إ
العنصر الثاني من عناصر الأمة المسلمة هو ـ الهجرة ـ إلى مهجر يوفر للأفراد المؤمنين أن يعيشوا نموذج ـ المثل الأعلى ـ للحياة الإسلامية، وأن يتحرروا من كافة الأغلال والآصار الثقافية والاجتماعية والمعنوية والمادية التي تحول دون هذا العيش.
معنى الهجرة :
الهجرة معناها الانتقال. وهي نوعان : انتقال حسي، وانتقال نفسي. والانتقال الحسي معناه الانتقال من مجتمعات الكفر والشرك إلى مجتمع الإيمان.
أما الانتقال النفسي فهو يعني الانتقال من ثقافة مجتمعات غير المؤمنين بنظمها وعقائدها وأخلاقها وقيمها وعاداتها وتقاليدها وتطبيقاتها المختلفة، إلى ثقافة الإيمان بمظاهره وتطبيقاته ومؤسساته. وإلى هذا النوع من الهجرة النفسية كانت التوجيهات الإلهية عند قوله تعالى :
{والرجز فاهجر}(المدثر : 5).
{واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا}(المزمل : 10).
{فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي}(العنكبوت : 26).
وإلى النوعين مجتمعين من الهجرة كانت الإجابات النبوية عن معنى الهجرة وأشكالها. فلقد سأله أعرابي بقوله : يا رسول الله أخبرنا عن الهجرة؟ إليك أينما كنت، أو لقوم خاصة، أم إلى أرض معلومة، أم إذا مت انقطعت؟
فسكت عنه يسيرا ثم قال :
أين السائل؟
قال : ها هو ذا يا رسول الله!
قال : “الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، ثم أنت مهاجر، وإن مت بالحضر” (مسند الإمام أحمد).
وفي موقف أخر قال : “المهاجر من هجر السوء فاجتنبه” (مسند الإمام أحمد).
وفي موقف آخر قال : “لا تنقطع الهجرة حتى تطلع الشمس من مغربها”(مسند الإمام أحمد).
وفي موقف آخر سأل رجل فقال : يا رسول الله : أي الهجرة أفضل؟
قال : “أن تهجر ما كره ربك وهما هجرتان : هجرة البادي، وهجرة الحاضر، فهي أشدها وأعظمها بلية”(مسند الإمام أحمد).
وممن ناقش رابطة الهجرة الرازي فقال :
(الهجرة تارة تحصل بالانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان. وأخرى تحصل بالانتقال عن أعمال الكفر إلى أعمال المسلمين. قال : “المهاجر من هجر ما نهى الله عنه”. وقال المحققون : الهجرة في سبيل الله عبارة عن الهجرة عن ترك مأموراته وفعل منهياته.. وذلك يدخل فيه مهاجرة دار الكفر، ومهاجرة شعار الكفر. ثم لم يقتصر تعالى عن ذكر الهجرة، بل قيده بكونه في سبيل الله. فإنه ربما كانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الاسلام. ومن شعار الكفر إلى شعار الاسلام لغرض من أغراض الدنيا. إنما المعتبر وقوع الهجرة لأجل أمر الله)(1).
والخلاصة أن التعاريف النبوية للهجرة تشير بوضوح تام إلى أن الهجرة تتكون من قسمين : هجرة جسدية وهجرة نفسية. وأن الهجرة الجسدية لا تغني عن الهجرة النفسية بل هي مكملة لها ومقدمة لممارستها. فإذا كان المسلم، أو الفئة المسلمة يعيشان في بيئة غير إسلامية لا يستطيعان العيش فيها حسب نماذج ـ المثل الأعلى ـ للحياة الإسلامية، فإن الأولوية تكون للهجرة الجسدية. حتى إذا تمت هذه الهجرة وانضم المسلم إلى المهجر الإسلامي، وجبت عليه الهجرة النفسية والتخلص من آثار البيئة الأولى في عقله وشعوره وسلوكه.
ويلاحظ على الهجرة بمفهومها المعنوي أنها تقابل “التزكية” أو ـ تغيير ما بالأنفس ـ الذين يشدد عليهما القرآن الكريم في مواضع كثيرة، وغاية هذا التغيير هو ـ هجرـ الأفكار والثقافة والقيم الخاطئة أو الآبائية التي انقضى زمنها. ولقد كان أبرز مظاهر الهجرة المعنوية هو الانتقال من ـ ثقافة العصبيةـ بكل قيمها وتقاليدها الصنمية، إلى ثقافة الاسلام بكل قيمها وتقاليدها التوحيدية. ولذلك نبه الرسول إلى أن العودة إلى ثقافة الأطوار العصبية ومفاهيمها وقيمها وتقاليدها هو مظهر من مظاهر الردة، وكبيرة من الكبائر المخلدة في النار. فعن عبد الله قال : >آكل الربا وموكله وكاتبه إذا علموا بذلك، والواشمة والمستوشمة للحسن، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابيا بعد الهجرة، معلونون على لسان محمد يوم القيامة<(مسند الإمام أحمد).
وفي تفسير الطبري لقوله تعالى :
{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} (آل عمران : 21)
عن محمد بن سهل بن أبي حثمة عن أبيه قال : إني لفي مسجد الكوفة، وعلي ] يخطب الناس على المنبر، فقال :
- يا أيها الناس : إن الكبائر سبع
فأصاخ الناس. فأعادها ثلاث مرات ثم قال :
- ألا تسألوني عنها؟
قالوا : يا أمير المؤمنين ما هي؟
قال : الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار يوم الزحف، والتعرب بعد الهجرة.
