لن نستطيع أن نقرأ النورسي في خطابه الأدبي من غير التعرف على شخصيته ومنهجه ومعارفه ومقصوده، ثم أسلوبه البياني في عرض معارفه، سواء في النصوص العربية أو التركية. ثم يلزمنا أن نتحرى عن الخطاب الأدبي، ونميزه عن الأسلوب العلمي التقريري، ونعرف موقع بيان النورسي بين الأسلوبين. ويقتضي ذلك دراسة رسائل النور بأجزائها التركية والعربية. ونتعرض هنا إلى جوانب من هذه المواضع بنية أن تكون منطلقات وبدايات لإلقاء أضواء أسطع مستقبلاً.
سعيد النورسي عالم عثماني، عيّن رسمياً في أعلى هيأة علمية في الدولة العثمانية هي دار الحكمة الإسلامية. استقى العلوم في الأجواء التقليدية الرصينة التي سادت في المؤسسات الإسلامية العثمانية. والعلوم الشرعية العثمانية بلغت حداً يقرب من الكمال في الأصول والفروع، وفي طرق التدريس أيضاً. وكان من مظاهر التكامل أن العالم البحر لا يكاد يجد وليجة لزيادة جديد في الأسس والجذور، اللهم إلا أن يبنى جزءاً مستحدثا يقوم على أصل قديم. ومن الظلم أن يُعد ارتقاء العلوم إلى الذروة بالتكامل عيباً وشيناً وهو فخرٌ وعز! لذلك، يخطئ من يظن أن العلماء في الدولة العثمانية قصروا عن مسايرة قفزات العصر في السياسة والاجتماع والاقتصاد، أو وضعوا العثرات في طريق استيعاب العلوم الصرفة والفنون الإنسانية خارج مدار العلوم الشرعية، أو تعاجزوا عن الاجتهاد في الدين، وما يشبه هذه الظنون التي لا نهتم بتفنيدها في هذا البحث. لكننا نستشهد بالنورسي مثالاً للعالم العثماني من حيث العلم: إحاطة وغوصاً في أعماقه، وفي العمل: إخلاصاً في النية وتجديداً في الموروث ومثابرة في السعي وبعداً في النظر. فتأمل شيئاً قليلاً في رسائل النور بهذه العين ليتضح لك مفصلاً ما أوجزته آنفاً. ثم أنظر إلى رسالة الطبيعة والقدر وإشارات الإعجاز، وانظر إلى تلخيصه حين يقول أنه أمضى ثلاثين سنة في مجادلة طاغوتين هما: “أنا” في الإنسان، و “الطبيعة” في العالم(1). وأنه حصل في أربعين سنة في سفر العمر، وثلاثين سنة في سير العلم على أربع كلمات وأربع جُمل. الكلمات هي: المعنى الحرفي والمعنى الإسمي، والنية، والنظر. والجُمل هي: “أني لست مالكي” و “أن الموت حق” و “إن ربي واحد” وأن “أنا”: نقطة سوداء وواحد قياسي”(2) هكذا شأن العالم العثماني: يعب العلوم عبا، ثم قد يتيسر له أن يزيد عليها شيئاً، قد تراه قليلاً في الكم، لكنه كثير في النوع أصالة وغوصاً. وهذه الزُبَد الملخصة تدل على الغوص في العلوم والهيمنة عليها والإحاطة بها واستلام ناصيتها. فلما استفاد من سيره وسفره برسوه على هذه الزبد المستخلصة، أفاض برسائل النور شرحاً وإيضاحاً. ولها جانبان: جانب التبليغ في الرسائل وهو مرتكز استقطاب عداء الظالمين ضدها، وجانب المجاهدة والسلوك والارتقاء، وفيه ما فيه من الكشوفات والإيمانيات والمقامات التي لخصها النورسي بمقصود الإيمان وأركانه وأحواله.
