“… هب أنك في سنة 2025 وتحدث عن المتغيرات التي حدثت سلبا أو إيجابا”.
هذا السؤال أو سؤال قريب منه طُرح على التلاميذ في امتحانات الباكالوريا لهذه السنة، ومن خلال قراءتي السريعة لمقدمات بعض الأوراق هالني أن جلها رسمت صورة بالغة القتامة والسوداوية للمستقبل المراد التحدث عنه؛ صورة بئيسة لمستقبل مُفزع يراه هؤلاء الفتية قريبا بينما يراه البعض بعيدا، هذا إذا رأوه أصلا.
فما كتبه هؤلاء الفتية وما رسمته أيديهم من قتامة وسوداوية ما هو إلا تعبير تلقائي وصادق يجيش في نفوسهم ويريدون البوح به والتعبير عنه. وكلما كان التعبير تلقائيا، كلما كان صادقا ومعبرا وعميقا. فهؤلاء فتحوا أعينهم على واقع بئيس ليس لهم يد في بؤسه، ولا تزيده الأيام والسنوات إلا بؤسا وقتامة.
واقع بئيس بجميع المقاييس وعلى كافة الأصعدة والمستويات، الخاصة منها والعامة والمحلية والاقليمية والدولية.
ولقد جمع -ماشاء الله-ـ لهذا الواقع من مقومات وشروط الاحباط والتيئيس ما لو جُمع في غيره لصارت أيامه لياليا.
فمهما أوتيتَ من فصل الكلام والحكمة، فأنَّى لك أن تُقنع هؤلاء الشباب بالأمل وهم يرون أن كل ما حولهم ومن حولهم يؤزهم إلى الاحباط والعدمية أُأزّاً، ولا يكادون يرون بصيص أمل في ليلهم البهيم الدامس. وقد استسلم جلهم أو بعضهم لهذا الواقع هروبا إلى المخدرات أو إلى غياهب البحار على زوارق مطاطية نحو “أرض الميعاد” حيث الذل والامتهان والمسغبة في انتظار من نجا منهم من أنياب الحيتان وأمواج البحار.
أنَّى لك أن تنفخ في أرواح هؤلاء البؤساء نفخة أمل أو مُزقة كرامة وكل من حولهم يذكرهم بالبؤس والفقر؛ أجساد فارغة مُقطبة الحاجبين رسم عليهما البؤس والتعب والفاقة تجاعيد غائرة بكل إتقان. فقراء ومتسولون من كل الأعمار والأجناس في انتظارك عند كل منعرج طريق، ماسحو أحذية في عمر الزهور فاق عددهم عَدَدَ الأحذية الصالحة للمسح أصلا، يقضون نصف يومهم في السعي بين المقاهي لمسح الأحذية الصالحة، ونصف يومهم الآخر في شم السيلسيون والنوم في الطرقات أو التكدس أمام أبواب العمارات والادارات العمومية.
أطفال وطفلات يُلاحقونك في الطرقات والأسواق طلبا لمساعدة في حمل متاع أو ابتياع أكياس أو مناديل كلينكس أو سجائر بالتقسيط.
بطالة مقنعة وغير مقنعة تقتل الأمل وتسد شهية الشباب في الدراسة والتحصيل، وحتى من يدرس منهم يتحول الفصل الدراسي عنده إلى فضاء لتزجية الوقت والتهكم على الأساتذة واستفزازهم والاعتداء عليهم والاستخفاف بقوانين المؤسسة والقائمين عليها. مما يخلق فوضى عارمة تتحول معها العملية التعليمية برمتها إلى عبث وارتجال وفرنا لحرق أعصاب المخلصين والغيورين من رجال ونساء التعليم وإدارييه…
إلى جانب هذه الُميَئِّسَات، هناك تصدعات مريعة وانزلا قات خطيرة في منظومة القيم والمبادئ السامية التي ظلت لمدة قرون تحافظ على تماسك مجتمعاتنا موحدة قوية أمام أي فكر أو فهم خاطئ هدام. إزاء هذا التصدع المريع بدأت تظهر العديد من الأنماط السلوكية الشاذة والأفكار والتصورات الخاطئة والنزعات الاستئصالية الهدامة التي باتت تنخر مجتمعاتنا الاسلامية العربية وتهدد مقوماتها الدينية والثقافية والحضارية بشكل خطير، وتزداد خطورته يوما بعد يوم.
