بمناسبة تحضير لجنة مركز المرأة (SCW) التابعة للأمم المتحدة لاجتماعها 48 في مقر الأمم المتحدة- نيويورك في الفترة من 1: -12 مارس 2004.. تداعت إلى ذاكرتي شجون تتعلق بأداء الحركة النسوية العربية ومشاركتها بفاعلية في المؤتمرات العالمية الخاصة بمناقشة قضايا المرأة، من خلال التحضير لأجندة أولوياتها دون الاستجابة لضغوط خارجية أو داخلية.
حيث تواردت إلى ذهني ذكريات الرحلة إلى العاصمة الصينية “بكين” في أوائل شهر أيلول/سبتمبر من عام 1995 عندما دار نقاش واسع على متن الطائرة مليء بالأسى في أوساط الوفود النسائية العربية، ونحن نقطع المسافات والساعات الطويلة، وذلك للمشاركة في المؤتمر العالمي الرابع للمرأة الذي عقد في العاصمة الآسيوية الكبرى بعد أشهر من التحضير المكثف والصاخب لفعاليات المؤتمر، والمحاولات الجاهدة من الوفود النسائية العربية، الشعبية منها بشكل خاص، للتدخل من أجل الحد من النتائج السلبية المتوقعة.
عقبات مؤثرة
فقد اعترضت طريق التحضير لهذا المؤتمر العالمي المهم عقبات كثيرة لم نكن نشهدها في المؤتمرات السابقة على المستويين العربي والعالمي؛ ابتداء من التدخلات الخارجية التي أصبحت أكثر حدة وشراسة وانتهاء بالأوضاع الداخلية العربية المفككة والضعيفة، وباختصار فقد نتج عن هذين العنصرين مناخ محفز للتحدي وخوض معارك من نوع جديد، في مواجهة هيمنة سياسة القطب الواحد والتيارات المساندة له والمنفذة لإجراءاته في عالمنا العربي.
لذلك فقد كان للنقاش الذي دار دلالات اجتماعية وسياسية مهمة، ولم يخلُ من ترددات الحنين إلى الماضي القريب، عندما كانت كلمة الوفود النسائية العربية والوفد الفلسطيني على وجه الخصوص في المؤتمرات العالمية الثلاثة السابقةتحظى بالتأييد والتبني من قبل وفود العالم الأخرى، وتحديدا القادمة مما يسمى بالعالم الثالث.
فبين أعوام 1975م (الذي شهد أول مؤتمر عالمي للمرأة على أرض المكسيك) و1995، جرت مياه كثيرة، وتغيرت أحوال العالم والناس، ووجد المضطهدون أنفسهم تحت مطرقة السياسة الأمريكية أو ما يعرف بهيمنة القطب الواحد، ومن الطبيعي أن تتأثر الحركة النسوية العربية وما تمثله من شرائح اجتماعية واسعة على امتداد الوطن العربي، بكل التطورات العربية والعالمية؛ فقد شهدنا في ورش العمل والمنتديات في إطار التحضير للمؤتمر ظواهر جديدة.. أكثر من الإشارات وأوضح كثيرا من التلميحات.. كان التدخل العالمي مخيفا إلى درجة محاولة فرض هوية جديدة للحركة النسوية العربية، وبرنامج جديد قائم على التسليم بواقع الهيمنة السياسية للقطب الواحد والتغاضي عن محاربة العنصرية والاحتلالات الأجنبية.
< فهل كانت الحركة النسوية العربية جاهزة للتعامل مع هذه المتغيرات؟
< وهل كانت تملك إستراتيجية مقاومة لأجندة الشركات العالمية العابرة للقارات؟
< وابتداء نطرح السؤال الأهم: هل فوجئت الحركة النسوية العربية بنتائج هذه التحولات منذ عام 1975 وحتى 1995؟
غياب الإستراتيجية
من موقع المشارك ليس فقط في حضور المؤتمر، وإنما في ميدان العمل النسوي الفلسطيني والأردني والإطلالة على أوضاع المنظمات النسوية الأخرى في العالم العربي، أقول: إن الحركة النسوية العربية لم يكن لديها إستراتيجية موحدة لمجابهة أضرار التحولات السياسية والاقتصادية على عالمنا العربي، لا بل تضعضعت أبنيتها كثيرا في أتون الخلافات العربية الرسمية والتصدعات التي أحدثتها الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، وأولها اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1979.
كان ذلك واضحا في أداء الوفود النسائية الرسمية على وجه الخصوص التي وقعت تحت ضغوط أمريكية شديدة واستجابت في معظمها لمثل هذه الضغوط، مثلما توضح في النتائج النهائية للمؤتمر.
