المطلوب استرجاع هيبة المبادئ في النفوس


تأمَّل هذه الأمثلة :

1- لقد ذكرت كتُب السيرة والسنة أن أحد الأعراب أسلم يوم كان الرسول  محاصرًا لخيبر، فذهب ذات يوم في سَرْحٍ للمسلمين، وعندما رجع في المساء أعطاه المسلمون حَقَّه من غنائم الفتوحات في ذلك اليوم، فقال لهم : ما هذا؟! فقالوا له : هذا نصيبك من الغنائم، فذهب بذلك النصيب إلى رسول الله ، وقال له : ما هذا يا رسول الله؟! قال له : ذلك نصيبك.

فقال الأعرابي : “ما على هذا اتَّبَعْتُك!! ولكن اتَّبَعْتُكَ على أَنْ أُضْرَبَ بِسَهْمٍ هُنَا -وأشار إلى حَلْقِهِ – فَأَدْخُلَ الجنة” فقال له  : “إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ اللَّهُ”.

2- لقد ثبت في السنة الصحيحة التي تكاد تصل إلى حَدِّ التواثر : أن الغامدية ]، عندما زَلَّتْ جاءتْ عند رسول الله وهي تقول : “طَهِّرْني يَا رَسُولَ اللَّهِ”. ولكن الرسول  قابلها بنوع من الإعراض كأنه يريد أن يقول لها : اذهبي وتوبي واسْتُري فاحشتك، فالله يتوبُ على من تاب. إلا أن المرأة أَصَرَّتْ على التطهر فقالت له : إني حاملٌ، فقال لها : اذهبي حتى تضعي حَمْلَكِ، وعندما وَضَعَتْ حملها جاءت، وقالت له “طهرني يا رسول الله” فقال لها : ارجعي حتى تفطميه، وعندما أرضعتْه وفطمته جاءت بصبيها وبيده كسرة من الخبز، وهي تقول : “طَهِّرْنِي يا رسول الله” فلم يسَعْه  إلا أن يُنَفِّد فيها الرجم ويقول “لقد تابت تَوْبَةً تَعْدِلُ تَوْبَةَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ. أو كما قال .

3- لقد ثبت أن أبا بكر ] كان شديد الجوع فأكلَ ما قدمه له مولاه بدون أن يسأله عن مصدره، وعندما عرف بعد الأكل أن الطعام الذي أكله فيه شبهة صار يُدْخِل أصبعه في حلقه ويتقيأ حتى أفرغ بطنَهُ منه، ثم قال : ” وَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَخْرُجْ إلاَّ بِنَفْسِي لأَخْرَجْتُك”.

تَأَمَّلْ هذه الأمثلة، واقْرَأْ الأحداث التي تقع بيننا اليوم مــــن مثل :

1- هزَّة أرضية تدفن المئات من الناس أحياءً، ولا توليها أجهزة الإعلام أي اعتبار، ولا يحضرها المسؤولون إلا بعد مرور العشرات من الساعات، ويبيتُ الناس في الليلة الثانية بالعراء تحت رحمة زخات الأمطار ولسعات البرد، فأي قلوب -رحيمة- يملكها المسؤولون الإقليميون والمحليون والوطنيون؟ وأي تجهيز نتوفر عليه، وأي مواصلات نتوفر عليها في قرن الطفرات الإعلامية والتواصلية؟

2- ينجح فريق كروي في الوصول إلى نصف النهاية فيحتفل المحبون للكرة أو الرياضة ـ كذبا ـ بإحياء الليلة في المقاهي والحانات، ونهب الحافلات والشاحنات، وملء الشوارع وقطع الطرقات.

فهل ذلك يعتبر إقامة للاحتفالات أم إقامة للمآتم على غياب الأمن الأخلاقي بمفهوميه الإسلامي والحداثي.

3- يتجرأ بعض من يسمُّون أنفسهم ـ مفكرين ـ على التكلم عن القرآن ليس بصفته وحيا مقدسا، ولكن بصفته كلاما ككل الكلام البشري يحتاج إلى إعادة التنظيم والترتيب، ويتمنى ألا يموت حتى يعيد ترتيبه وتبويبه وتعديله، بحيث يجعل القصص في باب، وأحكام التشريع في باب، والأخلاق في باب، ويحذف ما انتهت صلاحيته، كما تحذف بعض مواد الدساتير البشرية.

