن لذاتك وحدك ؟ هل هو توجيه آياته إلى بعض الحكام وبعض الأفراد ؟ هل هو خلق الجو النفسي المتكافئ للجو السابق؟ هل هو حرب الأعداء بأساليبهم وخططهم ؟ هل هو تربية جيل جديد مشحون بمعاني قوية ودراسة خاصة تدرك عمق مأساة تجميد روح الإسلام وتحنيطه في متاحف الغفلة والدجل ودهاليز السياسة الماكرة للطواغيت الأذكياء الذين يحاربون الإسلام بقوة وقسوة من غير أن يثيروا الجماهير المسلمة ومن غير أن تثور حفائظ الغيارى بكيد مكيد، ومكر ممكور ، لم يسبق له مثيل .
أم بماذا ؟ وكيف ؟ فهل أعاننا أحد من أهل الشهامة والجسارة والعقل والحكمة والوجدان والوجد والحرقة في مستقبل هذا الجيل ومستقبل هذا الدين معاً .
فالأمر يتطلب تفكيراً عميقاً سديداً وعاجلاً أكيداً ولم يعد للانتظار مصلحة ولا فائدة . فالخطر محدق من كل مكان والأفول يطبق على الآفاق بالظلمات والأشباح والأطياف ولا أمل إلاّ في الالتجاء الصادق الحميم الصميم إلى أعتاب بيوت الله للاستنجاد والاستنقاذ فالحرب اليوم حرب الفنون والآداب والأنظمة لا العقائد السافرة الشاهرة . فكيف يجب أن يتصرف المسلم الداعية المخلص الغيور في مثل هذا الجو المضبب الغامض اللامباشر المغبوش ؟
فإعلان العقيدة مباشرة يوقعه إلى كثير من المواقف والتساؤلات الحرجة ولا يقتنع بها المستمعون والمتفرجون ؟ ولا يكادون يصدقون .. لأن المعارك ليست حامية واضحة جلية لمعارك الإسلام مع الجاهلية الأولى والوثنية الأولى والصنمية الأولى ؛ ولذلك فقد فقدت المعركة بين الإسلام وخصومه كثيراً من الفرص والساحات والأيدلوجيات.
إن أهم مايتسم به عصرنا هو النفاق والمنافقون، فعصر النفاق هو أحق وأصوب تعريف ملائم مطابق عليه لا بل ويستحقه .
فإذاً أنعلن الحرب على النفاق والمنافقين كأعم معركة جديدة ؟ وأن نميّز للناس أخلاق المؤمنين وأخلاق المنافقين ، فنركز على الأخلاق الإسلامية والإيمانية والإحسانية ، ونفضح حقائقهم حتى نسلبهم أسلحتهم المدّمرة أو نعزلهم فينكمشون في زوايا ضّيقة من الحياة والمجتمع المسلم .
فلو استقصينا القرآن الكريم بآياته البيّنات المتكررات على طول الخط ، لوجدنا أنه يدخل في حرب شعواء بالدرجة الأولى مع الملوك والسلاطين والأمراء والحكام الذين يشددون قبضاتهم الحديدية النارية في حكم البلاد والأوطان والشعوب والأقوام الضالة الفاسدة الظالمة المعاندة والمتمسكة بوثنيتها العفنة ، وجاهليتها القذرة بكل حماقة وصلافة وبكل قوة واقتدار إبقاءً على عروشهم الذهبية بأطول عمر ما أمكن ويكون ! ثم من بعدهم هؤلاء ، يأتي الأفراد الأفذاذ بالدرجة الثانية في كشف نواياهم وفضح أسرارهم وبيان ضلالاتهم ثم محاولة توعيتهم وتوجيههم إلى الحق الصراح وإلى الصراط المستقيم.