إن هجرة الأدمغة ورؤوس الأموال من أهم الأسباب في افتقار كثير من الدول والشعوب وتخلفها وخاصة دول العالم الثالث في إفريقيا وآسيا.
فأكثر هذه الدول التي تمد يدها للشرق والغرب متذللة مستجدية أو مقترضة ولا تجد من يسلفها أو يستجيب لصراخها وأنينها لا ينقصها المال ولا الخبرة، ولا تعوزها الأيدي العاملة. فقد حباها الله بكل الوسائل التي تؤهلها لتكون في مصاف الدول الغنية : حباها بثروات طبيعية هائلة لا تتوفر عليها كثير من الدول الصناعية الكبرى، كما حباها بقوى بشرية شابة لا يستهان بها تتمتع بكفاءة فكرية ومهنية كافية لاستثمار خيراتها، إلا أنها مع كل هذه الوسائل لم تستطع النهوض على قدميها وتتخلص من الفقر والبؤس والتخلف الذي تعاني منه وتتخبط في أوحاله، والسبب في ذلك يرجع إلى هذه الهجرة الثلاثية الملعونة : هجرة الأدمغةوالمال واليد العاملة، فأموالها نهبت بشكل أو بآخر، وهربت إلى الخارج، والأدمغة المفكرة والقوى العاملة هاجرت هي الأخرى بحثا عن المال والعمل، وبقيت البلدان الأصلية خاوية على عروشها، لا مال، ولا خبرة، ولا يد عاملة مدربة، الكل ودع، وهرب، والكل تنكر للوطن الأم، والبلد الأصلي، والكل في المهجر متفان في خدمة الآخر، مجند لتحقيق مصالحه، حريص على ازدهاره ودعم اقتصاده، بماله وعقله وخبرته وسواعده، كريم معه لا يبخل عليه بشيء ولا يحاسبه على أي شيء، يضحي في سبيله براحته وهويته وربما بدينه وأولاده.
فمن المسؤول عن هذا العقوق بالوطن والتنكر له؟ ومن المسؤول عن إغراقه في أوحال الفقر والبطالة، والجهل؟ وما يتولد عن ذلك من مشاكل اجتماعية واقتصادية يقف عاجزا أمامها، ومن المسؤول عن الارتماء في أحضان الغير والتعلق به إلى حد الهيام والانتحار في البحار وركوب قوارب الموت للوصول إليه والتشرف بخدمته والأكل من فتاته، وما هو الحل لذلك؟ وما هو موقف الإسلام من ذلك كله؟
أسئلة تطرح نفسها بالحاح وتتطلب الإجابة عليها بصراحة.
من المسؤول عن هذا العقوق؟
لاشك أن المسؤولية هنا يتحملها الجميع، المثقفون وأرباب المال والعمال والمسؤلون في البلدان الأصلية المُهَاجَر منها، وعامة الشعب، كل بقدر مساهمته في هذا الوضع المأساوي الذي تعاني منه الشعوب الفقيرة، ولا يستطيع أحد أن يتهرب من المسؤولية وإلقائها على غيره.
> أولا : يتحملها بالدرجة الأولى أصحاب رؤوس الأموال، الذين ينهبون أموال بلدانهم ويهربونها إلى الخارج، يوثرون بها الأبناك الأجنبية على الأبناك الوطنية والدول المعادية على دولهم الأصلية، ولا يدخرون جهدا في تهريب الأموال من بلدانهم. كلما وضع في أيديهم دولار أو جنيه أو أية عملة أجنبية طاروا بها سرا أو علنا لإيداعها أو استثمارها خاج الحدود بعيدا عن أعين المواطنينوأيديهم خوفا من غضبهم أو تعسف المسؤولين، ناسين أو متناسين أنهم بعملهم هذا يسيئون إلى أوطانهم ويرتكبون عدة أخطاء أو جرائم في حق أممهم وشعوبهم :
- جريمة نهب المال بكل الوسائل والطرق.
- جريمة تهريب الأموال للخارج.
- حرمان أوطانهم من الانتفاع بتلك الأموال التي هي ملك لها ولدت فيها واقتطعت منها.
