“إن ضرورة الإصلاح تنبع من الإحساس بسوء الواقع وخطورة المستقبل، فإذا ما أدركنا ذلك، فملك علينا مشاعرنا في أعماق وجداننا عولنا على العمل، أما أن نمضي -كما هو الواقع- مجروفين بالتيار، فإن الطامة بالانتظار. “محمد قطب/أولادنا. ص:125.
<< تمهيـــد :
صحيح أن حجم المشكلات كبير، وأن الأمة تدور على نفسها من غير أن تجد مفتاحا للهروب مما تعيشه، وأن أمد التخلف قد طال واستطال، وأن الخرق قد اتسع على الراقع، وأن الليل قد امتد ظلامه، وادلهمت خطوبه، وازداد سواده، وأن الفجوة قد تعمقت، وأن ركام الأحزان والمشاكل قد ثقل حتى ناءت به العصبة أولو القوة، وأن البشرية حادت عن المنهاج الإلهي، ولا غرابة في ذلك مادامت الأمة التي تحمل لواء هذا المنهاج قد تخلت عنه وضعيته، فتركت الكتاب الذي سادت به في العالمين وراءها ظهريا، وولت وجهها شطر أعدائها مرارا متعددة في محاولات يائسة للخروج من النفق المسدود، لكنها كانت كظمآن كلما تراءى له سراب حسبه ماء حتى إذا جاءه لم يجد شيئا، واختلطت لديها الرؤى فلم تعد تميز بين الغث والسمين والقبيح والحسن فكانت النتيجة الحتمية لهذا الوضع هي: تخلف الأمة عن ركب الحضارة المعاصرة بما فيها من تعقيدات، وما جد فيها من قضايا وتصورات للكون والإنسان وأنماط متعددة من الأفكار والمذاهب، وابتعدت حتى عما يخصها هي دون غيرها من القضايا المصيرية.
والغريب هو أن الحركات الإصلاحية بكل اتجاهاتها الفكرية وتياراتها المذهبية التي قامت منذ عصر ابن تميمة بل منذ عصر الغزالي إلى عصرنا هذا لم تستطع إعادة الأمة إلى الطريق الصحيح سواء في ذلك الحركات التي قامت على جهود فردية كابن تميمة وجمال الدين الأفغاني أو جهود منظمة كالحركة السلفية في الوطن العربي إلا ما كان من بعض النجاح الثقافي الذي حققته جماعة الإخوان المسلمين بقيادة الشهيد حسن البنا، -ولو أنها جاءت في وقت كانت الأمة تعيش فيه أصعب مراحلها- وبعض النجاح السياسي الذي حققته دولة الموحدين في حدود مجالها الجغرافي حيث كان لها على الأقل دور المعطل لحركة التحلل التي ستؤدي إلى سقوط غرناطة وهذا ليس بالشيء الكثير لأن الأمة آنذاك كانت في مجمل أمرها غالبة لا مغلوبة.
ومع كل ذلك نرى بأن نخب الأمة وإصلاحييها متى قبضت على مفاتيح الإصلاح بمفهومه القرآني، واستطاعت السير على السبيل الذي رسمه القرآن في الإصلاح ، فإنها ستعيد للأمة مجدها وهويتها التي ضاعت منها على حين غفلة من المصلحين، وسيعاد إنتاج جيل صالح مصلح إن شاء الله تعالى : {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}(الأنبياء : 105)
وهذا لن يتحقق ولن يتم إلا بالرجوع إلى المنبع الذي استقى منه خير القرون، والسراج الذي استضاء به أفضل جيل، والنور الذي استنار به من فتحوا المشارق والمغارب بأخلاقهم قبل سيوفهم، إنه القرآن الذي غير مجرى التاريخ، وصلحت به أحوال البشرية جمعاء، ونعمت به الإنسانية حينا من الدهر، ولازالت تستظل بوارف ظلاله فئة صالحة مصلحة لا يضرها من خالفها إلى أن تقوم الساعة.
ولا يمكن ونحن نتحدث في هذه المقالة عن الإصلاح أن نفصل بين القرآن الكريم وقضية الإصلاح وذلك لأن الله تعالى إنما أنزل القرآن كتابا لإصلاح البشرية وإخراجها من حالة الفساد الذي يهلك الحرث والنسل إلى حالة الصلاح الذي يسير بسببه الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه.
فما هو المفهوم الذي أعطاه القرآن الكريم لمصطلح الإصلاح؟
وما هي السياسة التي اعتمدها القرآن الكريم والمنهجية التي اتبعها في قضية الإصلاح؟
هذا ما نتعرف عليه في العدد القادم بحول الله.