من نافلة القول إن طرق العمل الدعوي الإسلامي تعددت وتنوعت، وتنوع معها الخطاب الدعوي من مركز على التربية إلى آخر مركز على السياسة وثالث على الثقافة… وفي هذه الصفحة سنعيش ـ على مدى حلقات بحول الله ـ مع الأستاذ محمد فتح الله كولن أحد قيادات العمل الاسلامي في تركيا وأحد الناهلين من معين تراث الشيخ بديع الزمان النورسي رحمه الله، وسنطل على التجربة التركية الغنية من خلال كتابه (طرق الإرشاد في الفكر والحياة) الذي يعتبر كتابا في (فقه المعاناة والألم من أجل الدعوة إلى الله) والذي ترجمه إلى العربية ذ. إحسان قاسم الصالحي رئيس مركز رسائل النور بتركيا.
وقد تطرق الأستاذ كولن في العدد الماضي إلى مهمة التبليغ التي تقلل الانحرافات في المجتمعات البشرية وتنير دروب الظلام لبناء مجتمع القيم الفاضلة، ولا يتحقق ذلك إلا بقيام الإنسان بمهمته الاستخلافية في الأرض. ونواصل في هذا العدد هذه الرحلة الممتعة مع الأستاذ كولن في الحلقة الثالثة :الحلقة الثالثة : الحاجة إلى التبليغ ومكتسباته
إن مَن ينهظ بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كائناً من كان يكون ضمن الثناء الرباني، إذ يقول تعالى : {لَيْسُوا سَواءً مِنْ أهْلِ الكِتَابِ أمَّةٌ قَائِمَة يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وهُمْ يَسْجُدُونَ، يُؤْمِنُون باللَّهِ واليَوْم الآخِر ويَأْمُرُون بالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْن عن المُنْكَرِ ويُسَارِعُون في الخَيْراتِ وأُولَئِكَ مِنَ الصّالِحِين}(آل عمران : 113- 114).
بمعنى أن أي إنسان كان إذا ما أدى هذه الوظيفة وكان مؤمناً بالله واليوم الآخر يحظى بالثناء القرآني. نعم، أليست هذه الآية الكريمة وأمثالها تسوقنا إلى الآمال العظيمة؟
ما أحوجنا إلى المحبة والشفقة تجاه الآخرين
إن إنساننا في الوقت الحاضر أحوج ما يكون إلى المحبة والشفقة والكلام الطيب والصوت الأنوس الحنون بدلاً عن القسوة والعنف والضرب والقتل. فالمنتظَر منك اليوم خفض جناح الرحمة والشفقة على الجميع حتى تسمع أناتهم في قلبك وتستشعر قلقهم واضطرابهم في نفسك فتشاركهم في الأفراح والأتراح. ومتى ما تحقق هذا فقد تحقق إذن عمل مهم تنتظره الإنسانية.
يشاهد في الوقت الحاضر عدد هائل من الناس -يدفعنا إلى الإعجاب- من الاهتداء واختيار الإسلام ديناً لهم سواء في الشرق أو في الغرب. ويشاهد أيضا في داخل البلاد وخارجها عودة إلى الدين تحير العقول. فالمساجد والمصليات التي نسيت أو تُنُوسِيَتْ في الأمس أصبحت الآن جزءاً لا يتجزأ من الحياة. وحيث إن هذا الأمر عام وشامل فقد انتشر على الأرض جميعا بسرعة. ولئن كان كل هذا يعدّ في وقتنا الحاضر أمراً ذا بال -مما لاشك في ذلك- فإنه يدل على أن القلوب إنما تُفتح وتُغلق بالشفقة. وأن كل ما يثير الحقد والبغض لم يأت بخير سابقاً كما لن يأتي به حاضراً ومستقبلاً.
ولقد سمعت وشاهدت الكثيرين من الذين اهتدوا حديثاً أنهم لو كانوا قد قتلوا بالأمس ما كانوا لينعموا بهذه الأذواق الروحية اللطيفة التي تفيض اليوم من الإيمان، حتى كانوا يرددون مرات ومرات : “الحمد لله، لم نُقتل كفرد من أفراد الجبهة المقابلة في أيام الفوضى والإرهاب التي عمّّت البلاد، وإلاّ لكنا خسرنا الدنيا والآخرة”.
وإنه لذو مغزى عميق ما يقوله صحابي كريم اهتدى حديثا إلى الإسلام، مخاطباً صحابياً آخر عاتبه ولامه على قتله في الجاهلية أحد أصحاب النبي : أنت تلومني لعملي ذاك، ولكن الله جل جلاله قد أدخله الجنة بيدي لفوزه بالشهادة، فماذا لو كنت أنا المقتول وأنا على الكفر حينذاك؟ بمعنى أنني كنت أخلد في النار!