- دعم اقتصاد الآخر الذي يرفض بإصرار مساعدة بلادهم ولا يألو جهدا في العمل على إضعاف اقتصاد بلدانهم بشتى الوسائل وكل الطرق والحيل لتبقى تابعة له وسوقا من أسواقه.
ولا يدري هؤلاد المهربون أصحاب الأموال أن بلدانهم تبذل الكثير من حريتهاوسيادتها للحصول على قروض بفوائد عالية وشروط قاسية قد تحصل عليها وقد لا تحصل عليها، وقد تكون هذه القروض إذا ظفرت بها هي بعضا من تلك الأموال التي هربوها، فيصدق عليها “بضاعتنا ردت إلينا”، ولكنها ردت بشروط قاسية وفوائد ثقيلة تدفعها بلدانهم الأصلية من خزائنها الوطنية لحساب الآخرين الذين وصلتهم تلك الأموال المكدسة دون أدنى تعب في جمعها والحصول عليها ليقطفوا ثمارها الحلوة ويضغطوا بثقلها على البلدان الأصلية.
> وثانيا : تتحملها الأدمغة المهاجرة التي ترفض العودة الى أوطانها وتتنكر لبلدانها التي سهرت على تربيتها وتكوينها، وتستهويها الحياة الغربية بمظاهرها وتوثر العيش في المهجر وخدمة الآخر، وتأبى التنازل عن أنانيتها وطموحاتها المادية والمعنوية التي لا تستطيع تحقيقها إلا خارج أوطانها من شهرة أو مال.
وما يدري هؤلاء ما يجنونه على أوطانهم، ولا يعلمون أنهم يحرمون بلدانهم أحْلى الأماني التي كانت تعلقها عليهم، وأغلى الخدمات التي كانت تنتظرها منهم للنهوض بها والأخذ بأيديها، وينسون أن كل ما ينجزونه من أبحاث وكل ما يحققونه من اختراع أو يصلون إليه من اكتشاف في مختلف العلوم، وكل ما يقومون به من أنشطة وخدمات وأعمال إنما تصب في خدمة الآخر وتدعم تفوقه العلمي والعسكري والاقتصادي والحضاري بصفة عامة، ولا تستفيد بلدانهم الأصلية وحضاراتهم التي ينتمون إليها أي شيء يذكر من تلك الجهود التي يبذلونها بسخاء للآخرين ويبخلون بها على أوطانهم، كما لا يستفيدون هم أنفسهم إلا شهرة زائفة وثروة زائلة إن وصل بعضهم لذلك، وتبقى المسؤولية الأخلاقية والدينية التي يتحملونها في التنكر لبلدانهم وهجران أهلهم والتضحية في خدمة غيرهم براحتهم وأهليهم ومستقبل أولادهم ودينهم، مسؤولية لا تغتفر ولا يمكن أن تبرر مهمها قيل في أسبابها وتبريرها لأنها خيانة أمة وتضحية بأجيال إلى الأبد.
>وثالثا : تتحملها الحكومات التي تسمح بتهريب الأموال، أو تساهم في ذلك أو تقصر في المراقبة والمحاسبة، ولا توفر المناخ المناسب لاستقرار هذه الأموال والأدمغة والسواعد في بلدانها ولا تعمل على توظيفها وحمايتها وتشجيعها ولا تقدم أي دعم للبحث العلمي بالقدر الذي يستجيب لطموحات العلماء والباحثين، ولا توفر مناصب الشغل الضرورية لليد العاملة التي تزخر بها بلدانها، وتقصر اهتماماتها في تصدير أبنائها وبناتها للمجهول خوفا من شغبهم أو طمعا في أموالهم التي يرسلونها أو يرجعون بها إلى أوطانهم.
صحيح أنه لا ينكر أحد أن المهاجرين يوفرون لبلدانهم مبالغ هائلة لا يستهان بها من العملة الصعبة التي هي في أشد الحاجة إليها.