فقلت لأبي : يا أبت التعرب بعد الهجرة.. كيف لحق ها هنا؟
فقال يا بني : وما أعظم من أن يهاجر الرجل حتى إذا وقع سهمه فيالفيء ووجب عليه الجهاد خلع ذلك من عنقه فرجع إعرابيا كما كان!.
وعن عبيدة بن عمير قال : الكبائر سبع ليس منهن كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله… إلى أن قال : والتعرب بعد الهجرة{إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى}(2).
ولعل الحكمة من اعتبارـ العودة إلى العصبية، أو التعرب بعد الهجرةـ ردة كبيرة من الكبائر هو أن هذه العودة نكسة في نظام القيم الإسلامية حيث تعود (القوة فوق الشريعة) أو فوق القانون، ويعود (الولاء للإقليميات بدل الأمة)، أي تعود “قوة” الرئيس وإرادته لتحل محل “الشريعة” وإرادة الله. فهي إذن عودة لجوهر الصنمية وما يرافقها من عودة إلى الارتجال والفردية والفوضى بدل الإعداد وروح الجماعة والنظام. ولذلك وصف الله ـ المتعربين ـ بقوله : {الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله} التوبة : 97) ولذلك أيضا قال رسول الله : هجرة البادي الطاعة أي طاعة الشريعة والانقياد للنظام.
أهمية الهجرة :
الهجرة عنصر أساس من عناصر الأمة المسلمة ولها أهميتها في استراتيجية العمل الإسلامي وتتمثل هذه الأهمية فيما يلي :
الأهمية الأولى : تخليص المؤمنين من العوز، وعد الأمن اللذين يضغطان عليهم ويؤثران تأثيرا سلبيا على أمنهم الديني والاجتماعي، وإلى هذين العاملين كانت الاشارة الإلهية عند قوله تعالى : {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة}(النساء :100).
والمراغم هو المنعة والقوة، وما يرغم به المؤمنون المهاجرون ظالميهم على مسالمتهم ويردعونهم عن العدوان عليهم.. والسعة هي الغنى وسعة العيش. ويتكرر الحديث عن أهمية الهجرة في توفير المنعة والإنجاز الحضاري في مواضع عديدة من القرآن الكريم، من ذلك قوله تعالى : {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون}(النحل : 41).
ونظرا لأهمية الهجرة في توفير المنعة، وإطلاق القدرات، وتوفير الإنجازات، أدان الله سبحانه وتعالى المتقاعسين عن الهجرة وتوعدهم بالعذاب. من ذلك قوله تعالى :
{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم. قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا}(النساء : 97)
ويروي المفسرون عن عبد الله بن عباس ]، ان أناسا من المسلمين لم يهاجروا فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون : كان أصحاب هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت الآية.
ولقد استمرت الهجرة عاملا أساسيا في قوة حركات الإصلاح التي نجحت في إخراج العالم الإسلامي من ضعفه -في فترات متقطعة وفي أماكن مختلفة- مثل الحركة التي أخرجت جيل صلاح الدين، وحركة المرابطين، فقد هجرت الأولى “فقه” المذهبية والآبائية الذي عاصرته، ثم انسحبت من المشكلات المعقدة لمجتمع الخلافة في بغداد إلى المهجر الذي نما وامتد حتى شمل المنطقة الواقعة ما بين الموصل وشمالي سوريا في الشمال، وبين مصر والحجاز في الجنوب. كذلك اتخذت الثانية لها مهجرا في غرب افريقيا، ثم خرجت قوة ردت العافية للمغرب والأندلس لقرون(4).
والأهمية الثانية : هي أن الهجرة -بمعناها النفسي والحسي- تنسجم مع حقيقة من الحقائق الكبرى التي يطرحها الإسلام عن الوجود، وهذه الحقيقة هي -استمرارية الخلق- أي أن هذا الكون مازال يخلق : {وربك يخلق ما يشاء ويختار}(القصص : 68)، واستمرارية الخلق هذه ترفد الحياة دائما بالجديد من الأفكار والأشخاص والأشياء، والكائنات الجديدة تفرز -علاقات جديدة-ـ والعلاقات الجديدة تتطلب ـ ترجمة القيم ـ إلى نظم ومؤسسات وسياسات جديدة : {كل يوم هو في شأن}(الرحمن : 29). والذين لا يعون استمرارية الخلق وما ينتج عنها من تجديد في الشؤون والعلاقات والتطبيقات، لا يفقهون مضمون الهجرة المطلوبة، ويقلعون في الاتجاه المعاكس للتاريخ، فيرتدون إلى الآبائية، ويسقطون في التخلف، ويلفهم اللبس والحيرة والاضطراب، وينتهون إلى البوار : {بل هم في لبس من خلق جديد}(ق : 15).
————–
1- الرازي، التفسير الكبير ج 10 ص 221- 222.
2- تفسير الطبري : ج 5 ص 37- 38، المعجم الكبير : ج 6، ص 124 رقم 5636.
3- تفسير ابن كثير نقلا عن صحيح البخاري.
4- للاطلاع على تفاصيل الحركة الأولى راجع كتاب : هكذا ظهر جيل صلاح الدين” للمؤلف.