في أنماط التعامل مع القرآن الكريم


القرآن في الأصل مصدر على وزن فُعلان بالضم. كالغفران والشكران والثكلان. تقول: قرأته قرءا وقراءة وقرآنا، بمعنى واحد، أي تلوته تلاوة. وقد ورد استعمال القرآن بهذا المعنى المصدري في قولة تعالى: (إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه)(القيامة : 17)، أي قراءته. وقد روعي في تسميته قرآنا كونه متلوا بالألسن. كما روعي في تسميته كتابا كونه مدونا بالأقلام. فكلتا التسميتين شيء بالمعنى الواقع عليه. وفي تسميته بهذين الإسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد. أي: يجب حفظه في الصدور والسطور جميعا. وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية اقتداءا بنبيها، بقي القرآن محفوظا في حرز حريز(1).

ولا ينبغي أن يكون القرآن الكريم سوى كذلك، لأنه أولا، كتاب الله تعالى الذي تكفل هو سبحانه بحفظه، وليسكتاب بشر، وثانيا، لأنه معين لا ينضب وخزانة للحق لا تفرغ ولا تنفد؛ قال تعالى: {ولو انما في الارض من شجرة اقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله، إن الله عزيز حكيم}(لقمان : 27)، وقال رسول الله   : >كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق من كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم<(2).

القرآن الكريم وضرورة الإخراج الحضاري

ومع الحفظ السابق ذكره، مازال القرآن الكريم كنزا مدفونا، عند الكثير من المسلمين؛ لم يتفاعلوا معه التفاعل اللازم، ولم يستخرجوه بعد الإخراج الحضاري المطلوب، ولم يطلعوا على ما فيه من القيم العظيمة التي أودعها الله فيه بالشكل الواجب: فمن الناس من يقرأ القرآن لينال أجر التلاوة فقط، ومنهم من يحفظ آياته لينال أجر الحفظ فحسب، ومنهم من يقرأ القرآن ليتذوق حلاوة هذا النظم العجيب، ويتعلم من بلاغته وأسلوبه أمور البلاغة والبيان لا غير، ومن الناس من يقرأ القرآن باحثا عن أخلاقيات تحسن سلوكه أو تقومه، ومنهم من يقرأ القرآن يبغي به حل مشكلاته …

ومع الاعتبار الواجب لهذه الأمور المطلوبة جميعها، فإنه لا بد من التأكيد على وجوب التوقف مع القرآن لاستخراج التصورات الإسلامية الحضارية، والمفاهيم العظيمة التي من شأنها أن تُعَدِّلَ المسيرة الإسلامية نحو الإسهام الجاد في الحضارة. يجب -من خلال القرآن- تلمس القيم التي ينشأ عليها الفرد المسلم من أجل بنائه حضاريا لتبليغ الرسالة.

إننا في غمرةتلاوة القرآن ما بين جهل بألفاظه ومعانيه، وبين مرور سريع يمنع التدبر في أعماقه، لذلك مازالت كثير من التصورات الإسلامية في هذا القرآن مجهولة للكثيرين. الأمر الذي ينبغي أن يولى الأهمية الكبرى. إذ به يتم تجاوز التعامل المشين مع القرآن الذي يبغي به بعض العوام -وحتى بعض كبار المثقفين للأسف الشديد-، البركة والتقديس فقط، دون التزام وامتثال.

وهنا لا ينبغي تفويت الفرصة دون الإشارة إلى أن أي محاولة لفهم الإسلام، أو إصلاح أحوال المسلمين، تتجاوز القرآن العظيم، أو تهجره أو تتخطاه، أو تقرؤه بنفس الأعين التي تقرأ بها معلقات امرئ القيس، وطرفة وخمريات أبي نواس، لن تفضي إلى الوعي الحضاري بالقرآن، وهي قراءات ومحاولات سيكتب لها الفشل. ومرحلة التغيير في هذا الاتجاه التي دُشِّنَت -من طرف القوى التي تمثل هذه الاختيارات في التعامل مع الإسلام والقرآن خاصة-، منذ الاستقلال إلى اليوم تؤكد هذه النتيجة وتعززها.

لقد استمد العلماء -كل في مجال تخصصه- معارف مختلفة من القرآن الكريم، واستندوا إليه، وعالجوا قضاياهم من خلاله، تبعا لما وصل إليه التطور الفكري التاريخي في عهودهم.