لقد قدر الله للنورسي أن يبزّ أقرانه العلماء بالريادة في حمل راية العلم والعمل، فأقروا بفضله وتقدمه. بل أزعم أنه أفاض بالكثير، في شتى العلوم الإسلامية، فأوفى وأجزل تجديداً في العلوم وبعثا لها، وصقلا للصدأ عنها، حتى صار مظهراً للحديث النبوي الشريف الذي يبشر الأمة بمجدد يجدد أمر الدين المبين على رأس كل مائة. لكنني أرى ميلاً إلى التركيز على الجوانب العلمية في البحوث التي تتناول النورسي ورسالة النور. ففي أكثرها يُعرّف النورسي مفسراً أو متكلماً أو فيلسوفا أو صوفيا أو مفكراً متصديا لتيار الحضارة الغربية التي استباحت كل الميادين، وأن كانت تقر له بنهج فذٍ وسلوكٍ متميز في كل هذه الأقسام وفي غيرها. وفي الحقيقة أنه لا مأخذ على هذه البحوث، ولا لوم. ولكن أخشى أن الحيد عن جانب آخر في شخصية النورسي “العلمائية”، هو جانب التبليغ، قد يوفيه حقه عالما متبحراً ومجدداً، غير أنه يغمطه حقه في جهاده الدؤوب لتبليغ الحقائق الإيمانية. ويتبع ذلك، الغفلة عن تجديده العجيب في أسلوب التبليغ وطريقة الدعوة. ثم أخشى أن يبخس هذا الحيد حقه في مكابدات الكشف والارتقاء في المقامات الإيمانية التي تحررت نقولاته فيها من نصوص علم التصوف وقوالبه. فاللازم أن نطالع شخصية النورسي التجديدية: عالما وربانياً ومبلغاً. وأن رسائل النور أيسر السبل طراً للتعرف على الشخصية الفريدة. فهي تغني عن متابعة سيرته الذاتية وشهادة الشهود، وتذيب شخصيته فيها. فالرجل حركة في كتاب! كتاب يربو على خمسة آلاف صفحة تقيد علمه وأحواله وطريقته ومكابداته كلها!.
ونعرج إلى وصف لرسائل النور. الرسائل إملاء من فم الأستاذ على طلبة النور الذين كتبوها ثم عروضها عليه، فصححها وأقرها.المقصد الأساس فيها هو إحياء الإيمان وتثبيته في القلوب والعقول، في زمن تكاثف الهجوم فيه على الإيمان وأركانه ومقوماته. والمخاطب فيها هو الإنسان المسلم أولاً، والإنسان عموما. ومنهجها:
1- التعريف بالخالق: وخير وسيلة إلى ذلك هي معرفة صفاته وأسمائه الحسنى بتجلياتها المحسوسة والمشهودة في الكائنات كلها، وفي الإنسان،في حال تجعل المعرفة الإلهية شيئا سهل الوصول إليها، كل حسب قابليته، بالمعايشة اليومية.
2- التعريف بالمخلوق، وبالإنسان خاصة: تعريفا جوهريا يحيط بحكمة الخلق الأساسية وذلك بإظهار الأسماء والصفات المتجلية في الكائنات، والإحساس بضرورات الإيمان ولوازمه استنادا إلى معرفة الأسماء الحسنى والصفات الجليلة بأيسر السبل، وهي مشاهدة أنوار التجليات والشعور بها كل حسب حصته. والإيضاح في طيات الرسائل، وتأتي نبذة في سياق البحث إن شاء الله تعالى. وفي المنهج إرشاد إلى أقصر السبل المتيسرة لكل أحد، لإدراك هذه المعاني الرفيعة بالإطلاع على ما حوله، وتحقيق العبودية بإيقاظ عقله وتنوير قلبه إذ يتحسس الإنسان – وهو ثمرة الكائنات – فقره المطلق وعجزه المطلق، والشفقة المطلقة المنعكسة على الكائنات كلها، والتفكر، واقتضاء الكل الشكر المطلق والشوق المطلق.
وطريق الرسائل في تبليغ هذه الحقائق ليس طريقاً عقلياً مجرداً، بل تنزيل هذه المعاني السامية إلى وجدان البشر من مختلف طبقات المخاطبين بمعايشة الحقائق الإيمانية من خلال التعامل مع مفردات الحياة اليومية من الإنسان والحيوان والنبات والشمس والمجرات، وصعوداً إلى آفاق العقل والنفس والقلب وشرح أحوالها وتقلباتها، حتى ترى الجمال والجلال في كل شئ. إذن، رسائل النور كتاب علم ودعوة وسلوك.
فما الأسلوب البياني في الرسائل؟ وهل يمكن أن يخلو كتاب بهذا الحجم يعالج شؤونا رفيعة في ميدان شاسع يقتضي إطلاق العقل والخيال معاً إلى مداهما.. من خطاب أدبي؟ وأين موقع الإنشاء الأدبي من العلوم التي خاض فيها النورسي؟
هذا ما سنعالجه في الأعداد القادمة بحول الله
——
(1) النورسي : المثنوي العربي النوري تحقيق إحسان قاسم الصالحي سوزلر 1955 ص 221.
(2) نفسه ص : 106.