{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}(الأحزاب: 23). صدق الله العظيم.
لقد ودعت اليوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وودعت فلسطين كلها -سلطة ومقاومة- بل ودعت الأمة العربية، والأمة الإسلامية رجلا من رجالاتها، والرجال قليل، إنه الشيخ أحمد ياسين، الذي عاش عمره للدعوة والجهاد، ونذر حياته للنضال من أجل تحرير وطنه من الاحتلال الصهيوني الغاشم. وأسس حركة (حماس) لتقوم بدورها في الجهاد، وقضى في السجن ما قضى من سنوات وهو صابر مرابط، لا يهن ولا يستكين، وكان قد حدد غايته بوضوح، وهي: ضرب الاحتلال ودحره بكل ما يمكن من قوة، وعدم الخروج بهذه العمليات عن دائرة فلسطين كلها، وتحريم توجيه السلاح إلى صدر فلسطيني. فالدم الفلسطيني حرام حرامحرام. وكان هذا الرجل القعيد الأشل يزلزل الكيان الصهيوني، ويرعب قادته العسكريين والسياسيين وهو جالس على كرسيه لا يستطيع أن يفارقه إلا بمعين.
إن رجولة الرجال لا تقاس بقوة أجسامها، بل بقوة إيمانها وفضائلها. وقد قال تعالى عن المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ}(المنافقون: 4)، وقال العرب في أمثالهم: ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل؟
إن استشهاد الشيخ أحمد ياسين بهذه الصورة المروعة، وهو خارج من مسجده بعد أداء صلاة الفجر، ومعه ثمانية آخرون استشهدوا، وآخرون جرحوا، إن هذا الحادث الجلل ليحمل إلينا وإلى الأمة دروسا يجب أن نعيها:
1- أولها: أن الرجل باستشهاده قد حقق أمنية كان يطلبها لنفسه من ربه، كما يطلبها كل مجاهد مخلص: أن تختم حياته بالشهادة، وهل هناك ختام أغلى وأعظم من هذا الختام؟
سمع النبي رجلا يقول: اللهم آتني أفضل ما آتيت عبادك الصالحين! فقال له: إذن يعقر جوادك، ويهراق دمك!
فهذا أفضل ما يؤتيه الله عباده الصالحين.
ولو كان أحمد ياسين ينشد السلامة، ويحرص على الحياة، لاستطاع أن يتجنب الصلاة في المساجد، ولا سيما صلاة الفجر، وأن يغير مكانه من بيت إلى بيت، ولكنه أصر على أن يؤدي الصلوات في الجماعة، فجاء مقتله بعد أن أدى فرضه، وأرضى ربه، ولقيه متوضئا مصليا راكعا ساجدا، راضيا مرضيا. وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ . سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ . وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ}(محمد: 4- 6). وإنا لنتمنى وندعو ربنا أن يختم لنا بما ختم به لأحمد ياسين.
2- وثاني الدروس: أن موت أحمد ياسين لن يضعف من المقاومة، ولن يطفئ شعلتها، كما يتوهم (شارون) وعصابته في دولة الكيان الصهيوني، بل سيرون بأعينهم أن النار ستزداد اشتعالا، وأن أحمد ياسين ترك وراءه رجالا، وأن كل الفصائل ستثأر لأحمد ياسين، وكلها توعدت إسرائيل: كتائب القسام، وسرايا القدس، وكتائب شهداء الأقصى، وكتائب الشهيد أبو علي مصطفى، ومناضلو الجبهة الشعبية، وكل أبناء فلسطين: وحدتهم المحنة، ووقفوا صفا واحدا ضد المجرمين السفاحين. إن دم الشيخ ياسين لن يذهب هدرا، بل سيكون نارا ولعنة على إسرائيل، وحلفاء إسرائيل {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}(الشعراء: 227).
ولقد جربت إسرائيل القتل والاغتيال للقادة من قديم: جربته في لبنان (أبو يوسف النجار ورفاقه)، وجربته في تونس (أبو جهاد وأبو إياد)، وجربته في فلسطين: قتلت يحيى عياش، وفتحي الشقاقي، وأبو علي مصطفى، وصلاح شحادة، وإسماعيل أبو شنب، وغيرهم وغيرهم، فلم تتوقف المقاومة، ولم تسكن ريح الجهاد، بل حمي الوطيس أكثر مما كان.
وكيف لا وقد علمنا القرآن أن المسلم لا يقاتل من أجل شخص، ولو كان هو رسول الله ، بل يقاتل من أجل مبدأ ورسالة، ولهذا حين أشيع نبأ قتل الرسول الكريم في غزوة (أحد) وفت ذلك في عضد كثير من المسلمين نزل قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}(آل عمران: 144).
