ولا بد من التأكيد على دور التربية في إخراج الأفراد المؤمنين وتنمية تطبيقات الإيمان في “الهوية” و”الجنسية” و”الثقافة”.
في ضوء هذا المفهوم المؤصل للإيمان تحتاج التربية الإسلامية إلى إعادة تأصيل إخراج الأفراد المؤمنين من خلال التالي :
1- إعادة تأصيل “هوية” الإنسان، واستخراج فطرته الخيرة، والاستفادة في ذلك من مكتشفات علم النفس في آيات الأنفس كما مر في صفحات سابقة.
2- إعادة تأصيل أساليب إخراج الفرد المؤمن، بحيث تتفاعل في نفسه آيات الوحي في الكتاب، مع آيات الله في الآفاق والأنفس في مختبرات العلم، ويتضافر القسمان لاستخراج معجزات العصر، وبذلك يولد اليقين وتتجسد صلاحية القرآن لكل زمان ومكان.
3- إعادة تأصيل مفهوم الإيمان ليشمل المظهر الاجتماعي للعبادة بدل حصره في المظهر الديني وحده، ولتتمركز تطبيقاته في قلب الاجتماع البشري على الأرض بدل نفيه في غيبيات خارج خلق الله، بعيدا عن رحلة الإنسان عبر الحياة والمصير.
4- بلورة المعادلات العملية في جميع التوجيهات الاجتماعية التي تحتوي عليها “الثقافة” الإيمانية، مع مراعاة ملاءمة هذه المعادلات لحاجات الزمان والمكان، لأن التوجيهات الإسلامية هي توجيهات عامة، تترك المجال مفتوحا لرؤية نعمة الله في العقل البشري حين يقوم الإنسان بالاجتهاد، الذي يفرز معادلات الإيمان العملية، ويحولها إلى قيم وتطبيقات سياسية وإدارية واقتصادية واجتماعية وثقافية وعسكرية، مع توفير المؤسسات والأدوات اللازمة لهذه التطبيقات، شريطة أن يكون على رأسها تحديد “هوية الإنسان و”جنسيته” و”ثقافته” و”محور ولائه” بما يتفق مع أقدار الله ـ أي قوانينه وسننه ـ في القرآن والسنة، دون إشراك لعصبيات العائلة أو العرق أو اللون أو الإقليم أو المصالح الاقتصادية.
5- تربية الناشئة ـ وغير الناشئة ـ على “الهوية” الإيمانية، و”الجنسية” الإيمانية، و”الثقافة” الإيمانية، تربية عملية. وهذا يعني قيام المؤسسات التربوية بتحويل المعادلات العملية للإيمان إلى مناهج وأنشطة، يعيشها المتعلمون في حياتهم اليومية، وفي علاقاتهم العامة، ويرونها ماثلة في التطبيقات الإدارية والسياسية والاجتماعية وغيرها. ولا بد للمؤسسات التربوية أن تعمل على ترسيخ الشعور بالمسؤولية إزاء متطلبات “الجنسية” الإيمانية، وتنمية المهارات العقلية والعملية عند المتعلمين لتساعدهم على التعرف على مظاهر”الجنسية” الإيمانية، وعلى تحويلها إلى أعمال وممارسات في مواقف الحياة المختلفة.
ولا بد هنا من التنبيه إلى خطورة الاقتصار على التربية النظرية التي لا تصحبها تطبيقات عملية. ذلك أن آثار هذه التربية كآثار التعلم الإشراطي عند السلوكيين. إذ من التجارب التي أجراها السلوكيون في هذا المجال، تجربة الكلب الذي اعتاد على أكل الدجاج الحي. ولمعالجة هذه العادة علقوا بعنق الكلب دجاجة ميتة لا يستطيع الوصول إليها، ولا التخلص من نتنها. فكانت النتيجة أن رائحة النتن انتهت بالكلب إلى كراهية الدجاج كله حيا وميتا.
وهكذا التربية النظرية التي تصحبها تطبيقات عملية نتنة، أو مخالفة، تنتهي بالمتعلم إلى اليأس والإحباط، وعدم تصديق الدعاوى المنادية بالقيم الخيرة، والأعمال الإيمانية الصالحة. وهنا تبدو حكمة الله في تخصيص أكبر مقته للذين يقولون مالا يفعلون.
6- إبراز أهمية تكامل عناصرـ الأفراد المؤمنين ـ أي : “الهوية” و”الجنسية” و”الثقافة” والتأكيد على استحالة الفصل بينها أو وجود أحدها دون الآخر. فالأمة التي تتحدد فيها “هوية” الإنسان و”جنسيته” على أساس الإيمان، هي وحدها التي تكون “ثقافتها” أي : قيمها ونظمها وأخلاقها وعاداتها وتقاليدها وفضائلها، وفنونها وشبكة العلاقات الاجتماعية فيها، مستمدة من الإيمان وذات مضامين إيمانية.
أما الأمة التي تتحدد “الجنسية” فيها طبقا لعصبيات فلا تكون “ثقافتها” إلا مثلها. وهذا يفسر التناقضات القائمة في الأقطار الإسلامية المعاصرة، والفصام الحادالقائم بين انتماءاتها الإسلامية وممارساتها الاجتماعية والسياسية والإدارية والأخلاقية، وسائر مظاهر شبكة العلاقات الاجتماعية القائمة فيها. وهو أيضا سبب العلاقات السلبية المتفجرة بين حكومات هذه الأقطار والجماعات العاملة في الحقل الإسلامي.
7- تفنيد التطبيقات المخالفة ل “الهوية” و”الجنسية” و”الثقافة” الإيمانية كالجنسيات والثقافات الإقليمية القائمة في ديار المسلمين وما ينتج عنهامن ممارسات إدارية وسياسية خاصة في قضايا الحدود وشؤون الهجرة والإقامة والسفر والعمل والتملك -والتي تنتهي في أحوال عديدة- إلى انفجار الفتن بين “مزق” الأمة الإسلامية.
وخلال تفنيد هذه التطبيقات الخاطئة لابد من التبصير بالتوجيهات النبوية التي تدرج هذه “الجنسيات” و”الثقافات” العصبية في قائمة الكبائر المخلدة في النار( الطبري، التفسير، ح 5، ص 37ـ 83.)، وتوضيح أشكال التخريب الذي قامت به النظم و المناهج التربوية والمؤسسات الإعلامية ودور النشر والصحافة في العالم الإسلامي منذ قرن أو أكثر من أجل ترسيخ “الجنسيات” و”الثقافات” التي أملاها المستعمر غير المسلم على الإنسان المسلم، واستمدها له من عصبيات القبلية والإقليم والقومية، وأحلها محل “جنسية” الإيمان و”ثقافة” الإسلام، ثم أوقف الإنسان المسلم تحت راياتها ينشد باسمها الأناشيد الوطنية، ويقاتل في سبيلها أخاه المسلم، وهو يحسب أنه يقاتل في سبيل الله. ولقد عطلت هذه “الجنسيات” و”الثقافات” العصبية، فاعلية”جنسية الإيمان” و”ثقافته” ودحرتهما من ميدان الحياة الاجتماعية والتطبيقات الإدارية والسياسية والولاءات العملية إلى دائرة الانتماء النظري، لتستثمر عند الحاجة لها، من أجل نصرة “جنسيات” و”ثقافات” العصبيات العائلية والقبلية والطائفية والإقليمية والقومية.