يلزمنا هنا عودة تاريخية قليلا إلى الوراء من أجل تتبع مغزى التراجع في مضمون القرارات التي اتخذت في المؤتمرات العالمية الأربعة، وذلك بالنسبة للمرأة العربية والفلسطينية بشكل خاص.. إذ نجحت الوفود العربية في المؤتمر الأول الذي عقد في المكسيك عام 1975 باستصدار قرار عالمي يدين الصهيونية بصفتها حركة عنصرية معيقة للتقدم والتنمية.. فماذا جرى في المؤتمرات الثلاثة التالية وصولا إلى مؤتمر بيكين عام 1995م؟
الأجندة النسوية العربية
تأتي أهمية استحضار هذه الوقائع التاريخية كونها ما زالت تؤثر على أجندة الحركة النسوية العربية، كما أكتب بأمل أن نسهم في معالجة الواقع الذي نعيش وضمن القنوات المتاحة بقدر أكبر من الشمولية والانفتاح، بل وقدر أقل من الانغلاق وإدارة الظهر للمستجدات.. فالادعاء بالتنكر للجديد وعدم التعامل معه يعني من وجهة نظري تمريره والتسليم بحجم أضراره وتأثيراته، أما الدعوة للتكيف مع الجديد تحت شعار الواقعية، فهو الهزيمة بعينها.. وهنا أقول: إن المطلوب هو التعامل مع التطورات الكبيرة والنوعية التي حدثت في عالمنا على أسس واضحة، وفي إطار إستراتيجية الحفاظ على المكتسبات والدفاع عنها، وفي نفس الوقت مقاومة الأضرار الناجمة عن سياسة عولمة الثقافة، والمنظمات غير الحكومية، بل والحركة الشعبية العالمية على مقاس مصالح الشركات العالمية العابرة للقارات.
فما هي المحاور الرئيسية التي فرضت نفسها على أجندة الحركة النسوية العربية؟ وما هو حجم ضررها على تقدم المرأة العربية وتطور دورها في مجتمعاتها؟
1) فصل قضايا المرأة عن مجمل القضايا السياسية:
أوقع أصحاب هذا الاتجاه أنفسهم في مستنقع الشكوك بأهدافهم وذلك بسبب الحقائق المريرة التي فرضت ولا تزال تفرض نفسها يوميا؛ فكيف يمكنعزل الأوضاع الاجتماعية التي تعيشها المرأة الفلسطينية مثلاً عن واقع الاحتلال العنصري، وكذلك المرأة اللبنانية في الجنوب، وواقع المرأة المصرية بعد عقد معاهدة كامب ديفيد وعمليات التطبيع وواقع المرأة العربية عموما التي تعيش ضمن شرط سياسي غير ديمقراطي وغير قائم على التعددية والاعتراف بالآخر؟
أعود هنا لأقول: إن أصحاب هذا الاتجاه اشتدت دعوتهم للتركيز على قضايا المرأة الاجتماعية بمعزل عن الواقع السياسي منذ أوائل التسعينيات (لاحظ التوقيت الذي شهد بدايات انهيار القطب الثاني في العالم)، وتحت حجج مختلفة لعل أكثرها طرافة وخبثا في نفس الوقت هو الحرص على التركيز على الشئون الاجتماعية للمرأة المهملة في غمرة القضايا السياسية والوطنية العامة.
ولم نحصل في أي مرة في النقاشات التي جرت على جواب واحد للأسئلة المهمة؛ إذ كيف يمكن العمل من أجل تقدم المرأة على الصعيد الاجتماعي والإنساني في ظل واقع سياسي متخلف وغير ديمقراطي وغير مستعد للتجاوب مع مشاريع القرارات والقوانين والتشريعات التي تسهم في تقدم وضع المرأة العربية؟؟
مخاطر الفصل
إن خطورة الدعوة لفصل القضايا الاجتماعية عن السياسية تتمثل في مسألتين مهمتين:
أ- أولاهما عزل طاقة النساء عن التأثير في القضايا السياسية في بلدانها وتحديدا في بلداننا العربية التي تعاني من الاحتلال العنصري وتداعياته في كافة أرجاء الوطن العربي، ناهيك عن تراجع هوامش الحريات الديمقراطية أو انعدامها في بعض البلدان الأخرى.
ب- والثانية توجيه جهود المرأة العربية ضد الرجل/ وليس ضد النظام الذي يحكم العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولا يخفى على أحد أن نتائج مثل هذه البرامج تكون وبالا على وحدة المجتمع الواحد وأبناء الوطن الواحد.
على أي حال فقد لاقت هذه الدعوات فشلاً ذريعا على الأرض، بسبب الحقائق اليومية التي فرضت نفسها والكفيلة بالرد العملي على مثل هذه الاتجاهات الغريبة والمستهينة بطاقات ووعي وخبرات المرأة العربية.
ولكن من الضروري التنويه أيضا إلى أن عددًا لا يستهان به من المنظمات النسائية العربية غير الحكومية تعمل بشكل غير صريح على تنفيذ مفردات برنامج (فصل القضايا الاجتماعية للمرأة)، وذلك من خلال تبني عناوين وخطط عمل مجزوءة ونسج علاقات نفعية مع شرائح اجتماعية فقيرة ومهمشة في الوطن العربي.
