افتتاحية : {وَكُنْتُم قَــوْمـَا بُـوراً}


البُور : مصدر بَار يبُور بُوراً، يقال : أصبحتْ منازلهم بُوراً، أي خالية لا شيء فيها، أي أصبحتْ لا قيمة لها، لأن المنزل بسُكَّانِه لا تَبرأ به، ويقال : بارت الأرض، أي أصبحت لا تصْلح لزرعٍ أو غرسِ، وبارت السُّوق أو التجارة أو السلعة، إذا أصبحت لا قيمة لها، أي أنها كسَدَتْ، والكساد بالنسبة للاقتصاد هو عبارة عن موْته، ونفس الشيء بالنسبة للأرض البائرة، فهي كأنها ميتة لا إنتاج لها، أي لا يُرجَى منها خير.

والإنسان البائر : الذي لا خير فيه لا لنفسه، ولا لمجتمعه، نظراً لتغَلُّب عُنْصُر الحيوانيّة عليه، وحِرْمانه من كل معاني الإنسانيَّة التي تعْرف قَدْر وجودها، فالإنسان البائر يُتَّقى شره، ولا يُرجى خَيْرُه وبِرُّه.

وهؤلاء الذين وصَمَهم الله عز وجل بهذه الوصْمة، حيث قال فيهم -في سورة الفتح- {وكُنْتُم قَوْماً بُوراً} قد استحقوها لاتصافهمبالصفات التالية :

1) لأنهم دِيدَان الأرض وعبيد المادة، فهم الذين قالوا : {شَغَلَتْنا أمْوالُنا}.

2)لأنهم عبيد الشهوة النسائية {شَغَلَتْنا أمْوالُنا وأهلونا}.

3) لأنهم لا وجهة لهم، ولا هدف لهم، ولا مبدأ لهم، ولا رجولة لهم، وذلك شأن كل إنسان لم يرفع رأسه للسماء، ولم يُرزَق الهمة العلياء، أمثال هؤلاء الهابطي الهمة والطموح لا يَرَوْن مخرجاً سَهْلاً من مآزقهم النفسية والاجتماعية إلاَّ في استعارتِهِمْ القناع الإسلامي لحماية أنفسهم وخداع الخُلَّص من المومنين، فهم يتغطَّوْن بالإسلام، ويُبْطنون الكفر الزؤام.

هؤلاء المَرْضَى القلوب والنفوس لا يستَحيون منْ إيهَامِ أنفسهم أنهم قادرون على خِداع >النُّبُوّة< بقولهم للرسول  {اسْتَغْفِرْ لَنا} بدون أن يدرُوا أن خداع النبوّة هو خِدَاعٌ لله عز وجل مباشرة، وكذلك خِداع المومنين هو عُنصُرُ أساسي من خداع الله تعالى الذي قال للمومنين الذين يواجهون مثل هذه الوجوه المنافقة في كل مكان وزمان {إنّما ذَلِكُمْ الشَّيْطَان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُومِنِين}(آل عمران) {إنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}(النساء) {أَلَيْسَ اللَّهُ بَكَافٍ عَبْدَهُ}(الزمر).

فهؤلاء القوم البُور قد فضح الله تعالى طويّتهم وسريرتهم بقوله : {يََقولُون بِأَلْسِنَتِهِم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِم قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أو أرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُون خَبِيراً}(الفتح : 11) ولكن أنّى لهم بمعرفة الله؟؟ لو عرفوه لعلِمُوا أنه لا تخفى عليه خافية، ولو عرفوه لاستقاموا، ولو استقاموا لما كانوا قوماً بوراً؟!

قد أخبرنا الرسول  بأننا سندخُل عصر الغُثائية عندما يَقذف الله عز وجل الوهن في القلوب، وعندما سأله الصحابة الكرام عن الوَهن، قال لهم : >حُبُّ الدُّنْيا وكَرَاهِيَةُ المَوْتِ<.

فماذا يمكن أن يقول الإنسان في عَصْر الصحوة الذي بدأت فيه الشعوب تستيقظ وتصحو على وقع أقدام الظلم، التي بدأت تكَسِّر الرؤوس، وتنتهك الحرمات، وتستأثر بالخيرات، وتستهزئ بالأديان والنبوات والرسالات، وكان حُبُّ الاستشهاد في سبيل الله الذي سرَى في الصغار والكبار -الفتيان والفتيات- أكْبر سمة تميِّز عصر الصحوة، أي لَمْ يَبْق المسلمون يرضون بالذل والدونية والقعود والخمود، ولكن الصاحين منهم أصبحوا يتسابقون إلى ميدان الشهادة في سبيل الله لتحرير الأوطان من الطغيان، وتحرير المساجد المقدسة من رجس الأوثان.