وضرب لهم مثلا بما حدث لأصحاب الدعوات قبلهم {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ – وفي قراءة قُتل – مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}(آل عمران: 146).
إن الشعب الفلسطيني البطل شعب ولود، كلما فقد بطلا، ولد بطلا آخر، بل أبطالا يخلفونه ويحملون رايته، ولن تسقط الراية أبدا،وما أصدق ما قاله الشاعر العربي قديما:
إذا مات منا سيد قام سيد
قئول لما قال الكرام فعول!
3- وثالث الدروس: أن إسرائيل قد طغت واستكبرت في الأرض بغير الحق، وأمست تقترف الجرائم البشعة كأنما تشرب الماء، فهي في كل صباح ومساء، تعيث في الأرض فسادا، وتهلك الحرث والنسل، تسفك الدماء، وتقتل الأبرياء، وتغتال النجباء، وتذبح الأطفال والنساء، وتدمر المنازل، وتجرّف المزارع، وتقتلع الأشجار، وتنتزع الأرض من أصحابها بالحديد والنار، وتقيم الجدار العازل على الأرض الفلسطينية عنوة، جهارا نهارا، وقد توجت جرائمها المستمرة بهذه الجريمة النكراء، أم الجرائم، اغتيال الرجل القعيد المتطهر المصلي بتخطيط من شارون وإشراف منه. فهي تجسد إرهاب الدولة بأجلى صوره.
وهذا نذير ببداية النهاية للطغاة، فإن ساعتهم قد اقتربت، فإن الطغيان إذا تفاقم، والظلم إذا تعاظم: يسوق أصحابه إلى الهلاك وهم لا يشعرون {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(الأنعام: 44- 45).
4- ورابع الدروس: أن أمريكا شريكة في المسئولية عن هذه الجريمة وما سبقها من جرائم، فإسرائيل ترتكب مجازرها بسلاح أمريكا، ومال أمريكا، وتأييد أمريكا. وهي لا تقبل أن تؤدَّب إسرائيل، أو تدان أو توجه إليها كلمة لوم، وإلا فإن (الفيتو) الأمريكي بالمرصاد.
ولو كنت قاضيا يحكم في هذه الجريمة، ويحاكم القتلة والجناة فيها، لكان المتهم الأول عندي فيها هو الرئيس (بوش). فهو المحرض الأول على الجريمة، وهو الذي أعطى المجرم السلاح، وهو الذي يَعتبر المجرم القاتل مدافعا عن نفسه.
بوش هو الذي أفتى شارون وعصابته بأن (المقاومة الفلسطينية إرهابية) وفي مقدمتها حماس والجهاد، ومعنى أنها إرهابية: أنها تستحق القتل، وأن لا عقوبة على من قتل الإرهابيين. وهكذا قال نائب وزير الدفاع الإسرائيلي: إن أحمد ياسين كان ممن يستحق القتل.
هذا هو منطق أمريكا وإسرائيل، أو منطق بوش وشارون: أحمد ياسين إرهابي مجرم يستحق القتل؛ لأنه يدافع عن وطنه، عن أرضه وعرضه، عن منزله ومزرعته وشجرة زيتونه، عن حرماته ومقدساته. أما شارون القاتل السفاح، فهو ضحية مسكين، لا يمكنه الفلسطينيون الأشرار من أن يلتهم كل ما يريد من أراضيهم.
5- وخامس الدروس: أن لا أمل فيما سموه (مسيرة السلام) و(مفاوضات السلام) فإن كل راصد للأحداث بحياد وإنصاف: يستيقن أن إسرائيل لا تريد سلاما حقيقيا: سلاما عادلا شاملا، يرد الحق إلى أهله، ويقف كل امرئ عند حده. إنها لا تعترف إلا بمنطق القوة، ولا تفهم إلا لغة الحديد، ولا تتكلم إلا بلسان النار. وإنما تلهي الفلسطينيين والحكام العرب بهذه الوعود الكاذبة، والأماني الزائفة، والسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
لقد عرفنا بالممارسة والتجربة أن ما أخذ بالقوة لا يرد إلا بالقوة، وأن الخيار الوحيد للفلسطينيين هو خيار المقاومة، والبديل عن المقاومة هو الاستسلام الخاضع لإسرائيل، ولا حد لأطماع إسرائيل. البديل للمقاومة هو الموت.