وأنتم كذلك إذا ما أصغيتم إلى من نجا من الإرهاب والفوضى واهتدى فلازم مصلاه، تسمعون الصوت نفسه. وفي الحقيقة إنني أترقب بلهفة ماذا يقول الذين لجأوا إلى القوة في حل الأمور إذا ما رأوا أولئك المجرمين السابقين قد أصبحوا اليوم خاشعين لله في صلاتهم يبكون؟
أورد مثالاً حياً لتوضيح هذا الأمر من خير القرون :
عمرو بن العاص عاش عمراً مباركاً طويلاً، كان هذا القائد الجسور والسياسي المحنك قَلِقاً قلقاً شديداً (وهُوَ في سِيَاقَةِ المَوْتِ فَبَكَى طَوِيلاً وحوَّلَ وجْهَهُ إلى الجِدَارِ فجَعَل ابْنُهُ (عبد الله بن عمرو عالم الأمة الجليل) يقول :
يا أَبَتَاهُ أما بَشّرَكَ رسولُ الله بكَذَا، أما بَشّرك رسول الله بكذا؟
قال فأقْبَلَ بوَجْهِهِ فقال : إنَّ أفْضَلَ ما نُعِدُّ شَهَادَةُ أنْ لا إِلَه إلاَّ اللّه وأنّ محمداً رسول الله، إِنِّى كُنْتُ على أطْبَاقٍ ثلاثِة لقَدْ رَأَيْتُني وما أحَدٌ أَشَدُّ بُغْضاً لرسول الله منِّي ولا أحبَّ إِلَي أنْ أكُونَ قَدْ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ فَلَوْ مُتُّ على تِلْكَ الحَالِ لكُنْتُ مِنْ أهْلِ النّارِ فلَمّا جَعَل الله الإسلام في قَلْبي أتَيْتُ النبي فقُلت ابْسُط ْ يَمِينَك فَلأُبَايِعْكَ فبَسَط يمِينَهُ قال فقَبَضْتُ يَدِي. قال : ما لَكَ يا عمرو. قال قُلْتُ : أردْتُ أنْ أشْتَرِط. قال : تَشْترِطُ بماذَا؟ قلتُ : أنْ يُغْفَر لِي. قال : أما عَلِمْتَ أنّ الإسلام يهْدِم ما كان قَبْلَهُ وأنّ الهِجرَة تهْدِم ما كان قَبْلها وأنّ الحجّ يهْدِم ما كان قَبْله.
وما كان أحدٌ أحبَّ إليّ من رسول الله ولا أجلَّ في عَيْنِي منه وما كُنْتُ أُطِيقُ أنْ أمْلأَ عيْنِيّ منهُ إجْلالاً له ولو سُئِلْتُ أنْ أصفهُ ما أطقْتُ لأنِّى لم أكُن أمْلأُ عَيْنَيّ منهُ ولَوْ مُتُّ على تلك الحال لرَجَوْتُ أن أكون من أهل الجنة. ثُم ولينَا أشْياءَ ما أَدْرِي ما حالي فيها، فإذا أنا مُتُّ فلا تََصْحَبْني نائِحَةٌ ولا نارٌ فإذا دفَنْتُمُوني فَشُنُّوا عليَّ التّرابَ شَنّاً ثم أَقِيمُوا حوْل قَبْرِي ما تُنْحرُ جَزُورٌ ويُقْسَم لحْمُها حتّى أسْتأْنِسَ بكُمْ وأنْظُرَ ماذا أُراجِعُ به رُسُل رَبِّى)(مسلم، الإيمان، 192).
وقد شهدنا كثيراً، الحامدين الشاكرين الله لعدم موتهم وهم يجتازون دهاليز تلك الفترة المعتمة، وتوجههم إليه سبحانه بالإيمان كتضرع عمرو بن العاص ]، وحمده لله لخلاصه من الموت في تلك الفترة. فلئن استطعنا أن نهيئ لهم في الدورة الثانية والثالثة حياة مليئة بأشواق الإيمان نكون قد ضمنّا لهم مضي لحظاتهم الأخيرة من حياتهم أيضاً تدفق بنشوة الحمد والشكر.
