قال تعالى : {وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، قالوا تاالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين، قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله مالا تعلمون} (يوسف : 84-86).
درس يعقوبي بليغ في عدم الشكوى إلا إلى الله، ولكن، إنما يفهم الدرس، ويعيه جيدا من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فلقد توالت على يعقوب عليه السلام الهموم والأحزان، وبكى حتى سقط حاجباه، وابيضت من الحزن عيناه، على فلذتي كبده، وقطعتي لحمه ودمه : يوسف وأخيه، وتوالت السنون والأعوام، ثقيلة وطويلة، ويعقوب لا يبث شكواه وأحزانه إلا إلى الملك العلام دون أن ييأس من فرج الله أو يقنط من رحمة مولاه لحظة واحدة.
ويعلمنا النبي الدرس من جديد في مواقف كثيرة، وحالات عديدة، وكمثال على ذلك أنه مكث بين أهل الطائف عشرةأيام يدعوهم إلى الله فلم يتبعه أحد، وإنما طالبوه بالخروج من بلادهم، وأغروا به سفهاءهم ومجانينهم وصبيانهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به ويرمونه بالحجارة حتى سالت عراقيبه بالدماء، ورموه بكلمات سفه جارحة. فامتلأ قلبه هما وغما وحزنا لما لقيه من أهل الطائف من قسوة وغلظة وشدة، ولكن هل شكا حاله لأحد غير الله سبحانه؟ إنه لم يفعل، بل قال : “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين, أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك”.
هذه ـ إذن ـ سنة الأنبياء، وهذا هديهم، ولذلك لما مر عمر بن الخطاب] وهو في صلاةالصبح بهذه الآية :{إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} بكى بكاء شديدا، لأنه استحضر أحزانه وأشجانه وهموم أمته المختلفة، وعرف أنه لا ينبغي له أن يشكوها إلا لله الواحد الأحد. ذكر أبو عبيد أن عمر صلى صلاة الفجر، فافتتح سورة يوسف، فلما انتهى إلى قوله تعالى {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} بكى حتى سُمع نشيجه من وراء الصفوف وقال عبد الله بن شداد : “سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ {إنما أشكو بثي وحزني إلى ا لله}.
لقد بكا عمر]، وهو يبث همومه وأحزانه، ويشكو إلى الله حاله وأحزانه فماذا نقول نحن في هذه الأيام الحالكة السواد؟ ولمن نشكو هذه الحالة الشديدة السوء؟
أظن أخي الكريم ـ أننا قد وعينا الدرس، وانتفعنا بالموعظة، فالصالحون لا يشكون همومهم وأحزانهم -سواء منها الخاصة والعامة- إلا إلى الله، فهلم نشكو إلى الله أحوالنا، ونبث أحزاننا، بقلوب مكلومة، وأعين دامعة، ونحن نسجد لله ونركع، وندعو ونتضرع تماما كما كان سيدنا عمر ].
هلم أيها المكلومون البكاؤون المستضعفون في الأرض، هيا بنا نشكو إلى الله في جوف الليل في ركيعات نسجد فيها لله سبحانه ونقول بألسنتنا وأعيننا وقلوبنا وكل جوارحنا : ربنا إليك نشكو ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وهواننا على الناس.
ربنا كثرت همومنا، واشتدت أحزاننا، وتنوعت مشكلاتنا، وعظمت مصائبنا، وتعدد بلاؤنا. ربنا هذه دماؤنا في كل مكان أودية جارية، وجراحنا خطيرة غائرة، وأوطاننا مستباحة، ربنا هذه عوراتنا مفضوحة، وظهورنا مكشوفة، وعساكرنا مهزومة.
ربنا هذا ديننا غريب في أرضه، يسب ويشتم بين أهله وذويه، ويستهزأ به ويسخر منه ومن أهله في أرض حملته مآت السنين وحمته، وكانت به لا بغيره مآت السنين.
فاللهم يا كاشف كرب المكروبين، ويا مفرج الهمم عن المهمومين، ويا مجيب السائلين. يا من رددت على يعقوب بصره، وجمعته بولديه وفرجت عن نبينا محمد همه وغمه، وفتحت له الطائف ونصرته، ندعوك ونرجوك ونسألك أن تكشف هموم أمتنا، وترفع أحزانها، وتدفع الشر والسوء عنها، وتغير حالها إلى أحسن حال، يا من لا يُسأل غيره ولا يلجأ إلا إليه، يا أرحم الراحمين.