لا يمكن أن يقول إلا أن المسلمين بدأوا يطلقون عصر الوهن، ويدخلون مرحلة >الْبُوريّةٍ القَوْميّة< في انتظار صُبح الصحوة الذي سيزحف عما قريب.

فما هي ملامح البوريّة القومية؟!

ملامحها الكبرى تتجلى في الخطوط العريضة التالية :

1) أنها لم تستطع سَتْر عيوبها، ولو بعقْد اجتماع صوريٍّ، ومُدَاراة فَشَلِها بِبَيَاناتٍ خادعة كما دأبَتْ عليه الاجتماعات القومية منذ أكثر من نصف قرن من الزمان.

2) انكشاف زيف القوميّة الذي كان مجرد شعار للسفه والبهتان، وإن أثمر -عصر القومية- في بعض الأحيان عمالقة شغَلوا التاريخ مدة من الزمان، فإن هذا التاريخ نفسه قد سجل عليهم الخِزي والهوان، خصوصاً عندما أصبح بقايا عصر القومية الغابر يُمَرِّغُون جبَاهَهُم ووجوههم على أعتاب الصنم الجديد، صنم العولمة الظُّلْمية والظَّلامية.

3) العمل على ترسيخ ثقافة الاستسلام بالزحف على تشويه عقيدة الأمة، وثوابتها الدينية والأخلاقية.

4) التساهل في حماية ثروات الأمة وخيراتها.

5) الرضا التام بأن يكون كبار قومنا مجرد مديرين في نظام مملكة الراعي العالمي الذي لا يُخفي مطامعه، ولكنه بصراحة وقحةٍ  يصرِّح مراراً وتكرار : (كل قرار أُمَمي يصادم استراتيجيتنا في احتكار النفوذ والقوة والمال والمصلحة الخاصة لا اعْترافَ به، ولا مجال لتنفيذه)، فمَنْ يَضْرِبُ عرض الحائط بكل القرارات الدولية لا يُنتَظَر منه إلا أن يستهزئ بكل القرارات الصادرة من منظمات هي دون هيئة الأمم المتحدة في الأهمية والاعتبار بكثير.

إن الرضا بإذلال الشعوب لمصلحة الأجنبي لمن أخَسِّ الوظائف التي يؤدِّيها المخادعون لله والرسول والمومنين والشعوب، ما قيمة الكرسيِّ الذي يعَضُّون عليه بالنواجذ أمام خِزْي التاريخ ولعناته لمُصَادرتهم حُرّية الشعوب، وإهْدَارهم كرَامَتَها، وطموحاتِهم في التقدم والرقي والتحضر كباقي الناس الأحرار الشرفاء، الذين يعارضون فتُسمع معارضتُهم، غيرَ خائفين ولا وَجلين من تعِّقَبهم بالملفات السرية التي أصبحت دَيْدَن كبار قومنا الذين يفترسون الإيمان، ويقتلون الإنسان، لقاء رضا أهل الشأن.

فمتى تنتهي مرحلة القومية البورية؟!

ستنتهي يوم تعي الشعوب أهدافها ورسالتها، وتستطيع انتزاع حريتها كاملة غير منقوصة، آنذاك تستطيع أن تدك الجهل دكّاً، وتدك الاستبداد دكاً، وآنذاك تستطيع أن تختار رؤوسها بحُرِّية، وتستطيع أن تخلع رؤسها بحرية إذا خانت أو عَمِلت ضد توجُّهاتها.

إنها ستنتهي بكل بساطة يوم تستطيع الشعوب إنهاء المسرحيّات العبثية التي يُلْهِي بها البوريُّون الهالكون الشعوب سواء على شكل الأشكال الديمقراطية المزيّفة، أو على شكل الضحك على الذقون بالإصلاحات المزيفة تعليماً واقتصاداً واجتماعاً، أو على شكل تسهيل الإفساد الخلقي، وشَغْل المواطنين بعضهم ببعض لينهبوا بعضهم بعضا، ويقتلوا بعضهم بعضا، ويتآمروا على بعضهم بعضاً، ويتحزّبوا ضد بعضهم بعضاَ.. فكل ذلك سيتساقط أمام الوعي الحقيقي للشعوب.

وآنذاك ستدخل الشعوب المسلمة عن جدارة مرحلة الصحوة المباركة التي سيعم نورُها الأوطان والإنْسَان، إنه عصر يراه البوريُّون بعيداً ويراه المسلمون الواعون قريباً.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>