إلا أنه لا ينكر أحد أيضا أن ما تخسره تلك الحكومات أكبر مما تربحه بأضعاف مضاعفة تخسر ما تقوم به تلك الجاليات في المهجر من أعمال وخدمات وأنشطة مختلفة تستفيد منها بلدان الإقامة.
وتخسر ما تنفقه من أموال في استهلاكاتها اليومية واقتناء منتجاتها الضرورية.
وتخسر ما تدفعه من ضرائب وما تقدمه من رسوم واشتراكات لصناديق بلدان الإقامة ومدارسهاوشركاتها، التأمين، الاتصال…. النقل، وسائل الإعلام والترفيه..
وتخسر ما تحققه من اختراعات واكتشافات وبحوث علمية في جامعاتها.
وأكثر من ذلك كله تخسر عدة أجيال من أبنائها وبناتها الذين يفقدون هويتهم الحضارية وجنسيتهم الأصلية وأصالتهم الوطنية ويصبحون غرباء دخلاء لأن هذه الخسارات لا تقدر بثمن، ولا يمكن أن تعوض بمال، وتفوق بكثير تلك الملايين أو الملايير التي تدرها الجاليات على بلدانها، والتي سرعان ما تعود إلى تلك البلدان التي جاءت منها ومن حيث أتت : تعود مهربة تارة، أو مبذرة في الأسفار السياحية والزيارات الفاشلة أو في شراء الكماليات والمهلكات والمفسدات، وفي أحسن الأحوال ثمنا لمشروبات أنتجتها تلك الجاليات نفسها أو ساهمت في إنتاجها بشكل أو بآخر من قريب أو بعيد، ولا يبقى في البلد من تلك المليارات الزائدة إلا ذكريات دخولها وخروجها، وتعود الحاجة إليها من جديد ويعود انتظار الحكومات إلى تلك الجرعات المتتابعة التي كان في إمكانها الاستغناء عنها لو احتفظت في أول الأمر برؤوس أموالها وأدمغة أبنائها وسواعد عمالها، وقد فرطت في ذلك كله فما عليها إلا أن تعيش في هذه الدوامة الى الأبد تصدر أبناءها وبناتها سرا وعلنا طمعا في أموالهم وتخلصا من مشاكلهم لترقيع اقتصادها والتخفيف من عجزها التجاري والمالي.
> ورابعا : تتحملها أيضا المدرسة والجامعة ووسائل الإعلام التي عجزت كلها عن غرس حب الوطن والمواطنة الصادقة في قلوب المواطنين، وترسيخه في نفوسهم ومشاعرهم ومزجه بأرواحهم ودمائهم واكتفت بتسويق الهجرة والدعاية لها بشكل مباشر أو غير مباشر.
كما تتحملها العائلات والأسر التي تشجع أبناءها وبناتها على الهجرة وتبذل النفس والنفيس والغالي والرخيص للحصول على جواز سفر أو عقدة عمل خارج الوطن مهما يكن ذلك العمل وبلد العمل وظروف العمل، المهم الخروج من الوطن والعيش في بلد آخر التي يحج إليها الكبار ويتلهف لزيارتها الصغار وتتفنن الروايات ووسائل الإعلام في الدعاية لها وعرض محاسنها وابراز مفاتنها.
هذه إذن نتائج هذه الهجرة الثلاثية الملعونة وهذه آثارها السيئة والإيجابية، وهؤلاء المسؤولون عنها على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم.
حكم الإسلام في هذه الهجرة الملعونة
والإسلام لا يقبل هذا الوضع ولا يرضاه لأهله ولا يسمح لهم بالانحدار إليه والعيش في أحضانه، ونصوص القرآن والسنة كثيرة جدا في هذا الموضوع، وفتاوى العلماء مشهورة ومعروفة يكفي التذكير بحديث : >لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم<.. وحديث : >أنا بريئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا يا رسول الله ولم؟ قال : لا تراءى ناراهما<، وحديث : >لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه<.