عولمة المؤسسات
2) عولمة المؤسسات الاجتماعية النسوية/ في خدمة سياسة عولمة الاقتصاد ونهب ثروات البلدان النامية والفقيرة:
بعد الحرب العالمية الثانية، تشكلت الاتحادات النسائية العالمية على أساس مقاومة الاستعمار والسلم العالمي والتنمية، وكان الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي “الأندع” هو التعبير والمرجعية للحركة النسوية العالمية، ولكن الدعوات القائمة الآن إلى عولمة المؤسسات النسوية، والتهافت على تشكيل مؤسسات جديدة مرتبطة بمثيلاتها في الغرب تحديداً، فإنما تستهدف إعادة هيكلة هذه الاتحادات وإعادة النظر في برامجها على أسس أخرى تماما وتختلف نوعيا عما كانت عليه في “زمن التوازن الدولي” -أي استبعاد مقاومة الاحتلال والعنصرية- على اعتبار أن هذه من شئون الساسة الكبار أصحاب رءوس الأموال والذين يتحكمون بصناعة القرار في كل زاوية في العالم.
إن ربط منظماتنا النسوية ببرامج واستهدافات مثيلاتها في العالم على هذه الأسس هو وسيلة من أجل السيطرة على حركتها والحد من نهوضها المحتمل ومشاركتها في الحياة العامة.
بالتأكيد فإنني لا أزكي سياسة الانغلاق على العالم الخارجي، ولا أضع كل المنظمات النسائية العالمية في سلة واحدة، ولكن هذه العلاقة يجب أن تضمن استقلالية البرامج وحرية اتخاذ القرار في الشأن المحلي والوطني.
الذي تريده سياسة عولمة المؤسسات النسوية والاجتماعية هو أداء وظيفة محلية تتمثل بالعمل على استقرار الوضع الاجتماعي المتفجر بسبب سياسة القهر والنهب المتواصلة، بما يتيح المجال واسعا “للساسة الكبار” بالعمل على تنفيذ أهدافهم على حساب شعوبنا دون مقاومة أو بأقل قدر من التكاليف الاجتماعية والسياسية.
يعني بصورة أوضح أن هؤلاء يريدون منا أن نكون حراسا على سياساتهم العدوانية ضد شعوبنا وحركة تقدم مجتمعاتنا ونهب ثرواتنا بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي القائم: ديمقراطيا كان أم غير ذلك.
خاتمة واستخلاص
أعتقد أن هذه هي المؤشرات الأكثر خطورة في اختراق بنية الحركة النسوية العربية. وهنا لا بد من دعوة صادقة ومخلصة وضرورية للتحرر من سطوة المفاجأة والتغييرات الكبيرة ووضع إستراتيجية موحدة للتعامل مع هذه المتغيرات؛ إذ إن أحد الأسباب الكبيرة التي أوصلت حركتنا إلى هذا القدر من الضعف والتفكك هو عدم اليقظة وغياب وجود إستراتيجيات دفاعية منذ عام1975، أي منذ المؤتمر الأول العالمي للمرأة الذي حظينا فيه بنصيب الأسد؛ فمؤشرات التراجع كانت واضحة في السنوات اللاحقة، ولكن الحركة النسوية العربية لم تفعل حيال ذلك شيئا، وبقيت تنتظر إلى أن وصلنا إلى بيكين 1995م حيث كانت السيدة الأمريكية الأولى في المؤتمر الرسمي، تضع القرارات، وتتدخل في كل صغيرة وكبيرة دون أن تتمكن الوفود الأخرى من أي فعل أو تأثير.
ألخص في النهاية: إننا مدعوون قبل الذهاب إلى نيويورك للمشاركة في الاجتماع 48 للجنة المرأة المزمع عقده في الفترة من : 1- 12 مارس 2004 إلى:
1- توحيد جهودنا وطاقاتنا على المستويات الوطنية أولا على قاعدة استيعاب التعدد وعدم إنكار الآخر، والتوافق على الجوامع المشتركة الخاصة بأوضاع المرأة في بلداننا في إطار الظروف السياسية الخاصة بكل بلد منها.
2- الارتقاء بدرجة التنسيق بين المؤسسات النسوية العربية على نفس الأسس والقواعد التي تعترف للمرأة العربية بحقها في المشاركة السياسية في كل عمليات التغيير القائمة في مجتمعاتنا.
2- اعتماد مبدأ الحوار بين المؤسسات النسوية العربية، خصوصا بعد المراحل المعقدة والمتغيرات الكبيرة التي شهدتها بلداننا نتيجة للمتغيرات العالمية. فليكن الحوار بداية.. ولتكن الإستراتيجية الموحدة والعمل القاعدي المنظم في أوساط النساء هدفا منشودا من أجل المشاركة المنهجية في عملية التغيير والتقدم الاجتماعي.
——–
(ü) عضوة الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية – مقيمة في الأردن