أهل مولود المدونة الجديدة في ظروف استثنائية وطنية وعالمية، ولو تزامنت مع ظروف غير هذه لكان لها شأن آخر، ولكن قدر الله وما شاء فعل.
ولقد اختلفت ردود الأفعال حول المدونة الجديدة، فهلل لها مَنّ ضَالَّتُهُم التهليل لكل وافد جديد، واستبشر بها خيرا أهل مصالح، وتطير بها آخرون، وسكت عنها قطاع عريض من الشعب، كما أشبعتها وسائل الإعلام تقريظا، وندر في حقها القدح فهل يتسع صدر المدونة الجديدة لبعض التعقيب من باب حب الوطن من الإيمان إذا صح ذلك عذرا للتعقيب.
فأول ما يلفت النظر في هذه المدونة هو طغيان الخطاب الترهيبي الصادر عن وازع القانون في العديد من موادها على حساب خفوت الخطاب الترغيبي الصادر عن الوازع الديني علما بأنه من لم يضبطه تدينه فلا ضابط له.
الــــــــولايـــــة
وإذا ما سلطنا الضوء على بعض مواد هذه المدونة من خلال الوازع الديني ووازع القانون ووازع التقاليد فستواجهنا التأويلات المتباينة والتنزيلات المختلفة باختلاف الوازع حيث يكون لها فهم عند المتدين يختلف عن فهم المقلد، وعن فهم الخائف من زجر القانون. فقضية الولاية مثلا -وهي قضية خلاف- تطرح إشكالية معقدة، ذلك أن ديباجة مادتها (الولاية حق للمرأة) توحي بأن هذا الحق كان للرجل من قبل، والأمر خلاف ذلك إذ لا يستفيد الرجل من الولاية شيئا، وأنها حق للمرأة مذ كانت، لأنها تنتزع منها المصداقية وبها تحفظ الكرامة، فكم من أزواج يعرضون عن عديمة الولاية للريبة !! والغريب أن تطرب المرأة عندنا لهذا الحق الجديد القديم ظانة أن التصرف فيه عن طريق صيغة إلغاء الولاية فتح وانتصار يجعل حياتها الزوجية سمنا يخلط بالعسل، والحقيقة أنها مخطئة كل الخطأ لأنها تدمر بإلغاء الولاية صمام أمان، وقاعدة خلفية خصوصا إذا ما تحول سمن الحياة الزوجية وعسلها إلى علقم بعد أسبوع (الباكور) على حد تعبير المغاربة، إن وجود الولي في حياة المرأة عبارة عن سلطة معنوية تقف دون جور الأزواج في كل أطوار الحياة، وليست مجرد تأشيرة للدخول إلى القفص الذهبي قبل أن يستحيل إلى أغلال ثقيلة. فكم من حياة زوجية حالفها النجاح بسبب ولاية رشيدة، أو ولاية مهيبة الجناب، أو ولاية جديرة بالاحترام. وعندما نضع هذا الحق بين يدي امرأة يحكم زمام أمرها الوازع الديني، فإنها ستحسن توظيفه بالحرص على ولاية تصون كرامتها من جهة وتحقق تدينها من جهة أخرى وهي العارفة ببطلان الزواج دون ولاية شرعا، فالقضية إذن قضية ضمير لا قضية قانون أو تقاليد. وعندما نضع هذا الحق بين يدي امرأة يحكم زمام أمرها وازع التقاليد فإنها ستحرص أيضا على الولاية اتقاء للقالة وتجنبا للتهمة، وبحثا عن المصداقية، ولا يكون لها حينئذ خيار حسب تنصيص عبارة المدونة، بل تكون الولاية إكراها وضرورة تمليها التقاليد. وشتان بين املاءات التدين واملاءات العادة !! ولقد سألت بعض العدول الفضلاء عن حال المتزوجات مع موضوع الولاية بعد المدونة الجديدة فأخبرني أنه ما تقدمت لحد الساعة راغبة عن الولاية إما لوازع الدين أو لوازع التقاليد.