6- وسادس الدروس : أن على الفلسطينيين جميعا أن يتحدوا: وطنيين وإسلاميين، سلطة ومقاومة، فإن عدوهم يضرب الجميع، ويتحدى الجميع، ولا تدري الضربة القادمة إلى من توجه؟ قد يكون الضحية القادمة عرفات، وقد يكون غيره من القادة، فليضع كل منهم يده في يد أخيه. وليكن شعارهم قول الله تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ}(الصف: 4).
7- وسابع الدروس: أن على العرب أن يصحوا من سكرتهم، وأن يخرجوا من كهفهم الذي ناموا فيه طويلا، ليؤدوا ما عليهم نحو إخوانهم، بل نحو أنفسهم، فقضية فلسطين قضية الأمة كلها، للأسف الشديد، لم يعد الصراع عربيا إسرائيليا كما كان، بل أصبح فلسطينيا إسرائيليا، أما العرب فغائبون {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}(الحجر: 72). دافع العرب عن فلسطين سنة 1948 وكانت الجامعة العربية وليدة عمرها ثلاث سنوات، مكونة من سبع دول، فلما قارب عمرها الستين، وزاد عددها على العشرين دولة، تخلت عن دورها، ونكصت على عقبها، وتركت الفلسطينيين وحدهم يقاومون بصدورهم وأيديهم أكثر ترسانة عسكرية في الشرق الأوسط، مؤيدة بالإمكانات الهائلة القاتلة.
8- وثامن الدروس: يتعلق بالأمة الإسلامية حينما ارتفعت المآذن معلنة بالتهليل والتكبير: أن على الأمة الإسلامية واجبا نحو أرض الإسراء والمعراج، نحو القدس الشريف، ونحو المسجد الأقصى، الذي بارك حوله، أن الأقصى ليس ملك الفلسطينيين وحدهم، حتى يكلفوا بالدفاع عنه دون سائر الأمة.
لقد اغتصب المسجد الأقصى قديما من الصليبيين، وبقي أسيرا في أيديهم نحو تسعين عاما، وكان الذين هبوا لنجدته وتحريره من أجناس وألوان شتى من المسلمين: عماد الدين زنكي التركي، وابنه نور الدين محمود، وتلميذه صلاح الدين الأيوبي الكردي، والظاهر بيبرس المملوكي، وغيرهم. و(المسلمون أمة واحدة يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم). وفرض عليهم أن يتضامنوا ويتلاحموا حتى يحرروا أرض الإسلام، ومقدسات الإسلام، ويدافعوا عن حرمات الإسلام.
وإن استشهاد الشيخ أحمد ياسين لهو نذير لهم: أن يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا، وأن يسمعوا صوتهم، واحتجاجهم بالبرقيات والمسيرات وصلاة الغائب. إننا ننادي العرب والمسلمين جميعا: أن يقفوا بجانب إخوانهم في أرض النبوات، يمدونهم بكل ما يمكنهم من الدفاع عن أنفسهم وذراريهم، وما يقدرهم على العيش بالحد الأدنى، فحرام على العربي وعلى المسلم أن يأكل ملء بطنه، وينام ملء جفنه، وإخوانه لا يجدون ما يمسك الرمق. إن الصهاينة وحلفاءهم الأمريكيين أرادوا أن يجففوا كل المنابع التي تمدهم بالقليل من المال، وعلينا أن نفشل خططم، ونحبط كيدهم، ونوصل إليهم ما يعينهم على البقاء والجهاد.
9- وتاسع الدروس وآخرها: يتصل بالأحرار والشرفاء في أنحاء العالم، هؤلاء الذين خرجوا بالملايين في مسيرات غاضبة من أجل الحرب على العراق، يتحدون أمريكا وحلفاءها، هؤلاء الشرفاء مطالبون أن يعلنوا سخطهم على الجرائم الصهيونية الشنيعة، التي تصابح الفلسطينيين وتماسيهم، ولا تدع لها زرعا ولا ضرعا، وآخرها اغتيال الشيخ القعيد على كرسيه بلا رحمة ولا شفقة.
كما ننادي المؤسسات والهيئات العالمية -وعلى رأسها مجلس الأمن- أن يقوموا بواجبهم في فرض الشرعية الدولية على الصهاينة الذين يضربون عرض الحائط بكل الأخلاق والأعراف والقيم والقوانين.
وختاما نقول للصهاينة: لقد ارتكبتم الفعلة التي لا يغفرها أحد لكم، وإن في ذلك لبشرى لنا، وتدميرا لكم، ورب ضارة نافعة. وعلى الباغي تدور الدوائر. وإن مع اليوم غدا، وإن غدا لناظره قريب. “وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}(هود: 102).