من تاريخنا الإسلامي : أضواء على غزوة الخبط أو غزوة سيف البحر


عديدة هي الغزوات والسرايا التي نظمت على عهد الرسول ، وإن كانت نسبة اهتمام المصادر بها متفاوتة، فحديث المصادر عن غزوة بدر الكبرى لا يعادله أي حديث عن باقي الغزوات التي تمت في البدايات الأولى للدولة الإسلامية، وربما يعودهذا الأمر للنتائج الكبيرة التي كانت لهذه الغزوة على مستقبل الدولة والدعوة الإسلاميتين.

وفي هذا الصدد يمكن إدراج غزوة الخبط التي يمكن تصنيفها ضمن الغزوات التي تمت على عهد الرسول  ولم تحفل المصادر بذكرها إلا لماما، ولم تسلط عليها ما يكفي من الضوء وتركت هامشاً كبيراً من هذه الغزوة دون توضيح، مما دفعنا لطرح العديد من الأسئلة حول ما حدث في هذه الغزوة.

وقبل التطرق لهذه الغزوة يجدر بنا أن نؤطرها في الزمان والمكان اللذين تمت فيهما، فالمصادر الإخبارية والروايات الحديثية تتفق أن قائد هذه الغزوة هو الصحابي الجليل أبو عبيدة بن الجراح الذي أَمَّرَهُ الرسول  على ثلاثمائة رجل من المهاجرين والأنصار، وفيهم الفاروق عمر بن الخطاب ]، وقد حدد لهذه الغزوة هدفاً واحداً تمثل في غزو قبيلة جهينة التي كان نفوذها يمتد في شمال الحجاز وهي فرع من قضاعة في اتجاه البحر الأحمر(1) وقد كانت هذه الغزوة في رجب من عام ثمانية للهجرة(2).

وإذا كان هذا كل ما يتعلق بالإطار العام لهذه الغزوة، فإن ما أثارنا فيها هو زادُها حيث إن جيشها كان قد زوده الرسول  بجِراب تمر كان أبو عبيدة يمنح كل مشارك فيها تمرة واحدة يمتصها ويشرب عليها الماء فتكفيه طيلة يومه حتى بلغ الجوع من الجيش مبلغا عظيما اضطر معه أحد المشاركين إلى ذبح تسعة جزر، إلا أن عمر بن الخطاب ] منعه من الاستمرار في فعله هذا، وقد عمد الصحابة إلى أكل الخَبْط وهو نوع من النبات كانوا يجففونه ويدقُّونه ثم يأكلونه ومن ثَمَّ سميت هذه الغزوة بغزوة الخبط، وفي هذه الظروف تدخلت العناية الإلهية، إذ أرسل البحر لهم بحُوتٍ عظيم، ولم يختلف الصحابة أن هذه الحوت إنما هو ميتة إذ طفا على الماء ولم يتم اصطياده، وقد اختلف الفقهاء في أكل هذا النوع من السمك وذلك بالنظر للطريقة والكيفية التي وجد عليها هذا السمك(3) إلا أن أبا عبيدة تعامل مع هذه الهبة الربانية على أن جيشه وقع في حكم المضطر الذي يباح له ما لا يباح لغيره، فقال : >ميتة، ثم قال : لا بل نحن رسل رسول الله  وقد اضطرتم فكلوا<(4).

والملاحظات التي نسجلها على هذه الغزوة منصبة أساسا على هذا الحوت الذي أكله الصحابة وهم ثلاثمائة نفر :

1- إن هذه الغزوة واردة في أغلب كتب الحديث، وإذا قرأنا سياق أحداثها في هذه الكتب فإنها لاتختلف في شيء اللهم إلا إذا استثنينا المدة التي مكث الصحابة فيها يأكلون من هذا الحوت، فالبخاري يحدد هذه المدة في نصف شهر(5)، أما في صحيح مسلم فنجد المدة التي قضاها الجيش تصل إلى شهر(6).

2- وسواء تعلق الأمر بشهر أو نصف شهر فإن السؤال الذي يطرح بحدة : ألم يتعرض لحم الحوت للتعفن طوال هذه المدة؟ ألم تنبعث منه رائحة تُزَهِد في أكله خاصة ونحن نعلم أن السمك من المواد السريعة التلف والضياع إذا لم يتدخل الإنسان بطرق معينة ليحافظ على جودتها وطراوتها.

3- لقد حمل الصحابة جزءا من لحم هذا السمك في إطار عودتهم من هذه الغزوة، ولما حدثوا بذلك الرسول  طلب منهم أن يطعموه من هذا اللحم، فأعطوه منه فأكله(7)، هذا مع العلم أن المسافة من قبيلة جهينة إلى المدينة المنورة تصل إلى خمس ليال، وإذا أضفنا هذه المدة إلى تلك التي قضاها الصحابة يأكلون السمك نحصل على شهر زائد خمس ليال أو عشرين يوما حسب اختلاف الروايات، وهي مدة طويلة يصعب معها إن لم يكن من المستحيل المحافظة على جودة السمك.