هذا وإن الذي يقرأ القرآن في إطاره الشمولي غير الذي يقرؤه قراءة انتقائية، تسلخ الآيات عن سياقها الكلي. كما أن الذي ينظر إليه قصصا وتشريعا وترغيبا وترهيبا، غير الذي ينظر إليه جامعا شاملا خالدا مجردا عن حدود الزمان والمكان، يغطي الوجود الكوني وحركته. باعتبار أن القرآن هو العامل الحاسم في الوعي بالكون وحركته وعلاقاته من خلال تحولات الزمان والمكان(3).

المشكلة في منهج الفهم

قد تكون مشكلة المسلمين اليوم في منهج الفهم المؤدي إلى تدبر القرآن الكريم والتعامل معه. من أجل ذلك لا بد من كسر الأقفال المُوصِدَة للعقول والقلوب من أجل الاستجابة وتحديد وسيلتها ليكونوا في مستوى القرآن، ويحققوا الشهود الحضاري، ويتخلصوا من الحال التي استنكرها القرآن حين قال تعالى :  {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}(محمد : 24).

هذا، وقد يكون من أخطر الإصابات التي لحقت العقل المسلم فحالت بينه وبين التدبر وكسر الأقفال، ووضع الأغلال والآصار، والتحقق بالفكر القرآني والرؤية القرآنية الشاملة، والاغتراف منه لعلاج الحاضر، واعتماده مصدرا للمعرفة والبعث الحضاري، التوهم بأن البناء الفكري القديم الذي استمد من القرآن في العصور الأولى، هو نهاية المطاف. وأن إدراك أبعاد النص مرتهن بهذا الفهم في كل زمان ومكان، وذلك مثل ملازمة الحديث عن النهي عن القول في القرآن بالرأي، وجعل الرأي دائما قرين الهوى، وسوء النية، وفساد القصد. وفي هذا ما فيه من محاصرة للنص القرآني، وقصر فهمه على عصر معين، وعقل محكوم برؤية ذلك العصر، وحجر على العقل، وتخويف من التفكر. الأمر الذي يحول بين الإنسان والتدبر المطلوب في القرآن. هذا علاوة على أن الاقتصار على هذا المنهج في النقل والتلقي والفهم، يحاصر الخطاب القرآني نفسه. ويقضي على امتداده وخلوده -في أذهان الناس-، وقدرته على  العطاء المتجدد في الزمن، ويلغي بعده المكاني {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا}(سبأ : 28) وبعده الزماني كذلك، بل ويلغي التكليف القرآني أيضا؛ التكليف المؤسَّس على وجوب النظر في البواعث والعواقب. وكذا النظر في الأنفس والآفاق، والاكتشاف المستمر للسنن والقوانين، والتعامل معها في ضوء العطاء العلمي، والكشوف البشرية في إطار علوم الكون والحياة(4) : {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}(فصلت : 53).

إن تسرب هذه القناعة من التحديات الكبرى التي تجب مواجهتها والتخلص منها، ليتخلص العقل من قيوده ومكبلاته، فينطلق من خلال الرؤية القرآنية اتجاه آفاق الحياة بأبعادها المختلفة، ومن ثمة يُنضج معرفة وحضارة مستمدة من الوحي المعصوم. إن استمرار مثل هذا الفهم لا يلغي الحاضر فحسب، إنما يحكم أيضا، على المستقبل بالموت؛ ذلك لأنه يُسقط -بوعي أو دون وعي- عن القرآن صفة الخلود الزماني، والامتداد المكاني.

إن الدعوة إلى محاصرة العقل بقصر الفهم والإدراك والتدبر على فهوم السابقين، هي التي ساهمت بقدر كبير في الانصراف عن تدبر القرآن بالشكل الحضاري المطلوب، وأقامت الحواجز النفسية المخيفة التي حالت دون النظر فيه. وأبقت الأقفال على القلوب(5). والإسلام لا يقبل من المسلم أن يلغي عقله ليجري على سنة آبائه وأجداده، كما لا يقبل منه أن يلغي عقله خنوعا لمن يسخره باسم الدين في غير ما يرضي العقل والدين، ولا يقبل منه أيضا، أن يلغي عقله رهبة من بطش الأقوياء وطغيان الأشداد.

إن هذه الموانع والعوائق كلها، سواء التي فرضها التقليد والعرف أو الخوف، إنما تقوم وتبقى ما هان على الإنسان أن يعيش بغير عقل يرجع إليه في أكرم مطالبه(6).

