آيات ومواقف: {وإن منكم إلا واردها}


قال تعالى : {وإن منكم إلا واردها، كان على ربك حتما مقضيا، ثم ننجي الذين اتقوا، ونذر الظالمين فيها جثيا} (سورة مريم : 71- 72).

الآخرة مواطن ومنازل، ودرجات ومراتب، فهل فكرت ـ صاحبي ـ في مواطن الآخرة ومنازلها يوما؟ هل فكرت في القبر -وهو أول المواطن- وظلمته، وما فيه من وحدة ووحشة؟ وهل فكرت في المحشر وشدته، وما يكون فيه من أهوال وأخطار؟ هل فكرت في طول يوم القيامة، وفي دواهيه المختلفة؟ هل فكرت في الحساب وخطورته، وأنت تعلم أن من نوقش الحساب عذب؟ هل فكرت في وزن الأعمال، وأن من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، وأن من خفت موازينه ألقي به في نار حامية؟ ثم هل فكرت في الصراط؟ وما أدراك ما الصراط؟ إنه قنطرة منصوبة فوق جهنم، أما طولها فالله أعلم به، وأما عرضها فأمر عجيب؟ أخرج البيهقي عن زياد النميري عن أنس مرفوعا “الصراط كحد الشعرة، كحد السيف..” قال : وهي رواية صحيحة. يا للهول : حد الشعرة في الرقة، وحد السيف في المضاء، فمن يستطيع أن يجوز عليه إلى بر الأمان يا ترى؟ لا شك أنهم أولئك الذين أتقنوا فن السياقة إلى حد بعيد، ومهروا في ذلك بشكل كبير، وذلك  باتباعهم لشريعة الله في الدنيا، وتمسكهم بصراطه في الحياة الأولى، فمن سار على الصراط هنا وُفق لاجتياز الصراط هناك، ومن زاغ عن صراط الدنيا لم يفلح في اجتياز صراط الآخرة. أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة من حديث طويل أن النبي  قال : “… ويضرب جسر جهنم. فأكون أنا أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ : اللهم سلم سلم، وبه كلاليب مثل شوك السعدان : أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال : فإنها مثل شوك السعدان، غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله، فتخطف الناس بأعمالهم ـ لأن تلك الكلاليب هي الشهوات التي كان يأتيها ابن آدم في الدنيا وهي محرمة عليه، كما قال القاضيأبو بكر بن العربي آخذا من قوله  : “وحفت النار بالشهوات” ـ منهم الموبق بعمله -أي يوبقه ويهلكه- ومنهم المخردل : أي الهالك المصروع في جهنم ـ ثم ينجو…” وفي رواية لأبي سعيد الخدري ] في الصحيح …. ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين جسري جهنم، قلنا يا رسول الله، وما الجسر؟ قال : مدحضة -أي لا تثبت فيه أقدامهم- مزلة ـ أي هو مكان تزل فيه أقدامهم إلى النارـ عليه خطاطيف وكلاليب وحَسَكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء تكون نجد يقال لها السعدان، المؤمن عليها كالطرف وكالبرق وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلَّم، وناج مخدوش ومكدوس في نار جهنم حتى يمر آخرهم يسحب سحبا…”

فالناس في المرور على الجسر أنواع ثلاثة : ناجون بدون أي إصابات، وناجون مصابون، وهالكون في جهنم، وكل نوع مراتب ودرجات، فالناجون منهم من كان في مروره كالطرف ومنهم من كان كالبرق ومنهم من كان كالريح.. والمصابون إصاباتهم مختلفة ومتفاوتة، والهالكون أيضا عذابهم متفاوت وذلك على قدر أعمالهم جميعا، فاختر لنفسك ما يناسبها.

ثم هل فكرت بعد الجسر في جهنم؟ وهل تعلم أن أقل الناس فيها عذابا رجل توضع تحت أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي القمقم على المرجل؟ كما أخبر بذلك النبي  ـ وهل تعلم أن أنعم الناس وأسعدهم وأهنأهم في الدنيا من أهل النار، يؤتى به يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال : يا ابن آدم، هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول : لا والله يارب” كما أخبر بذلك الصادق .

إذا علمت ذلك فاعلم أنك لا بد مار من تلك المواطن بما فيها الجسر وجهنم على قول كثير من العلماء وسواء كان ورود النار حقيقة أو إنما هو المرور على الصراط، فإن الخطر شديد، والهول عظيم. {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا}.

ذكر أصحاب السير أنه لما تجهز الجيش للخروج في معركة مؤتة، (معركة الأمراء الشهداء) ودع الناس أمراء رسول الله وسلموا عليهم، فبكى عبد الله بن رواحة، وهو ثالث الأمراء (زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب) فقالوا : ما يبكيك؟ فقال : أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله  يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا} فلست أدري كيف لي بالصَّدر بعد الورود؟(1).

عن قيس بن أبي حازم قال : كان عبد الله بن رواحة واضعا رأسه في حجر امرأته فبكى ، فبكت امرأته، فقال : ما يبكيك؟ قالت : رأيتك تبكي فبكيت، قال : إني ذكرت قول الله عز وجل {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا} فلا أدري أأنجو منها أم لا؟ وكان مريضا”(2).

روى  ابن جرير عن أبي إسحاق : كان أبو ميسرة إذا آوى إلى فراشه قال : ياليت أمي لم تلدني ثم يبكي، فقيل له ما يبكيك؟ فقال : أخبرنا أنا واردوها ولم نخبر أنا صادرون عنها”(3).

وعن الحسن البصري قال : قال رجل لأخيه : هل أتاك أنك وارد النار؟ قال : نعم، قال : فهل أتاك أنك صادر عنها ؟ قال : لا. قال : ففيم الضحك؟ قال فما رئي ضاحكا حتى لحق بالله”(4).

فاللهم يا رب ثبت أقدامنا على الصراط ونجنا من عذاب النار يا أرحم ا لراحمين.

…………………….

1- زاد المعاد 3/332 والرحيق المختوم ص ب460

2- اخرجه عبد الرزاق في مصنفه وابن جرير الطبري في تفسيره : 8/365

3- تفسير ابن جرير الطبري 8/365

4- مختصر تفسير ابن كثير 2/461.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>