خامساً : الإستغناء عن التيارات الجارية :
لعل السؤال والجواب الآتي يغني عن أي إيضاح آخر. فقد سئل الأستاذ النورسي هذا السؤال:
“لِمَ لا تكوّن علاقة ولا تمد وشائج ارتباط مع التيارات الجارية داخل البلاد وخارجها، ولا سيما مع الجماعات ذات الاهتمامات السياسية، بل ترفض ذلك وتمنع – ما وسعك – طلاب النور عن أي تماسٍ كان بتلك التيارات! والحال انك لو كونت علاقة معهم فإن ألوف الناس سيدخلون دائرة رسائل النور زرافات ووحداناً وسيسعون لنشر حقائقها الساطعة، فضلاً عن انك لا تكون هدفاً إلى هذا الحد للمضايقات الشديدة التي لا مبرر لها؟
الجواب: إن أهم سبب لهذا الاجتناب وعدم الاهتمام بالتيارات الجارية، هو الإخلاص؛ الذي هو أساس مسلكنا، فالإخلاص هو الذي يمنعنا عن ذلك، لأن في زمن الغفلة هذا، ولاسيما من يحمل أفكاراً موالية إلى جهة معينة، يحاول أن يجعل كل شئ أداة طيعة لمسلكه، بل يجعل حتى دينه وأعماله الأخروية وسائل لذلك المسلك الدنيوي. بينما الحقائق الإيمانية والخدمة النورية المقدسة تأبى أن تكون وسيلة لأي شئ كان في الكون، ولا يمكن أن تكون لها غاية إلاّ رضى الله سبحانه.
وفي الحقيقة، انه من الصعوبة بمكان، الحفاظ على سر الإخلاص في خضم الصراعات المتنافرة للتيارات الحالية، ومن العسير الحيلولة دون جعل الدين وسيلة لمكاسب دنيوية، لذا فان أفضل علاج لهذا هو: الاستناد إلى العناية الإلهية وتفويض الأمر إلى توفيق رب العالمين بدلاً من الاستناد إلى قوة التيارات الحالية.
وهناك سبب آخر – من جملة الأسباب الداعية لاجتنابنا هذا هو “الشفقة” – التي هي أساس من الأسس الأربعة لرسائل النور – أي عدم التلوث بظلم الآخرين وإضرارهم.إذ الإنسان – بمضمون الآية الكريمة {إن الإنسان لظلوم كفار}(ابراهيم : 34) يردّ معاملة المقابل له في هذا العصر بلا رحمة وبظلم شنيع مخالفاً بذلك الآية الكريمة :{ولا تزر وازرة وزر أخرى}(فاطر : 18) التي هي دستور الإرادة الإلهية. حيث تتغلب عليه العاطفة والانحياز إلى جهة، وعندها لا يقصر عداءه على المجرم وحده ولا يأخذ بجريرته جميع أقاربه وحدهم، بل أيضاً يعاقب كل مَن له صلة بالمجرم من قريب أو بعيد، حتى انه إذا ما كان له سلطة أو حكم، يبيد قرية كاملة بالقنابل بجريرة مجرم واحد. بينما الإنصاف يقتضي ألاّ يُضحّى بحق برئ واحد بسبب مائة مجرم وأن لا يُظلم ذلك البريء بسببهم….”(1).
سادساً : الحفاظ على قداسة الدين وعدم استغلاله لأي نفع دنيوي كان
نعم ، الدين شئ طاهر ومقدس لا يجوز استخدامه بزعم المصلحة بشيء سيئ ونفع دنيوي أبداً. انه لابد أن يبقى صافيا طاهرا بعيدا عن التحيز والتحزب والحقد والمذهبية والطائفية والسياسات الآنية، كي ينهل منه الجميع. ولئلا يتوهموا : ” أن حقائق القرآن المقدسة – التي لا ينبغي أن تستغل لأي شيء كان – قد أُستغل في ساحة الدعاية السياسية. علماً أن أفراد الأمة بجميع طبقاتها.. المعارضين منهم أو المؤيدين، الموظفين منهم أو العامة.. جميعهم لهم حصة في تلك الحقائق القرآنية وهم بحاجة إليها..”(2) “ولأجل اطمئنان عوام المؤمنين وتقبلهم حقائق الإيمان دون أن يساورهم أي تردد، يلزم في الوقت الحاضر، وجود معلّمين، يحملون من الإيثار ما يجعلهم يضحون لا بمنافعهم الدنيوية وحدها، بل بمنافعهم الأخروية أيضاً في سبيل منافع أهل الإيمان الأخروية. فيكون ذلك الدرس الإيماني خالصاً نقياً بحيث لا يفكرون فيه بالمنافع الشخصية مهما كانت. بل يسعون في الخدمة الإيمانية، بالحقائق، نيلاً لرضا الله، وعشقاً للحقيقة، وشوقاً إلى الحق، والسداد الذي في الخدمة، وذلك ليطمئن كل من يحتاج إلى الإيمان اطمئناناً تاماً دون حاجة إلى إيراد الأدلة له، ولكي لا يقول: “انه يخدعنا ويستميلنا” وليعلم أن الحقيقة قوية بذاتها إلى حد لا يمكن أن تتزعزع بأي حال من الأحوال، ولا تكون أداةً طيعة لأي شئ كان.. فيقوى إيمانه عندئذٍ ويقول : “حقاً إن ذلك الدرس الإيماني هو عين الحقيقة” وتمحى شبهاته ووساوسه”(3).
والخلاصة :
إن هذا النهج الحركي السليم بالعمل الإيجابي البنّاء الخالص لله و المنسجم مع الشريعة الفطرية أو القوانين الكونية، والأخذ بالتدرج الفطري وتجنب الخوض مع التيارات الجارية.. قد أنتج ثماراً يانعة في تركيا، إذ في ظله انتشرت بفضل الله رسائل النور، وغزت العقول والقلوب والأرواح بجهاد معنوي كبير وشامل انتهى إلى تكوين جيل مؤمن انطلق في المجتمع ينشر حقائق الإيمان و الإسلام بالتلمذة على رسائل النور فيما أسسه من مدارس النور ومن دورات تحفيظ القرآن الكريم ومن المدارس الابتدائية والثانوية والجامعات ومن المؤسسات الثقافية والعلمية، ومن الإذاعات المرئية والمسموعة ومن الجرائد اليومية والمجلات العلمية والمتخصصة في شؤون الحياة المختلفة.. وأمثالها من الثمار الكثيرة .
——
1- الملاحق – ملحق أميرداغ/1، ص 243
2- الشعاعات ص 424
3- الملاحق – ملحق قسطموني، ص 225