لقد أصبحنا أتباعا مقلدين، غير قادرين ليس فقط على تجاوز فهم السابقين، والامتداد بالآيات إلى آفاق جديدة، وإنما عاجزين أيضا، عن الإثبات بمثال آخر غير ما جاء به الأقدمون، وهذا من أشنع حالات التقليد. وكما أن مناخ التقليد الجماعي جعلنا عاجزين عن الفهم، ودون مستوى التعامل مع القرآن، فكذلك أصبحنا دون مستوى التعامل مع الواقع. لأننا عطلنا عطاء القرآن للزمن المتغير السريع، وحاولنا التعاطي معه بفهوم عصر آخر يختلف في طبيعته، ومشكلاته، وعلاقاته ومعارفه عن عصرنا. وأصبغنا صفة القدسية والقدرة على الامتداد والخلود للاجتهاد البشري، ونزعناها عن القرآن.

إن موضوع القرآن، هو صياغة الإنسان. ووظيفة الإنسان، هي القيام بأعباء الاستخلاف والإعمار عن طريق اكتشاف سنن التسخير، وحسن التعامل معها. لذلك فرض القرآن النظر والتدبر والملاحظة والاختيار، وإدراك علل الأشياء وأسبابها وامتد في ذلك إلى استشراف المستقبل.

إشارات لابد منها

أخيرا، لا بد من الإشارات الأساسية التالية:

> الأولى : إن هذه الدعوة للتعامل مع القرآن الكريم -بالشكل السالف الذكر- ليست دعوة للقفز على عطاءات السابقين من الأعلام المخلصين لهذا الدين، لأن منهم من تجاوز بعطائه عصره. لذا لا بد من الرجوع والاستنارة والاقتداء بهم. ومما ينبغي الاقتداء بهم فيه، وجوب التعامل مع القرآن الكريم كما تعاملوا هم معه، أي: بما فرضه ظرفهم ومعطياتهم الحضارية آنذاك. ولو أن عَلَما منهم قام لاستنكر كثيرا من هذه الصنميات التي تصطبغ بها أقواله واجتهاداته، من طرف أناس جعلوا كل الأبواب موصدة على الماضي، وجعلوا القرآن قرين الماضي وأهله.

> الثانية : لا ينبغي أن يفهم، من هذه الدعوة، أنها دعوة للاجتهاد الذي لا ضوابط له ولا أسس ولا أصول. إن من شأن ذلك، أن يجعل من التعامل مع القرآن الكريم، دعوة لا تختلف كثيرا عما تدعو إليه القوى التي تريد أن يكون القرآن الكريم كتابا لكل الفهوم غير المؤصلة وغير المؤسسة، بل حتى تلك التي تريد أن تفجره من الداخل.

> الثالثة : إن التعامل مع القرآن الكريم، ينبغي أن تكون له أهداف ومقاصد وأصول مشروعة، يلزم أن تكون القراءة مؤسسة منضبطة لقواعد، وليست دعوة للسيبة في التفكير والتحليل أثناء التعامل مع القرآن الكريم.

وإذا كان القرآن كما سلف أن وصف الرسول الأكرم عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم، فلا بد من التعامل معه، باعتباره كتاب الله تعالى وليس كتاب بشر. ثم التعامل معه باعتبار أن فيه حكم ما بيننا أي هو تشريعنا لا نترك، كي لا نكون عرضة لحكم الله في الجبارين، ولا ينبغي أن نضل فنبغي الهدى في غيره، إذ هو الحبل المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم. كما ينبغي التعامل معه على أنه كنز لا يفنى ولا يشبع منه الناس، ولا تنتهي عجائبه. ولا بد أيضا من التعامل معه باعتباره مصدرا للعمل والممارسة والتنفيذ.

إن قرآنا هذه مواصفاته، لا يجوز أن يغتال العقل في التعامل معه. كما لا يجوز حبسه في قراءات الماضي، لأنه كتاب للأحياء.

——————

1 – النبأ العظيم، نظرات جديدة في القرآن، للدكتور محمد عبد الله دراز، الطبعة السابعة والثامنة، 1413-1993-1416-1996 ص: 12-13.

2  – سنن الدارمي:2/435، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان.

- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الكتاب العربي بيروت لبنان، الطبعة الثالثة: 1402هـ 1982م، ص:164.

- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، دار الكتاب العربي، الطبعة الرابعة: 1405هـ 1985م، ص:5/253.

3 – كيف نتعامل مع القرآن، في مدارسة أجراها الأستاذ عمر عبيد حسنة مع المرحوم محمد الغزالي. الطبعة الأولى 1412-1992، ص: 7-8.

4 – المصدر نفسه، في المقدمة بقلم عمر عبيد حسنة: ص 15-16.

5 – المصدر نفسه، ص: 20-21، بتصرف.

6 – التفكير فريضة إسلامية عباس محمود العقاد: دار الهلال: ص: 18، بتصرف.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>