منطلقات التجديد
لمعرفة أبعاد منهج رسائل النور في التجديد أرى ضرورة بسط الكلام في منطلقات التجديد، ولكني سأذكر ثلاثة فقط من بين العديدة منها:
> 1- قراءة القرائين الثلاثة:
تدفع رسائل النور القارئ إلى قلب القرآن الكريم ، من خلال تفسير شهودي له، حتى يصدُق على قارئها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)(1) . فهو في حضور دائم مع الله سبحانه وتعالى ، وذلك لأن الرسائل تنطلق مباشرة من :
أولا : القرآن المقروء ، ذلك الكتاب المبين .
ثانيا : القرآن المنظور ، هو هذا الكون الذي هو بمثابة كتاب كبير مجسم وقرآن جسماني معظّم(2) إذ ليس في الموجودات من شئ إلا هو لفظ مجسم يفصح عن معاني جليلة، بل يستقرئ أغلب أسماء صانعه المبدع(3). فكما أن صفة “الكلام” تعرّف الذات الأقدس سبحانه وتعالى بالوحي والإلهامات، فإن صفة “القدرة” كذلك تعرّف ذاته جل وعلا بآثارها البديعة التي هي بمثابة كلماتها المجسّمة التي تصف قديراً ذا جلال، وتعرّفه بإظهارها الكون من أقصاه إلى أقصاه بماهية فرقان حكيم مجسم. حيث إن كل موجود في العالم، لفظ مجسم حكيم(4) يكاد يكون الكون بأسره عبارة عن مكاتيب إلهية بليغة وقرآن رباني مجسّم ومعرض آثاره سبحانه المهيد(5).
ثالثا : القرآن الناطق ، وهو الرسول الكريم (6)، الذي وصفته أمنا عائشة رضي الله عنها “كان خلقه القرآن”(7). أي أن محمدا هو المثال النموذج لما بينه القرآن الكريم من محاسن الأخلاق.
يقول الأستاذ النورسي: “فطريق المعراج القرآني الذي يعلنه ببلاغته المعجزة، لا يوازيه طريق في الاستقامة والشمول، فهو أقصر طريق وأوضحه وأقربه إلى الله وأشمله لبنى الإنسان ونحن قد اخترنا هذا الطريق”(8).
ولما كانت رسائل النور ” كينونة فكرية وروحية متكاملة”(9) وتلميذة أمينة من تلامذة القرآن الكريم، فهي ” لا تسير على وفق خطى العقل وأدلته ونظراته- كما هو الأمر لدى الفلاسفة والمتكلمين- ولا تتحرك كما هو الشأن لدى الأولياء المتصوفين بمجرد أذواق القلب وكشوفاته.. وإنما تتحرك بخطى اتحاد العقل والقلب معا و امتزاجهما، وتعاون الروح واللطائف الأخرى”(10). علماً أن منهجها القرآني هذا لا يصطدم مع أي منهج من تلك المناهج مباشرة، ولا يلغيه، “ولا يفرض بالضرورة البداية الصفرية في المعرفة التربوية والنظرية، فضلا عن المعركة الحضارية، بل يقتضي استثمار كل ما من شأنه أن يفيد في بيان الحقائق الإيمانية المستقاة من القرآن الكريم “(11).
> 2- تجليات الأسماء الحسنى:
يصح لنا أن نقول : إن التعامل مع معاني تجليات الأسماء الحسنى في الأنفس والآفاق هو لحمة رسائل النور وسداها. ذلك لأن “حقيقة كل شئ تستند إلى اسم من الأسماء أو إلى كثير من الأسماء. وان الإتقان الموجود في الأشياء يستند إلى اسم من الأسماء، حتى إن علم الحكمة الحقيقي يستند إلى اسم الله “الحكيم ” وعلم الطب يستند إلى اسم الله ” الشافي” وعلم الهندسة يستند إلى اسم الله ” المقدّر” .. وهكذا كل علم من العلوم يستند إلى اسم من الأسماء الحسنى وينتهي إليه..”(12).
ومن هنا نجد أن الرسائل تعالج قضايا العقيدة والشريعة والأخلاق والتاريخ وتفاصيل النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتربوي وغيرها، في ظل مقدار التمثل لتجليات تلك الأسماء الحسنى، لأن الكون في فطرته، ومن خلال كل جزء من أجزائه، يسير في ضوء تلك التجليات. فالموجودات كلها إنما هي مظاهر لتلك التجليات..(13)
> 3- الخطاب موجه إلى النفس الإنسانية :
لقد جاء خطاب الأستاذ النورسي موجها إلى نفسه بالذات أولاً(14) ذلك لأن “النفس الإنسانية” هي واحدة في جوهرها، وواحدة في أسباب صحتها ومرضها، كالجسد تماماً، فإذا كانت الأمراض التي يمكن أن تصيب جسد “زيد” هي نفسها التي يمكن أن تصيب جسد “عمرو” وان ما يفيد “زيداً” من دواء يفيد “عمرواً” أيضاً، فكذلك فإن أمراض “النفس” هي واحدة لدى جميع البشر مع بعض الفروقات بين نفس ونفس. فالعلاج الذي استعمله “النورسي” لنفسه قد يفيد أي إنسان آخر يعاني ما كان يعانيه “النورسي” من نفسه، وهو يقول بهذا الصدد:
“ولا تخف من تمرد النفس، لأن نفسي الأمارة المتمردة المتجبرة انقادت، وذللت تحت سطوة ما في هذه الرسالة من الحقائق، بل شيطاني الرجيم أفحم وانخنس.. كن مَنْ شئت، فلا نفسُك أطغى وأعصى من نفسي، ولا شيطانُك أغوى وأشقى من شيطاني”(15).