ينشر هذا المفكر (الإسلامي) كلامه ويا ويل من أشار إليه بالطعن والنقد من منظمات حقوق الإنسان وحماة الحرية، وتنشر ذلك صحفنا ولا حسيب ولا رقيب، وأَنْعِمْ وَأَكْرِمْ بحرية النشر والتعبير المتفلتة من كل القيود الإنسانية والدينية والأخلاقية.

4- يتكلم الكثير من المسلمين الحداثيين عن محمد  كأنه رجل عصابة يضمر للناس شرا مستطيرا، وليس رسول رسالة تحمل للناس خيرا كثيرا، فلا صلاة عليه ولا تسليم، ولا تعظيم ولا احترام، وإذا ذَكَروا الحثالة من البشر الذين أسَّسُوا ويؤسسون لخراب البشر مَجَّدوا وعَظَّمُوا وركعوا وسجدوا. فهل كان حبيب المسلمين  يقصد هؤلاء وأمثالهم عندما أخبر : “أن جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السلام قال له : من ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عليكَ، فَسُحْقًا لَهُ، أو فَبُعْدًا لَهُ، أو كما قال” فقلتَ “آمين” ونحن نقول معك : آمين، وسوف يقول كل المسلمين معك : آمين، إلى يوم الدين. فهم مسحوقون، مُبعدون، ملعونون إلى يوم الدين، وإن كانوا لا يشعرون.

5- الكثير من المسلمين الحداثيين والمسلمات الحداثيات يتكلمون عن قول الله تعالى : {للذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} وقوله تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاءِ} وقول الرسول  : “لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَداً بِالسُّجُود لأَحَدٍ لأَمَرْتُ المَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَأ” وقوله  “إذا بَاتَ الزَّوْجُ غاضبا على زوجته باتت الملائكة تَلْعَنُهَا” إلــى غير ذلك من الآيات والأحاديث.

يتكلمون عن القرآن والحديث كأنه ليس كلام الله عز وجل، ولاكلام رسوله  ولكنه كلام إنسان أقل مستوى من البشر العادي، ويتكلمون عن كل ذلك وأكثر من ذلك لا على أنه دين، ولكن ينظرون إلى ذلك كأنه مذهب بشري جُرِّبَ ففشل وعليه أن يفسح المجال لفوضى الحداثة وعُهرها.

فالقوامة تَحَكُّم ذكوري، وقيد استبدادي ينبغي أن يُكسَرَ في عصر التحكم الشهواني. والطاعة الزوجية لا معنى لها في عصر الطاعة الشيطانية. وأخذ المرأة نصف ما يأخذه الرجل من الإرث مقابل إثقال كاهله بالأعباء والنفقات والواجبات لا معنى له في عصر إغراق المرأة في المصانع والمعامل والحقول وغرفات الفنادق السياحية، وغير ذلك من ميادين اللُّقم المغموسة في الخنا والحرام.

إن قَلْبَ المفاهيم، وتَغَيُّر النظرات للثوابت من المبادئ والقيم والمقدسات هو الشيء الخطير الذي نجح فيه الغزو الإلحاديُّ المادِّي حيث أفقد القدسي قدسيته، والثابتَ ثباتَه، والأصيلَ أصالتَه، فأصبحت الأجيال المُلَقَّنَةُ ثقافة الميوعة الفكرية والدينية تعيش بدون تمييز بين الأصيل من المبادئ وزائفها، بين الدين والمذهب، بين السياسة الراشدة والسياسة العابثة، بين الوحي والفلسفة، وبين الفلسفة والهرطقة، بين العَمالة والوطنية، بين الاجتهاد والهذيان، بين الديمقراطية والمتاجرة ببريقها، بين القانون والشريعة، بين الطاعة المُبصرة والخنوع الذليل.

إن شعوبنا ـ بناء على هذا الخلط المتعمد ـ في حاجة ماسة إلى ثقافة أصيلة تسترجع استشعار قدسية المبادئ وهيبتَها في النفوس قبل الإقدام على الممارسة والتنفيذ، فالتي كانت تطلب الطهارة بالحد كانت تستشعر قدسية تلك الطهارة وسموَّها في أعماق شعورها، والذي كان يطلب الشهادة كان يستشعر قدسية الشهادة ومنزلتها عند الله تعالى. أما بدون استرجاع الهيبة في النفوس فلا فلاح لهذه الشعوب مهما تترَّسَتْ بالقوانين والعساكر وأبواق الدعايات الإعلامية المضحكة.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>