فدائيو المحبة في العصر الحاضر
إنه لا حدود للوظيفة، ولا سيما من نذر نفسه ليكون فدائي المحبة.. فدائيو المحبة هم الذين نذروا أنفسهم لتحبيب الله إلى الإنسانية جميعاً. لا همّ لهم إلاّ إيجاد سبل تحبيب الله للناس وتمهيد طرق الوصول إلى الحياة الخالدة. وقد كسبت هذه الوظيفة الملقاة على عاتق هؤلاء الأبطال في الوقت الحاضر أبعاداً جادة أخرى. لأن غالبية الناس يعيشون حياة مقطوعة الصلة بالله سبحانه على الرغم مما يشاهد من عودة إلى الإسلام في مناطق مختلفة ومبشرة بالأمل. فإنقاذ هؤلاء من مثل هذه الدوامة أمر عسير جدا وجليل في الوقت نفسه. فكم هو عسير ومؤلم مخاطبة إنسان مصروع لحد الجنون مغمور في مستنقع آسن مميت : كن كما أنت عليه… كذلك من العسير جداً إيقاظ هذا الجبل الذي يتخبط في هذا المستنقع وجلب انتباهه إلى أن يحافظ على صفاء قلبه وتوثيق صلته بالله. بل هو أعسر منه. ولكننا مضطرون إلى اجتياز هذه المشاق وتخطي هذه الصعوبات. فالمحبة والتسامح من الوسائل المهمة لتجاوز هذه الصعاب. لأن أغلب الناس يواجه إما بالفوز بالحياة الأبدية أو خسرانها. ونحن نريد أن يفوزوا بحياتهم الأبدية. والحال أنهم لم يدركوا بعدُ عِظَم ما هم فيه من المهالك، ولهذا يستغربون مما نبذله من جهد وهمّة على إنقاذهم، بل أحيانا يسخطون منا ويصدوننا. فالقيام بعمل مماثل يدفعهم إلى حرمانهم من الحياة الأبدية. لذا فإن تصرفاتنا ينبغي أن تخالف تصرفاتهم وأعمالهم. إذ لو علموا حراجة وضعهم لأدركوا سبب اهتمامنا وبذلنا الجهود، ولَسَعَوا إلينا سعياً حثيثاً ولغمروا قلوبنا بالبهجة والسرور. لذا ينبغي الاستمرار في الإيقاض والتنبيه على الرغم من استغرابهم وصدّهم لنا. وهكذا فعل الأنبياء وكذا الأولياء والأصفياء وهم شموس الإنسانية وأقمارها. فمثلاً :
سيدنا نوح عليه السلام، كيف اهتاج وتفجّع من عصيان ابنه في عدم ركوب السفينة معه رغم إلحاحه عليه، ثم كيف توسل إلى الله سبحانه وتعالى ولاذ إليه لإنقاذه من الغرق حتى حال بينهما الموج؟(1) ففي وقتنا الحاضر مئات من الأحداث أمثال هذه تدفعنا إلى التفجع نفسه.
وسيدنا ابراهيم عليه السلام كان يهمه كثيراً ويقض مضجعه عبادة أبيه للأصنام، فتوسل بكل الوسائل الممكنة لإفهامه الحقائق(2). فسلوك الأنبياء هذا يعلّم الشيء الكثير لفدائيي المحبة في عصرنا الحاضر.
وسيدنا الرسول الذي خاطب عمّه الذي حماه طوال أربعين سنة : >أيْ عَمِّ قُلْ لا إلَه إلا الله كَلِمَةَ أُحَاجُّ لك بها عِنْد الله<(البخاري، مناقب الأنصار).
هذا الموقف الجليل للنبي المحزون الذي كاد يهلك نفسه لهداية الناس، يجب أن يكون ماثلا أمام أعيننا دون مغادرة، وأنه لم يقابل قومه الذين حاصروه وآذوه بشتى صنوف الأذى إلا بالمحبة والتسامح والرحمة(3)، قابلهم بالمحبة وأصبح هو الظافر؛ لأنه ترك من بعده طريقاً يعبر من جسر هذه المقابلة والمكابدة لجعل ملايين الناس يغنمون حياتهم الأبدية.
…إن تحويل هذه الأقوال إلى أفعال عسير جداً، ولكنها جديرة لإفهام مدى الشفقة الواسعة سعة البحار الزاخرة.. لحالة جَيَشَان الروح ولو آناً من الزمان.
وما أعظم شفقة الرسول الكريم الذي سينادي في هول يوم الحشر (أمَّتي.. أمّتي) متضرعاً خاشعاً ساجداً لله حالما يدرك أن من أمته من سيدخل جهنم.. فلا يرفع رأسه من السجود إلا عندما يخاطَب (يَا مُحمد ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ واشْفَعْ تُشَفَّعْ)(البخاري، مسلم والترمذي). فهذا تعبير عن شفقة ورحمة لا نظير لهما للرسول العظيم تجاه أمته. وفي الوقت نفسه فهو مثال لأعظم فدائيي المحبة. فلا يكون فدائي المحبة إلاّ من ينسى حظوظه البشرية وسعادة عائلته ومشاغله الدنيوية في سبيل هموم الناس وآلامهم ومن يتعالى على مطالبه. بل لا يمكنه أداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه الأكمل إن لم يكن فدائي المحبة بحق.
————–
1- انظر سورة هود الآيات : 42- 43.
2- انظر سورة الأنعام الآية : 74.
3- الهيثمي، مجمع الزوائد 35/6، على القاري، شرح الشفا للقاضي عياض 279/1.