2- آفة الساعات الإضافية
أذكر أني حينما كنت تلميذا بالثانوي في السبعينات، استمعت إلى شريط لأحد الوعاظ من مصر يذكر فيه مساوئ الأخلاق التي كانت بدأت تتفشى في مصر آنذاك، ومن بينها تلك الأخلاق السيئة التي تنتج عما يعرف عندهم ب “الدروس الخصوصية”، حيث يذهب التلميذ منفردا أو التلميذة منفردة إلى بيت “الأستاذ”، أو يأتي الأستاذ إليهما، ليعطيهما “دروسا خصوصية”. وإذا كان الانفراد بالتلميذ اليافع أو الشاب، قد لا يسبب أي مشكلة، فإن الانفراد بالتلميذة المراهقة أو الشابة لا يمكن أن يكون عاديا. إنه بالتأكيد سيحصل ما يحصل من مساوئ الأخلاق وعظيم المنكرات.
لا أقصد ما قصده الواعظ المصري من أن “الدروس الخصوصية” أو “الساعات الإضافية” هي آفة من حيث أنها تقود إلى مساوئ الأخلاق، وإن كان ذلك ليس ببعيد في عدد من الحالات. وإنما أقصد أنني كنت في تلك المرحلة وأنا في الثانوي كنت أحمد الله على أن عصم بلادنا من آفة الدروس الخصوصية وما يترتب عنها، لأني ومع كافة زملائي وفي التخصصات العلمية والأدبية على حد سواء، لم نكن في جميع المستويات نعرف لمصطلح “الساعات الإضافية” معنى، لأن المفهوم لم يكن موجودا أصلا. ولم نكن نفكر في ذلك إطلاقا، ربما لأن مستوانا في ذلك الوقت وحماسنا لم يكن يدفعنا إلى الشعور بنقص، ربما لأننا كنا متآزرين متعاونين فيما بيننا، لأن كل تلميذ متفوق في مادة معينة يساعد زملاءه الآخرين. لكن لا أظن أن هذا هو السبب؛ فروح التعاون والتآزر ما زالت موجودة بين التلاميذ، والحماس ما زال متقدا بين الأغلبية منهم. الفرق الذي يمكن أن يلاحظ يبدو في أمرين :
- الأمر الأول هو الاكتظاظ الحاصل في العديد من الاعداديات والثانويات مقارنة مع واقع الحال قبل عشرين سنة.
- الأمر الثاني هو أن معظم الأساتذة الذين كانوا يدرسون الرياضيات والعلوم الفرنسية واللغات الأجنبية الأخرى، كانوا غير مغاربة. كان معظمهم فرنسيين، واسٌتُعِين لفترات بأساتذة من أوربا الشرقية.
وهذا الفرق ليس هو الآخر جوهريا، وإنما الفرق الذي أراه وأشعر به بين مرحلة التلمذة والتعلم في السبعينات ومرحلة الأبوة والتدريس في هذه السنوات الأخيرة، هو أن أي أستاذ في ذلك الوقت لم يكن يفكر أو يدور في خلده أن يقترح أو يوجه أو حتى يلمح أو يشير إلى الساعات الإضافية، بله أن يفرض على التلاميذ ذلك، أو يجعلها سيفا مسلطا على رقاب التلاميذ والآباء على حد سواء، كما هو الحال الآن وكما نشاهد ذلك ونلمسه نهارا جهارا، قسرا وقهرا. فالمتتبع لواقع التدريس الاعدادي والثانوي على حد سواء، يلاحظ عدة أمور منها ما يلي :
- أن مفهوم “الساعات الإضافية” فقد مدلوله الحقيقي، فبعد أن كان المقصود من هذه الساعات هو تقديم الدعم للتلاميذ ذوي المستوى الضعيف أو المتوسط أصبح مفهوم الساعات وسيلة لقهر التلاميذ وابتزازهم من قبل بعض ضعاف النفوس من المدرسين، الذين لا يقدرون مهنتهم حق قدرها، ويعطون صورة سيئة عن عامة رجال التعليم الذين يضحون بالنفيس من أجل تقدم التعليم ببلادنا.
- حتى هذا القهر والابتزاز ليس بهدف شرح الدروس وتوضيح ما عسر فهمه منها للجميع بعد أن “تعذر” فعل ذلك داخل القسم، ولكن من أحل الحصول على نقط عالية، تدفع الجميع إلى التسجيل في الساعات الإضافية.
- بعضهم لا يتورع من أن يصارح التلاميذ مع افتتاح السنة، بأن ينقسموا إلى مجموعات من أجل الساعات الإضافية، مع فرض تعريفة معينة ليس فيها أي تخفيض، حتى وإن كان الأمر يتعلق بشقيقين.
- تتوصل جمعيات الآباء والإدارات برسائل لا تحمل أسماء أصحابها، وتتحدث عما يجري في المؤسسات التعليمية من “بيع النقط” عن طريق الساعات الاضافية، بدعوى أن الرسائل مجهولة المصدر وليس هناك قانون معين في الموضوع.
- كل الآباء، أو جلهم على الأقل، يشتكون من الواقع المر الذي تشهده معظم المؤسسات التعليمية نتيجة فرض الساعات الاضافية على التلاميذ، ولكنهم لا يستطيعون فعل أي شيء، خوفا على أبنائهم من أن يتعرضوا إلى انتقام تربوي من قبل من يتاجرون في “الساعات الإضافية”.
- إن النقط العالية التي يحصل عليها التلاميذ الذين يخضعون للساعات الاضافية تدفع زملائهم الآخرين للتسجيل في هذه الساعات حتى يحصلوا على نقط عالية. ليس لأن هذه الساعات تحل المشكل ولكن الأجر المدفوع هو الذي يحل المشكل.
بقي أمر مهم أود أن أشير إليه في خاتمة هذه الكلمات، وهو أنني لست ضد “الساعات الاضافية” من حيث هي ساعات لتقديم الدعم للتلاميذ الضعاف. ولكني ضد اتخاذ هذ ه الساعات سيفا مسلطا على الجميع، كما سبق الذكر. ولذلك أدعو إلى تبني الإدارة لهذه الساعات وتنظيمها وفق طريقة تحفظ كرامة الأستاذ من السمعة السيئة، وتضمن للتلاميذ حق الدعم التربوي دون ابتزاز، ولا مانع من دفع الأجر من قبل التلاميذ ما دام الأمر منظما من جانب الإدارة أو من جانب جمعية الآباء.
لا ينبغي أن يفهم من كلامي هذا أني أحط من قيمة رجال التعليم ـ أساتذة وأستاذات ـ ولكن أريد أن أبين أن رجال التعليم لهم كرامتهم ولهم مهمة شريفة يؤدونها بكل تفان. لكن قلة قليلة منهم تفسد عليهم هذه الكرامة وهذه المهمة الشريفة بالمتاجرة بالساعات الإضافية. مما يدفع من لا علاقة له بالتعليم إلى اتهام رجال التعليم جملة وتفصيلا.
ولا يفوتني أن أوجه تحية خاصة مفعمة بالتقدير والاحترام إلى أولئك الأساتذة، الذين يرفضون القيام بساعات إضافية لتلاميذ ينتمون إلى مؤسسات يعملون بها، أو إلى الأقسام التي يشتغلون بها. إلى هؤلاء أوجه لهم تحياتي القلبية وتقديراتي الكبيرة، فهم الذين يحملون المشعل الحق للتعليم والتربية، وهم الأمل في إنقاذ ما تبقى من كرامة رجل التعليم، وما تبقى من مستوى تعليمي في المؤسسات التعليمية العمومية.