أما مسؤولية هذه الظواهر المثبطة للهمم والمغذية لليأس والاحباط فهي إن كانت تقع على الجميع بدرجات متفاوتة، فهي تقع بالدرجة الأولى على مؤسستي التعليم والاعلام باعتبارهما أهم المؤسسات التي تعنى بتكوين الناشئة وجدانيا وفكريا وعلميا. تكوينا سليما يجعل منهم مواطنين صالحين مصلحين لمجتمعاتهم.
فمن أولويات التعليم تربية الناشئة على القيم الفاضلة والاعتزاز بدينهم وبانتمائهم لهذه الأمة التي شرفها الله عز وجل.
ويستتبع ذلك تربيتهم على المواطنة الصالحة حتى يكونوا خداما أوفياء لمجتمعهم يؤْثرون مصلحة بلادهم وحماية أمنه واستقراره والعمل على ازدهاره ونموه ماديا ومعنويا على مصالحهم الخاصة.
ومن مستلزمات ذلك :
- خلق مؤسسات علمية متخصصة تعنى بالتدريس الديني المنفتح الجاد ودعمه بكافة الوسائل المادية والمعنوية وتشجيع البحث العلمي فيه وإحداث أقسام متخصصة في علوم الشريعة والاجتهاد.
- توفير الأطر الكفاة المكونة والمنفتحة على الثقافات الغربية للقيام بمهمة التدريس بجميع مراحل التعليم، ويستلزم ذلك إحداث مدارس عليا لتدريب وتخريج هذه النوعية الجيدة من الأطر الكفءة والمزودة بالعلم الشرعي السليم، حتى لا يبقى المجال مفتوحا لكل من هبَّ ودب من الأطر التي قد تفسد أكثر مما تصلح عن قصد أو غير قصد.
- فتح آفاق في وجه خريجي التعليم الديني وتشجيعهم بالمنح الدراسية ووسائل البحث العلمي الجاد.
- تشجيع البحث العلمي وزيادة الانفاق عليه بكل سخاء. مع التفتح على ثقافات الغرب ولغاته ومناهجه التعليمية والحياتية المتلائمة مع مقوماتنا الحضارية والثقافية، فالغرب يتفوق علينا كثيرا في عدة مجالات علمية وتقنية وحياتية ينبغي الاستفادة منه في مثل هذه الأشياء. “فالحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق الناس بها”.
- تشجيع الابتكارات والاختراعات العلمية وتشجيع عودة العقول المهاجرة للمساهمة في نهضة مجتمعاتها مستفيدة مما اكتسبته وأفادت به من بلاد الغرب.
- وقف نزيف هجرة العقول في عالمنا العربي والاسلامي وتشجيعهم بشتى الوسائل على البقاء في بلادهم واستثمار طاقاتهم العلمية للإسهام في خدمة بلدهم وتوفير الشغل والعيش الكريم لمواطنيهم حتى يُغنوهم عن ذل السؤال وركوب البحار بحثا عن لقمة عيش ممرغة في وحل الذل والعنصرية.
كل ذلك وغيره كثير، من شأنه أن يعيد لبلادنا الاسلامية والعربية مجدها الضائع وإشعاعها العلمي والحضاري ويبوِّئُها مكان الريادة الفكرية والروحية والعلمية كما ارتضى الله لها ذلك {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس}
إذا قمنا بذلك فعلا وما ذلك على الله بعزيز.
- فسيتوقف نزيف هجرة العقول الكفأة.
- وتعود الكفاءات المغتربة للمساهمة في تقدم بلادنا وأمتنا.
- وتعود البسمة إلى أبنائنا, ومع البسمة يعود الأمل في الغد المشرق.
- وتتوثب العزائم وتتقوى للنهوض والإقلاع الحضاري السليم. فربّ همّة أحيت أمة.
- ويعود الأمن والاستقرار والازدهار الموزون في بلداننا.
- وتعود الكرامة والاعتزاز بديننا وبقيمنا الخالدة والثقة بنصرة الله لقضايانا العادلة
- ويتحقق وعد الله لنا بالاستخلاف في الأرض لا لتدميرها وإنما لإعمارها وإقامة عدل الله فيها بعدما مُلئت ظلما وجورا.
{الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} (الحج : 39)
{ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله}
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.