يتأسس الكلام في هذه الورقات على قاعدة مهمة من قواعد بناء شخصية المسلم وإخراجه من دائرة التيه والغفلة والجهل بحق الله عز وجل عليه، بل وبحق نفسه عليه كذلك، حتى يكون ربانيا في فكره، ورساليا في سلوكه، بما يكفي ليجعله ـ فعلا ـ خليفته في الأرض، مكرما ومفضلا على كثير ممن خلق الله تفضيلا.
ولعل من أهم دوافع هذا الكلام ما نعيشه -نحن المسلمين، أفرادا وجماعات- من واقع الغثائية وتردي الأحوال، بما مكن أعداء الدين والأمة من إحكام القبضة حول أعناقنا، وجعلنا -من تم- نقاسي من مخلفات الهبوط الحضاري الخطير للأمة، ونتألم من شدة تخلفنا عن ركب الإنسانية من جهة إسهامناـ على الأقل- في توجيه العقول والقلوب معا إلى سبل البر والتقوى، بدل إصرارها على السير في طريق الإثم والعدوان.
إن من أهم مداخل استعادة التمكين لهذه الأمة، حتى نكون فعلا نحن أبناءهذا الجيل ـ ممن وصفهم الله جل جلاله بخير أمة أخرجت للناس، مَدْخَلُ إعادة بناء شخصية المسلم المعاصر بما يتوافق وتحقيق النصر الذي وعدنا الله به. فلا يحق النصر لأمة تخاذلت وخانت أمانة الشهود الحضاري ومسؤولية الخيرية؛ الأمر الذي يقتضي إعادة النظر في شخصية المسلم المعاصر بما يكفي لوضع الأصبع على مكامن الداء قبل وصف الدواء. ولا تقويم ولا تقييم ولا تشخيص بدون استحضار القرآن الكريم، الذي وصفه الله جل جلاله بالنور {قد جاءكم من الله نور} (المائدة : 17) وجعله هداية لمن يتبعه {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} (الإسراء : 10) {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} (المائدة : 17).
استتباعا نقول : إننا بقدر حاجتنا الماسة إلى النصرة من الله تعالى وعونه لنا حتى تسترد الأمة الإسلامية، التي تكالبت عليها جميع الأمم والشعوب من كل جهة عافيتها، فإننا بحاجة ماسة إلى معرفة موجبات هذه النصرة من الله وشروطها ومقومات استمرارها فينا بالشكل الذي يمنحنا عزة النفس وقوة المسلم وعالمية خطاب الوسطية الداعي إلى سبل السلام والهدى ودين الحق. وقد لا نجانب الصواب، إن قلنا: إن الله جل جلاله بين لأمة الإسلام وسائل النصرة والعزة والتمكين، وسبل المحافظة عليها على الدوام، والتي يجمعها قوله جل جلاله في آية جامعة، قال فيها مرشدا {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني، لا يشركون بي شيئا، ومن كفر بعد ذلك، فأولئك هم الفاسقون} (النور : 53)
وعلى الرغم من أن القرآن والسنة النبوية الشريفة قد بينا ـمعا ـ سبل التمكين ومعوقاته، فإننا سنخصص الكلام في هذا المقام عن مقوم مهم، قليلا ما يُنتبه إليه، بل ويمكن القول ههنا، إن عليه مدار الكل، والمقصود بذلك : محبة الله جل جلاله، والتي تدل عليها الكثير من النصوص التربوية من القرآن والسنة، وجماعها قوله تعالى : {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبا لله} (البقرة : 164).
وكذلك جمعها في قوله : “لا يجد حلاوة الإيمان إلا من كان فيه ثلاث خصال : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار”.
يظهر إذن أن محبة الله جل جلاله لبنة أساسية من لبنات بناء العلاقة المتينة به، فبها يمكن للمؤمن أن يصل إلى مقام الإحسان، فيبقى دائم الاتصال بالله والشعور بعظمته وعزته “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك” (مسلم)؛ بل وبهذه المحبة الصادقة، الخالصة من كل الشوائب، يستطيع المرء أن يحقق مطلب السير إلى الله سير الأنبياء والمرسلين والصالحين من عباده الذين قال فيهم جل جلاله “ما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إليَّ من أداء ما افترضته عليه. ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه” (البخاري).