وما من أحد من المؤمنين إلاّ وله مع نفسه العصية مواقف أو بعض مواقف – كالتي كانت للنورسي مع نفسه – مع اختلاف درجات التوتر والقلق والصراع ضعفاً وقوةً، وقلة وكثرةً، في الأشخاص، تبعاً لدرجات إيمانهم ويقينهم؛ لذا فما من أحد إلاّ وله في تجربة “النورسي” ما يفيده بدرجة أو بأخرى..(16)
ومن هنا كان خطاب النورسي ليس موجهاً إلى المسلمين وحدهم بل إلى الإنسانية عامة، فكما يستفيد منه المسلم يستفيد منه غير المسلم .
موضوع البحث :
سنتطرق إلى الدور التجديدي لرسائل النور في ثلاثة جوانب من بين جوانبها الكثيرة :
الدور التجديدي في الجانب العلمي
سوف لا أتناول هذا الجانب بإسهاب . فلقد أُشبع بحثا وتنقيبا ودراسة ومناقشة من قبل علماء أفاضل وأساتذة متخصصين وباحثين مفكرين من العالم العربي والإسلامي والإنساني بمختلف الجنسيات وبمختلف الأديان وذلك في عشرات المؤتمرات التي نظمتها جامعات أو مؤسسات علمية في شتى أقطار العالم : الأردن ومصر والمغرب واليمن وماليزيا وإندونيسيا واستراليا وانكلترا والمانيا فضلا عن تركيا .
فمجموع البحوث التي ألقيت ونوقشت في جميع هذه المؤتمرات والندوات والملتقيات، يدود حول “الدور التجديدي في الجانب العلمي لبديع الزمان سعيد النورسي”. حيث إن كل عالم فاضل قد أدلى بدلوه من جانب اختصاصه العلمي وأجاد، و نشرت تلك البحوث في مجلدات باللغات العربية والتركية والإنكليزية. لذا لم يبق لي مزيد كلام في هذا الموضوع، فأترك الكلام لأهله فهم أحق بالكلام فيه . إلاّ أنني أقتبس ما خلص إليه الدكتور كولن تورنر من جامعة دورهام – انكلترة في مؤتمرين متعاقبين، وهو هذه العبارة الموجزة المعبرة إذ يقول :
“إنني أعتقد بأن رسائل النور هو المؤلَّف الإسلامي الوحيد الذي يقدم الكون كما هو، ويفسر القرآن كما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقدم العلاج الشافي للإنسان الحديث الذي سيطرت عليه الأمراض الخطيرة. لذا فإنني أرى أن بديع الزمان يستحق لقب المجدد”(17).
———-
1 – حديث متفق عليه
2 – الشعاعات ص 186، الكلمات ص 178
3- الكلمات ص 237
4- الشعاعات ص 210، الشعاعات ص 260
5- الشعاعات ص 666
6 – الكلمات ص 254 . المثنوي العربي النوري ص 55
7- جزء من حديث عائشة رضي الله عنها. أخرجه مسلم 746 واحمد 6/54، 91، 163 وأبو داود 1342 والنسائي 3/199. 200 والدارمي.
8- صيقل الإسلام / المحاكمات ص 122
9- النورسي في رحاب القرآن للدكتور عشراتي سليمان ص 5، شركة سوزلر للطباعة والنشر – القاهرة 1999
10- الملاحق / ملحق قسطموني ص 105
11- بديع الزمان النورسي وإثبات الحقائق الإيمانية ( المنهج والتطبيق) للدكتور عمار جيدل ص72، مطبعة النسل – استانبول 2001
12- الكلمات ص 749
13- الكلمات ص 290، ص 749
14- الملاحق / ملحق قسطموني ص 105
15- المثنوي العربي النوري ص
16- المثنوي العربي النوري ص 12-13
17 – المؤتمر العالمي الثاني … بديع الزمان سعيد النورسي وإعادة بناء العالم الإسلامي في القرن العشرين في27 – 29 أيلول 1992 استانبول – تركيا
في الحلقة القادم الدور التجديدي في الجانب التربوي