إن هذه الملاحظة الأخيرة -جودة السمك- دفعتنا إلى محاولة تتبُّع هذه الغزوة في مصادرها التاريخية والرجوع إلى أغلب الروايات التاريخية التي كانت قريبة من الفترة التي تمت فيها غزوة الخبط، ومحاولة فحصها علّنا نجد فيها ما يمكن أن يتخذ تبريراً أو بالأحرى تفسيراً لفعل الصحابة رضوان الله عليهم مع هذه السمكة، وهل عمدوا إلى اتخاذ وسيلة للحفاظ على جودة لحم السمك؟

إلا أن أغلب الروايات التي تعاملنا معها سواء كانت روايات حديثية أم روايات تاريخية، لم تتجاوز الأحداثُ فيها الإطار التاريخي والمكاني اللذَيْن تمت فيهما الغزوة، مع إشارتها لهذا الحوت وتسميته بسمكة العنبر والتي كانت هدية ربانية أنقذ بها الله تعالى المجاهدين من الهلاك جوعا، ومع ذلك نبقى نتمسك بروايتين لعلنا نخرج منهما بفائدة، وهما رواية صحيح مسلم ورواية الطبري.

بخصوص رواية الطبري، نشير إلى أن الطبري تعامل مع الحدث من زاوية مؤرخ أورد الخبر كما انتهى إليه، ويلاحظ أن روايته اختلفت عن باقي الروايات الأخرى بأن حددت المدة التي مكث الجيش فيها يأكل لحم السمك في ثلاثة أيام(8)، وإذا كانت هذه المدة تقل بشكل لافت عن المدة الزمنية التي سبق أن ذكرناها سلفا فإنها لا تمنع من تسرب بعض التعفن إلى السمك.

إلا أنه من خلال التتبع الدقيق لرواية صحيح مسلم والطبري فإننا نجدهما يوردان مصطلحين في غاية الدلالة وبإمكان حسن فهمهما أن نتوصل إلى فهم حيثيات هذه الغزوة، فالطبري يستعمل كلمة “يقددون” وعملية صنع القديد كانت تتم على مستوى اللحوم  للمحافظة على جودتها، فيتم تعريض اللحوم لأشعة الشمس حتى تجف وتنضاف إليها مقادير من الملح لتخزن بعد ذلك ويتم تناولها داخل فترات معينة من السنة، ومن هذا المنطلق تبقى رواية الطبري غاية في الأهمية وعلى ضوئها يمكن فَهْمُ أن الصحابة قد تعاطوا هذه الطريقة وعيا منهم بسرعة تلف السمك، وهذه الرواية تفيدنا في معرفة بعض السلوكات المجتمعية التي كانت سائدة في الجزيرة العربية.

أما بخصوص رواية صحيح مسلم فإنها تسعمل كلمة : “وشائق” وهذه اللفظة تدل على اللحم الذي يؤخذ فيُغْلَى لكن دون أن يصل إلى مرحلة النضج، ثم بعد ذلك يُتزود منه في السفر، لكن لمسافة معينة ويخضع بعد ذلك لعملية الطهي العادي فلا يتغير طعمه ويظل محافظا على طراوته وجودته.

وإذا أخذنا بهذه الرواية، فكم تطلب الأمر من قدور وحطب لوشق هذه الكمية الكبيرة من لحم السمك خاصة وأن الجُنْدَ كان في خروج للغزو وتحيُّنٍ للعدو بين الفينة والأخرى؟! إلا أن الوشائق  تدل كذلك على اللحم المقدد، ومن ثَمّ تتفق رواية الإمام مسلم ورواية الطبري، ومن ثمَّ يمكن أن يحل لغز هذه الغزوة التي اضطر فيها الصحابة لأكل الخبط وهو نوع من النبات، فكان الصحابة يقددون لحم هذه السمكة حتى تحافظ على جودتها، الأمر الذي ينبئ عن بعض جوانب المطبخ في شبه الجزيرة العربية. وأخيراً يبقى الأمر بدءاً ونهاية معجزة ربانية يعجز العلم عن تعليلها، فإذا علّلها أفسدَها والصحابة هكذا تعاملوا مع المدد الرباني، وفي رواية لهذه الغزوة نجد أن الرسول  قال لهم هو رزق ساقه الله إليكم.

——–

1- اسماعيل الراجي ولوس الفاروقي، أطلس الحضارة الإسلامية، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، ط1، الرياض 1998، ص 38.

2- حول هذه الغزوة يرجع لـ : ابن سعد، الطبقات الكبرى، دار الفكر، بيرون 1985، ج 2، ص 132، وابن الأثير الكامل في التاريخ، تحقيق جماعة، ط 4، بيروت 1983، ج2، ص 157، وسنن الدرقطني، عالم الكتب، بيروت، ج 3، ص 266، 267.

3- هناك أربع طرق اختلف حولها الفقهاء بين من يجوِّزُ بعضَها وبين من يجوِّزها كلها وحول هذه القضية يراجع صحيح مسلم، ج 3، ص 1535، وما بعدها سنن الدرقطني ج3، ص 266 وما بعدها.

4= صحيح مسلم، ج3، ص 1535.

5- صحيح البخاري، دار القلم، بيروت، ط1، 1987، ج7، ص 172.

6- صحيح مسلم، م س، ج3، ص 1535.

7- سنن الدارقطني، م.س، ج3، 266.

8- تاريخ الأمم والملوك، تحقيق جماعة بيروت، ج2 ص 316.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>