إن محبة الله جل جلاله من لوازم العبودية الحقة له وموجباتها، حيث تدل العبادة في هذا المقام، وكما يقول ابن تيمية في كتابه العبودية، على كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة؛ وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة لله والمرضية له، التي خلق الخلق لها، وبها أرسل جميع الرسل (ص4). وهكذا فلا عبودية حقة بدون محبة المعبود. يقول ابن القيم الجوزية في كتابه (الجواب الكافي) “وإن كان أصل كل عمل من حق وباطل، فأصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله، كما أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله؛ وكل إرادة تمنع كمال الحب لله ورسوله وتزاحم هذه المحبة أو شبهة تمنع كمال التصديق، فهي معارضة لأصل الإيمان أو مضعفة له، فإن قويت عارضت أصل الحب والتصديق كانت كفرا أو شركا أكبر، إن لم تعارضه قدحت في كماله، وآثرت فيه ضعفا وفتورا في العزيمة والطلب، وهي تحجب الواصل وتقطع الطالب وتنكس الراغب، فلا تصح الموالاة إلا بالمعاداة” (ص 195).
ويقول رحمه الله في كتابه (مدارج السالكين) محبة الله : “هي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدا واصليها، وتبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها(…)” إذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسقيت بماء الاخلاص ومتابعة الحبيب؛أثمرت أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها؛ أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى. لا يزال سعي المحب صاعدا إلى حبيبه لا يحجبه دونه شيء {إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه”}.
هكذا يتبين أن مدار خطاب الله تعالى إلى جميع الخلق من بني آدم على الأمر بمحبته، حيث تخصيصه وحده بالألوهية دون غيره والتفاني في اتباع ما أمر به واجتناب ما نهى عنه؛ بل وتذكيره المؤمنين على أن محبة نبيه جزء لا يتجزأ من المحبة الكبرى لله : {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله، ويغفر لكم ذنوبكم} فتبين أن اتباع الرسول هو طريق محبة الله تعالى؛ ولااتباع بدون طاعة وتأسي به {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، لمن كان يرجو لقاء الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرا} (آل عمران : 31). فدلت الآية على الطريق الموصلة إلى الهدف، والتي جماعها ذكر الله جل جلاله، وهو العملالذي كان الرسول يداوم عليه ويوصي أصحابه عليه؛ لأنه عرف مقاصد قوله جل جلاله {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا، وسبحوه بكرة وأصيلا} (الأحزاب : 42-43) ولذلك قال : “مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت” (البخاري). إذ يؤدي ذكر الله على الدوام، بمختلف طرقه إلى استحضار عظمة الله وعزته من جهة، وإلى اطمئنان القلوب من جهة أخرى {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد : 28)، ولعل هذا الهدف الأخير هو ما تحتاجه البشرية برمتها اليوم؛ فهي دائمة البحث عن الحلول لمشاكلها من جراء محبتها للمادة والدنيا ومفاتنها وشهواتها، فكانت النتيجة لا سعادة المرء واطمئنان قلبه وسكون روحه، وإنما تزعزع كيانه النفسي بما يكفي ليجعله دائم الشقاء وعرضة لمختلف أنواع الأمراض النفسية.
إن أكثر المسلمين اليوم، إنما يعانون من نفس المرض، على الرغم من انتمائهم لدعوة الاسلام وأدائهم للصلاة والزكاة والصوم والحج والشهادتين. فما قست القلوب، وما تشتت الجماعات، وما كثر البغض والحقد والحسد، وما رسخ في كياننا حب الدنيا بالشكل القاتل، إلا بتغيير وجه المحبة من محبة الله الخالق المبدع، إلى محبة غيره، سواء محبة الذات القاتلة، أو محبة الغير من عباده، محبة مرضيةـ تجعل الفرد خاضعا لآخر خضوع ذلة وطاعة وقهر؛ وهذا ما نبه إليه كتاب الله جل جلاله، وربى النبي أصحابه تربية أعادت تكوين قلوبهم لتكون لله وحده، حتى يتحقق نصر الله.
واليوم، نحن أبناء هذا الجيل ما زلنا نرقب نصر الله ضد أعدائنا الذين تكالبوا علينا من كل ناحية، وعلى الرغم من توفرنا على جيش عرمرم من المسلمين، وقدرات طبيعية مهمة؛ فإننا نحس بالقهر والدونية وغلبة الغير، ونعيش على إيقاع التبعية لهذا الأخير. ويتساءل الكثيرون عن سبب ذل المسلمين وهم الموصوفون بالخيرية والشهادة على الناس، لكن القليلين جدا هم الذين يعرفون أن نصر الله لا يكون إلا بجند الله الذين أقاموا حياتهم، جملة وتفصيلا، على حبه في السر والعلانية، وعرفوا مغزى قوله تعالى {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} (الاسراء : 9) وقوله جل جلاله كذلك {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانو آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، رضي الله عنهم ورضوا عنه. أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون} (المجادلة : 29)