وعندما نضع هذا الحق بين يدي المرأة المعولة على سلطة القانون فإنها لا تخلو من حالتين: إما أن تختار الولاية فلا تختلف حينئذ عن مثيلاتها من ذوات الوازع الديني أو وازع التقاليد، وإما أن تلغي الولاية فتعرض تدينها للضرر بمخالفة نص الحديث وتعرض مصلحتها للضرر أيضا حيث تفقد قاعدتها الخلفية في حال تعثر حياتها الزوجية، وأقصى ما يقدمه لها القانون أن تخرج من حياتها الزوجية المتعثرة كما دخلتها وحيدة لا يساندها أحد، ولا يشاطرها المرارة والندامة أحد.
وقد يكون إلغاء الولاية هو مخرج المرأة المنبوذة التي تتنكرلها الولاية نفسها لسلوك مشين، وحينئذ تفقد حقها في الولاية ولا يكون أمامها إلا خيار وحيد مع إقدامها على مغامرة زواج دون قاعدة خلفية توفر لها المصداقية أو الحماية أو المؤازرة خصوصا وأنها منبوذة بدون ولاية داعمة.
ومن الغريب أن يعتبر إلغاء الولاية مكسبا مع أنها السر وراء إقبال كثير من الأزواج على الزواج بسببها طمعا ورغبة في الولاية نفسها لا في الزوجة !! إذ يرغب الكثيرون في الإصهار إلى الأثرياء والأقوياء وأصحاب الامتيازات طمعا فيهم لا حبا في بناتهم.
والضرر إنما يلحق المرأة بإلغاء الولاية لأن وازع التقاليد قد يصنف عديمة الولاية في مرتبة لا تستوجب الاحترام بل ربما تخدش الكرامة، فيعتبر حينئذ زهدها في الولاية عبارة عن صرف الأنظار عن انحراف أو تستر على فضيحة، ومما يؤكد هذا الأمر تردد العديد من المراهقين والمراهقات على مكاتب العدول للاستفسار عن أمر الولاية كما أخبرني أحد العدول الفضلاء أيضا، ذلك أن زوال الولاية في نظر هؤلاء هو مؤشر على إباحة العلاقات غير الشرعية، أو على الأقل هو زوال حاجز يقف دونها خصوصا في حال تصحيح الخطأ بعد حصول المحظور -لا قدر الله- . فزوال الولاية إذن عبارة عن إغراء لأصحاب النوايا المشبوهة فأحرى بالولاية أن تكون حقا للمرأة وصمام أمان لها، وقاعدتها الخلفية.
وكقضية الولاية قضية التعدد التي طالها الحيف حيث تكشف ديباجة مواد التعدد في المدونة عن تحكم وازع القانون فيها مع تغييب الوازع الديني. لقد قيد التعدد بأمرين أولهما الخوف من انعدام العدل، والثاني شرط عدم التزوج على الزوجة الأولى، فأما الخوف من انعدام العدل فمرده في الحقيقة إلى الوازع الديني لأنه مرتبط بما يعرف بالعدل القلبي الذي يخشى فيه الميل وهو المستهدف بقوله تعالى : {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة}(النساء : 129)، فالمقصود في الآية هو العدل القلبي، والمطلوب هو تجنب كل الميل ما دام بعض الميل لا مندوحة عنه وهو السبب في عدم استطاعة العدل الذي تأوله البعض تأويلا غريبا ينم عن سبق إصرار لمنع التعدد، وأما العدل المادي فأمره أهون من أمر العدل القلبي وهو في متناول الاستطاعة.
ومع أن القضية تعود إلى الوازع الديني حيث يتحكم تدين المرء في موضوع العدل، فإن المدونة ركزت من خلال ديباجة مواد التعدد على العدل المادي من خلال الإشارة إلى قضية الإقرار بالوضعية المادية للمعدد، ولم تتضمن أدنى إشارة إلى الإقرار بالوضعية القلبية له، وأما ما سمي بالمبرر الموضوعي والاستثنائي للتعدد فهو ذو صلة بالأمور المادية لا القلبية إذ لا مجال للحديث عن الموضوعية في المجال العاطفي، كما أن لفظة استثنائي تشم منها رائحة المادة ما دامت الوضعية المادية تبيح التعدد، وهنا يصير التعدد بموجب المال امتيازا يكرس الطبقية في مجتمع لا تقر عقيدته بالميز، فيحرم من لحقته لعنة الفاقة في هذه الحياة من حق التعدد، وإن كانت المدونة لم تسمه حقا كما سمت الولاية حقا مع أنه حق حقيقة بيد الرجل والمرأة معا.