إن هذه الأحاديث وغيرها من الأحاديث والآيات في الموضوع تحدد الموطن الشرعي لاقامة المسلم وماله وطريقة عيشه ومجال تصرفه ونشاطه وكل خروج عن ذلك يعرضه للمساءلة عن ذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
والإسلام بهذا الموقف وهذه المساءلة المهدد بها يريد أن يحمي للأمة أموالها وأبناءها وجهودهاونشاطها وتسخير ذلك في حدودهاولحساب أهلها وأهلها فقط لانقاذهم من الفقر والجوع الذي تقررها الهجرة المالية والفكرية والعمالية الى البلدان الأجنبية وحرمان البلدان الأصلية من ثمارها.
والحل لهذا كله هو التوبة الجماعية، توبة جميع اللذين ساهموا في الأزمة، استجابة لقوله تعالى : {وتوبوا الى الله جميعا أيها المومنون لعلكم تفلحون}(سورة النور).
بدأ بتوبة أصحاب الأموال المهربة باسترجاع أموالهم إلى بلدانهم الأصلية التي هربوها منها ظلما وعدوانا أو خوفا وطمعا واستثمارها في مختلف المشاريع التنموية لتحقيق ازدهار أوطانهم وضمان الشغل لمواطنيهم عسى ذلك أن يكفر عنهم بعض سيآتهم وأخطائهم التي ارتكبوها في حق أممهم وبلدانهم.
وتوبة أصحاب الأدمغة المفكرة والقوى العاملة بالرجوع إلى أوطانهم والمساهمة في بناء دولهم واقتصاد أممهم بعلومهم وخبرتهم وبنفس الحماس والإخلاص الذي يبذلونه لغيرهم في بلدان إقامتهم عسى ذلك أن يرد بعض الديون التي في أعناقهم لأوطانهم الأصلية التي كونتهم.
وتوبة المسؤولين والحكام توبة خاصة على قدر مسؤولياتهم توبة صادقة مخلصة عامة وشاملة تتمثل :
1- في رفع أيديهم عن أموال الناس وعقولهم ونشاطهم وتمكينهم من حرياتهم.
2- في توفير الضمانات الضرورية لرؤوس أموالهم وحمايتها من عبث العابثين والضرب بقوة وصرامة على أيدي المفسدين والمرتشين والمتلاعبين بمصالح الناس وحقوقهم وأموالهم حتى يشعر الجميع بالأمن والأمان على نفسه وأهله وماله وفكره ويتحرر الجميع من عقدة الخوف والقهر المسلط عليهم.
3- في خلق تعليم قادر على الاستجابة لحاجيات البلاد المختلفة يتمتع بكل المؤهلات الضرورية لنجاحه وتطوره من منح وتشغيل وبحث علمي جدي وممول بالقدر الكافي.
وتوبة العامة بغرس حب الوطن والمواطنة في نفوسهم ونفوس أهليهم وذويهم والكف عن التحرش بأموال الناس وممتلكاتهم كلما صاح صائح أو نقم ناقم.
إن هذه التوبة الجماعية إذا قدر لها أن تقع وأحسن تنظيمها وتوظيفها من شأنها أن تقلب الأوضاع رأسا على عقب في البلدان الأصلية والمضيفة على حد سواء، فهي بالنسبة للبلدان الأصلية ستحولها من دول فقيرة متخلفة ضعيفة إلى دول غنية قوية بفضل ما تقدمه لها من ثروة مالية تقدر بملايير الدولارات المهاجرة وبفضل ملايين الأدمغة واليد العاملة، فالمال والخبرة واليد العاملة المدربة تشكل دعامة قوية لكل نهضة صناعية ناجحة.
وبالنسبة للبلدان المضيفة ستشكل هذه التوبة والعودة زلزالا عنيفا يضرب اقتصادها بدرجات متفاوتة.
إن هذه الملايير الممليرة من الدولارات المهجرة وهذه الملايين من الأدمغة والقوى العاملة المسخرة في خدمة المهجر إذا انسحبت كلها لاشك أنها ستحدث فراغا هائلا إن لم يكن دمارا واسعا لا يسلم منه أي قطاع من قطاعات الاقتصاد المعتمد على هذا الثالوث المهاجر.