منع التعدد ضرر محقق
وأما شرط عدم التزوج على الزوجة الأولى وهو ثاني موانع التعدد فيفتقر إلى مصداقية لخلوه من قيود تقيده على غرار بعض مواد المدونة ذلك أن صاحبة هذا الشرط يشترط فيها الكمال والخلو من العيب، والكمال لله وحده.
وإن هذا الشرط بقدر ما يوهم بالمصلحة يتضمن الضرر إذ يكون لفائدة من هو بحوزتها وضد من لا تحوزه من النساء في حال التعدد الذي هو حق للرجال والنساء خلاف ما يعتقد الكثيرون عندما يجعلونه حقا للرجال دون النساء والحقيقة أنه حق لكل النساء بعد الزوجة الأولى ممن لهن الرتبة الثانية فما دونها.
وعندما تعرض قضية التعدد على معيار الوازع الديني ووازع التقاليد، ووازع القانون نجد أن المخرج من إشكالها لا يتأتى إلا مع الوازع الديني حيث يحول هذا الوازع دون ما يتسبب فيه وازع القانون أو وازع التقاليد من فساد وانحراف بسبب منع التعدد، فالممنوع من التعدد بموجب التقاليد أو القانون -في حال ضعف التدين- معرض لا محالة للانحراف ويعرض بانحرافه المجتمع للانحلال. وقانون منع التعدد عبارة عن إهدار لحق النساء قبل إهدار حق الرجال حيث تحرم كل زوجة تأتي بعد الزوجة الأولى في الرتبة من الحق في الزواج خصوصا في حال انعدام وجود الزوج غير المتزوج الذي يرغب فيها، وهو أمر لا يأتي لكل النساء. وإن وجود بدائل من العلاقات غير الشرعية في حال منع التعدد لا قدرة للقانون على منعها في حين بوسع التدين أن يمنعها.
ومنع التعدد بالصيغة الواردة في المدونة الجديدة يقتضي أن يكون المشرع قد أحصى ذكور الأمة وإناثها عددا فوجدهم بمعدل ذكر لكل أنثى مع تعطيل زواج المطلقات والأرامل ومع جعل الطلاق أصلا والزواج استثناء.
وإن الوازع الديني هو وحده الكفيل بضبط التعدد إذ لا يقبل عليه الرجل إلا وهو يحذر ظلم الميل كما أشارت إلى ذلك الآية الكريمة، بدافع الضمير، ولا تقبله المرأة إلا وهي تحتسب على الله أجر إيثار غيرها من النساء على نفسها. أما وازع التقاليد فإنه يرى في التعدد مظلمة نسائية باعتبار الزوجة الأولى دون اعتبار غيرها من الزوجات، لهذا يلصق اسم الضرة بصاحبة الترتيب الثاني في الزواج للتعبير عن هذه المظلمة الموهومة. وأما الوازع القانوني فأمره أغرب إذ يبرر التعدد بوجود وضعية مادية مقبولة ويرفضه بدونها دونما احتفال بأمر العدل علما بأن الوضعية المادية المقبولة قانونا ليست بالضرورة عدلا.
ولعل أمر التعدد أن يكون كما أراد له الله تعالى ذلك فهو من الأمور القلبية الموكولة إلى التدين بالضرورة، ولا جدوى فيه لقانون، أو عادة أو تقليد، كما أن منعه بسلطة القانون أو سلطة التقاليد يسبب مفسدة تلافاها الدين أصلا بترخيصه، وبجلب منفعة لم يحتفل بها القانون ولا التقاليد.
وأخيرا هذه بعض نماذج المثالب المسجلة على المدونة الجديدة قبل أن يفرز الواقع غيرها لأن التعسف في التشريع يولد حتما التعسف في التطبيق وتختل بذلك الموازين في حياة لا تستقيم بغير شرع الله عز وجل.